فصل .
وعند قدوم الحاج مكة يطوف للقدوم لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما دخل المسجد الحرم بدأ بالطواف ولم يصل تحية المسجد فإن تحية المسجد الحرام الطواف بالبيت قد استفاض عن الصحابة أن أول شئ كانوا يبدأون به الطواف بالبيت ثم لا يحلون رواه الشيخان ولا يسن طواف القدوم لمن أحرم من مكة وعليه أهل العلم : في المنهاج يختص طواف القدوم بحاج دخل مكة قبل الوقوف سبعة أشواط الأقرب : والله أعلم أن الطواف يوافق الصلاة فمن شك هل طاف ستة أشواط أبو سبعة أشواط فليطرح الشك وليتحر الصواب فإن أمكنه ذلك عمل عليه وإن لم يمكنه فليبن على الأقل كما ورد بذلك الدليل الصحيح وشرع الرقل في الطواف في الأصل لإغاظة المشركين كما في حديث ابن عباس قال : [ قدم رسول الله A وأصحابه فقال المشركون : أنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب فأمرهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم ] متفق عليه وفي الصحيحين من حديث ابن عمر [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا ] وفي لفظ [ رمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحجر ثلاثا ومشي أربعا ] وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عمر [ أنه قال فيم الرملان الآن والكشف عن المناكب وقد أطي الله الإسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك لاندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ] وقد ذهب الجمهور إلى فرضية الطواف للقدوم وقال أبو حنيفة سنة وروي عن الشافعي أنه كتحية المسجد والحق الأول لقوله تعالى : { وليطوفوا بالبيت العتيق } .
يرمل في الثلاثة الأولى ويمشي فيما بقى قال في الحجة : وأول طواف بالبيت رمل واضطباع وبعده سعي بين الصفا والمروة وكان عمر أراد أن يترك الرمل والاضطباع لانقضاء سببهما ثم تفطن إجمالا أن لهما سببا آخر غير منقض فلم يتركهما .
ويقبل الحجر الأسود لما في الصحيحين من حديث عمر [ أنه كان يقبل الحجر ويقول : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله A يقبلك ما قبلتك ] وأخرج أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس قال : [ قال رسول الله A : يأتي هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بحق ] وفي الباب أحاديث وأما الإبتداء بالحجر فلأنه وجب عند التشريع أن يعين محل البداية وجهة المشيء والحجر أحسن مواضع البيت لأنه نازل من الجنة واليمين أين الجهتين .
أو يستلمه وثبت عنه A في إستلامه ثلاث صفات : أحدها تقبيله وثانيها أنه وضع يده ثم قبلها وثالثها أنه يشير إليه بالمحجن ولم يقل طوافي لكذا ولا إفتتحه بالتكبير كما يفعله كثير ممن لا علم عنده وذلك من البدع المنكرة .
يمحجن ويقبل المحجن لما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : [ طاف النبي A في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ] وأخرج نحوه مسلم من حديث أبي الطفيل وزاد [ ويقبل المحجن ] .
ونحوه أخرج أحمد من حديث عمر [ أن النبي A قال له ياعمر : إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلة فاستلمه وإلا فاستقبله وهلل وكبر ] وفي إسناده مجهول .
ويستلم الركن اليماني لما أخرج أحمد والنسائي عن ابن عمر أن النبي A قال : [ إن مسح الركن اليماني والركن الأسود يحط الخطايا حطا ] وفي إسناده عطاء بن السائب وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر قال : [ لم أر النبي A يمس من الأركان إلا اليمانيين ] وأخرج البخاري في تاريخه وأبو يعلي من حديث ابن عباس قال : [ كان رسول الله A يقبل الركن اليماني ] وفي إسناده عبد الله بن مسلم بن هرمز وهو ضعيف وأخرج أحمد وأبو داود من حديثه [ أن النبي A كان يقبل الركن اليماني ويضع خده عليه ] قال صاحب سبل السلام وكان يقول عند إستلامهما : بسم الله والله أكبر وكان كلما أتى الحجر يقول : الله أكبر ولم يحفظ له دعاء معين في الطواف إلا أنه أخرج أبو داود وابن حبان أنه يقول بين الركنين [ ربنا أتنا في الدنا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ] وفي الطواف [ اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائب لي بخير ] أخرجه الحاكم وفي مصنف ابن أبي شيبه [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ] والموضع موضع دعاء فيختار فيه ما شاء انتهى قلت : إنما خص الركنين اليمانيين بالإستلام كما ذكره ابن عمر من أنهما باقيان على بناء إبراهيم دون الركنين الآخرين فإنهما من تغيرات الجاهلية وإنما اشترط له شروط الصلاة كما ذكره ابن عباس لأن الطواف يشبه الصلاة في تعظيم الحق وشعائره فحمل عليها .
ويكفي القارم طواف واحد وسعي واحد لكونه A حج قرانا على الأصح واكتفى بطواف واحد للقدوم بسعي واحد ولا دليل على وجوب طوافين وسعيين وأخرج الترمذي من حديث ابن عمر مرفوعا [ من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد ] وقد حسنه الترمذي .
أقول : الأدلة القاضية بأن الواجب على القارن ليس إلا طواف واحد وسعي واحد ثابتة قولا وفعلا أما القول فحديث ابن عمر قال : [ قال رسول الله A : من قرن بين حجه وعمرته أجزأه لهما طواف واحد ] أخرجه أحمد وابن ماجه وأخرجه أيضا الترمذي بلفظ [ من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا ] وقال : هذا حديث حسن وأخرجه أيضا سعيد بن منصور بنحو لفظ الترمذي وأما إعلال الطحاوي لهذا الحديث بالوقف فقد رده غيره من الحفاظ لأن الطحاوي قال : أن الدراوردي أخطأ في رفعه وأنه موقوف فأجابوا عنه بأن الدراوردي صدوق وأن رفعه حجة ومن القول حديