فصل .
ولا يلبس المحرم القميص الفرق بين المخيط وما في معناه وبين غير ذلك أن الأول ارتفاق وتجمل وزينة والثاني ستر عورة وترك الأول تواضع لله وترك الثاني سوء أدب كذا في الحجة .
ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين وما مسه الورس والزعفران لحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما قال : [ سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما يلبس المحرم ؟ فقال : لا يلبس المحرم القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ] قال القاضي عياض : أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر قال : [ قال رسول الله A : من لم يجد نعلين فليلبس خفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل ] وفي الصحيحين نحوه من حديث ابن عباس وأخرج أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه من حديث ابن عمر [ أن النبي A قال : لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين ] زاد أبو داود والحاكم والبيهقي [ وما مس الورس والزعفران من الثياب ] والقفاز بضم القاف وتشديد الفاء وبعد الألف زاي ما تلبسه المرآة في يدها فتغطي أصابعها وكفها عند معاناة شئ .
ولا يطيب إبتداء ويجوز له أن يستمر على الطيب الذي كان على بدنه قبل الإحرام فذلك هو الراجح جمعا بين الأدلة وقد أوضح الماتن ذلك في شرح المنتقى وحاشية الشفاء وغيرهما قال صاحب سبل السلام في منسكه : ولما أراد الإحرام اغتسل لإحرامه ثم طيبته عائشة بذريرة وطيب فيه مسك في يديه ورأسه حتى كان وبيص المسك يرى في مفارقه ولحيته A ثم استدامه ولم يغسله انتهى .
ولا يأخذ من شعره وبشره إلا لعذر لحديث كعب بن عجرة في الصحيحين وغيرهما قال : [ كان بي أذى من رأسي فحملت إلى النبي A والقمل يتناثر على وجهي فقال : ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى أتجد شاة ؟ قلت : لا فنزلت الآية { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } قال : هو صوم ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين ] وقد تقدم الكلام على إزالة التفث فليراجع .
ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل لنص القرآن الكريم { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } وهذه الأمور لا تحل للحلال ولكنها مع الإحرام أغلظ وأخرج الشيخان من حديث أبي هريرة قال : [ سمعت رسول الله A يقول : من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ] قال الحافظ المنذري : الرفث يطلق ويراد به الجماع ويطلق ويراد به الفحشاء ويطلق ويراد به خطاب الرجل المرأة فيما يتعلق به الجماع وقد نقل معنى هذا الحديث كل واحد من هذه الثلاثة عن جماعة من العلماء قلت : فيحرم الجميع وقال مالك الرفث إصابة النساء والله تعالى أعلم قال الله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } والفسوق الذبح للأنصاب والله تعالى أعلم قال تعالى : { أو فسقا أهل لغير الله به } والجدال في الحج أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة بقزح وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة فكانوا يتجادلون يقول هؤلاء نحن أصوب ويقول هؤلاء نحن أصوب فقال الله تعالى : { لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم } فهذا الجدال في الحج فيما ترى والله تعالى أعلم وأما فساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة فإن كان الدليل على هذا الفساد أقوال الصحابة فمع كون الروايات عنهم إنما هي بطريق البلاغ كما ذكره مالك في الموطأ وليس ذلك بحجة لو كان في المرفوع فضلا عن الموقوف فقد عرفت غير مرة أن قول الصحابي ليس بحجة إنما الحجة في إجماعهم عند من يقول بحجية الإجماع وأما الإستدلال على ذلك بما أخرجه أبو داود في المراسيل بإسناد رجاله ثقات [ أن رجلا جامع امرأته وهما محرمان فسألا النبي A فقال : اقضيا نسككما واهديا هديا ] فالمرسل لا حجة فيه على ماهو الحق وأما الإستدلال بقوله تعالى : { فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج } فعلى تسليم أن الرفث هو الجماع غاية ما يدل عليه المنع منه لا أنه يفسد الحج وإلا لزم في الجدال أنه يفسد الحج ولا قائل بذلك والمروي في هذا الحديث المرسل هو إيجاب الهدي عليهما والهدي يصدق على الشاة والبقرة والبدنة ولا وجه لإيجاب أشد ما يطلق عليه إسم الهدي ولا حجة فيما رواه في الموطأ عن ابن عباس [ أنه سئل عن رجل واقع أهله وهو بمنى قبل أن يفيض فأمره أن ينحر بدنة ] ولا يصح تقييد المطلق به ولا تفسير المجمل .
فالحاصل : أن البراءة الأصلية مستصحبة ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تقوم به الحجة وليس ههنا ما هو كذلك فمن وطيء قبل الوقوف أو بعده قبل الرمي أو قبل طواف الزيارة فهو عاص يستحق العقوبة وتغفر له بالتوبة ولا يبطل حجه ولا يلزمه شئ ومن زعم غير هذا فعليه الدليل المرضي فليس بين أحد وبين الحق عداوة .
ولا ينكح ولا ينكح ولا يخطب لحديث عثمان الثابت في مسلم وغيره [ أن رسول الله A قال : لا ينكح المحرم ولاينكح ولا يخطب ] وفي الباب أحاديث وأما ما في الصحيحين وغيرهما [ أن النبي A تزوج ميمونة وهو محرم ] فقد عارضه ما في صحيح مسلم وغيره من حديث ميمونة [ أن النبي A تزوجها وهو حلال ] وما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه من حديث أبي رافع [ أن رسول الله A تزوج ميمونة حلالا ] وكان أبو رافع السفير بين رسول الله صلى الله و سلم عليه وبين ميمونة وهما أعرف بذلك وعلى فرض صحة خبر ابن عباس ومطابقته للواقع فلا يعارض الأحاديث المصرحة بالنهي بل يكون هذا خاصا بالنبي A كما قرر الماتن في مؤلفاته أن فعله A إذا خالف ما أمر الأمة به أو نهاهم عنه يكون مختصا به قال في الحجة البالغة : اختار أهل الحجاز من الصحابة والتابعين والفقهاء أن السنة للمحرم أن لا ينكح ولا ينكح واختار أهل العراق بأنه يجوز له ذلك ولا يخفى عليك أن الأخذ بالإحتياط أفضل وعلى الأول السر فيه أن النكاح من الارتفاقات المطلوبة أكثر من الصيد ولا يقاس الإنشاء على الإبقاء لأن الفرح والطرب إنما يكون في الإبتداء ولذلك يضرب بالعروس المثل في هذا الباب دون البقاء انتهى .
ولا يقتل صيدا فإن الله تعالى حرم على المحرم صيد البر مادام حرما والمراد من الصيد عند الشافعي كل صيد مأكول بري فذبح الأنعام ليس منه وكذا ما ليس بمأكول وكذا الصيد البحري وعند أبي حنيفة غير المأكول قد يكون صيدا .
ومن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل لما ورد بذلك القرآن الكريم { ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام } أقول ههنا أمران : أهدهما إعتبار المماثلة الثاني حكم العدلين وظاهره أن العدلين إذا حكما بغير المماثل لم يلزم حكمهما لأنه قال يحكم به أي بالمماثل وحق العدالة أن لا يقع من صاحبها الحكم بغير المماثل إلا لغلط أو طرو شبهة بأن المعتبر في المماثلة هو هذا الوصف دون هذا الوصف والواقع بخلافه ثم الظاهر أن العدلين إذا حكما بحكم في السلف لا يكون ذلك الحكم لازما للخلف بل تحكيم العدلين ثابت عند كل حادثة تحدث في قتل الصيد إذا تقرر لك هذا فاعلم أن جعل الظبي مشبها بالشاة دون التيس مخالف للمشاهد المحسوس فإن الظبي يشبه التيس في غالب ذاته وصفاته ولا مشابهة بينه وبين الشاة في غالب ذاته وصفاته وكذلك الحمامة فإنها لا تشبه الشاة في شئ من الأوصاف وكذلك سائر الطيور ليس بمشابه للشاة في شئ وإذا صح عن بعض السلف أنه حكم في شئ منها بشاة فذلك غير لازم لنا لما عرفت من أن حكم العدلين لا بد أن يكون بالمثل كما صرح به القرآن الكريم .
ولا يأكل ما صاده غيره لحديث الصعب بن جثامة في الصحيحين وغيرهما [ أنه أهدى إلى رسول الله A حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه فلما رأى في وجهه قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ] وأخرج مسلم نحوه من حديث زيد بن أرقم وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي قتادة [ أن النبي A أكل من صيده الذي صاده وهو حلال وكان النبي A محرما فأكل عضد حمار الوحش الذي صاده ] وجمع بين حديث الصعب وحديث أبي قتادة المتفق عليه بأنه A إنما امتتنع من أكل صيد الصعب لكونه صاده لأجله وأكل من صيد أبي قتادة لكونه لم يصده لأجله فلو كان صيد الحلال حراما على المحرم لما أكل منه A وقرر الصحابة على الأكل منه فهذا يدل على جواز أكل المحرم لصيد الحلال ويدل على ذلك أيضا حديث جابر عند أحمد وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي [ أن النبي A قال : صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ] وهذا الحديث وأن كان فيه مقال فهو لا يقدح في انتهاضه للإستدلال وهو نص في الفرق باعتبار القصد وعدمه .
إلا إذا كان الصائد حلالا ولم يصده لأجله ولا بد من ضبط الصيد فإن الإنسان قد يقتل ما يريد أكله وقد يقتل ما لا يريد أكله وإنما يريد به التمرن بالإصطياد وقد يقتل ويريد أن يدفع شره عنه أو عن أبناء جنسه وقد يذبح بهمية الأنعام فأيها الصيد ؟ أخبر A أن المحرم منه ما صاده المحرم أو صيد لأجله وما لم يكن كذلك فإنه حلال كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث جابر قال : [ قال رسول الله A صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ] وفي لفظ [ أو يصد لكم ] فما ورد من الأحاديث في ذلك تحريا وتحليلا حمل على ذلك التفصيل .
ولا يعضد من شجر الحرم إلا الإذخر لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما قال [ قال رسول الله A يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرام لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه ولا ينفر صيده ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف قال العباس إلا الإذخر فإنه لا بد لهم منه فإنه للقيون والبيوت فقال : إلا الإذخر ] وأخرجا نحوه أيضا من حديث أبي هريرة .
ويجوز له قتل الفواسق الخمس لحديث عائشة في الصحيحين وغيرهما قالت : [ أمر رسول الله A بقتل خمس فواسق في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ] وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عمر قال : [ قال رسول الله A : خمس من الدواب ليس في قتلهن جناح ] وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر زيادة [ الحية ] وكذلك في حديث ابن عباس عند أحمد بإسناد فيه ليث بن أبي سليم قال البغوي اتفق أهل العلم على أنه يجوز للمحرم قتل هذه الأعيان المذكورة في الخبر ولا شئ عليه في قتلها وقاس الشافعي عليها كل حيوان لا يؤكل لحمه فقال : لا فدية على من قتلها في الإحرام أو الحرم .
وصيد حرم المدينة وشجره كحرم مكة لحديث علي قال : [ قال رسول الله A المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ] وهو في الصحيحين وغيرهما وفي الصحيحين أيضا حديث عباد بن تميم أن رسول الله A قال : [ أن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة ] وفي الباب أحاديث في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة قال ابن القيم : وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيا في أن المدينة حرم يحرم صيدها ودعوى أن ذلك خلاف الأصول ومعارضتها بالمتشابه من قوله A : يا أبا عمير ما فعل النغير [ ويالله العجب أي الأصول التي خالفتها هذه السنن وهي من أعظم الأصول فهلا رد حديث أبي عمير لمخالفته لهذه الأصول ونحن نقول : معاذ الله أن نرد لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدا وحديث أبي عمير يحتمل أربعة أوجه : قد ذهب إلى كل منها طائفة أحدها أن يكون متقدما على أحاديث تحريم المدينة فيكون منسوخا الثاني أن يكون متأخرا عنها معارضا لها فيكون ناسخا الثالث أن يكون النغير مما صيد خارج المدينة ثم أدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود الرابع أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره كما رخص لأبي بردة في التضحية بالعناق دون غيره فهو متشابه كما ترى فكيف يجعل أصلا يقد ه على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلا وجها واحدا انتهى .
إلا أن من قطع شجرة أو خبطه كان سلبه حلالا لمن وجده لحديث سعد بن أبي وقاص ] أنه ركب إلى قصره بالعقيق فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه فسلبه فما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أوعليهم ما أخذ من غلامهم فقال : معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله A وأبى أن يرد عليهم [ أخرجه مسلم وأحمد وفي لفظ لأحمد وأبي داود والحاكم وصححه ] أن رسول الله A قال : من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه [ .
أقول : عندي أنه لا يجب على من قتل صيدا أو قطع شجرا من حرم المدينة لا جزاء ولا قيمة بل يأثم فقط ويكون لمن وجده يفعل ذلك أخذ سلبه ولا يجب على الحلال في صيد حرم مكة ولا شجره شئ إلا مجرد الإثم وأما من كان محرما فعليه الجزاء الذي ذكره الله D إذا قتل صيدا وليس عليه شئ في شجر مكة لعدم ورود دليل تقوم به الحجة وما يروى عنه A أنه قال في الدوحة الكبيرة إذا قطعت من أصلها بقرة ] لم يصح وما يروى عن بعض السلف لاحجة فيه .
والحاصل : أنه لا ملازمة بين النهي عن قتل الصيد وقطع الشجر وبين وجوب الجزاء أو القيمة بل النهي يفيد بحقيقته التحريم والجزاء والقيمة لا يجبان إلا بدليل ولم يرد دليل إلا قول الله تعالى { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } الآية وليس فيها إلا ذكر الجزاء فقط فلا يجب غيره .
ويحرم صيد وج بفتح الواو وتشديد الجيم إسم واد بالطائف وشجره لحديث الزبير [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله D ] أخرجه أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وحسنه المنذري وصححه الشافعي وأخرج أبو داود من حديث الزبير بن العوام بلفظ [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال صيد وج محرم ] وحسنه الترمذي وصححه الشافعي وقد ذهب إلى ما في الحديث الشافعي وهو الحق ولم يأت من قدح في الحديث بما يصلح للقدح المستلزم لعدم ثبوت التكليف بما تضمنه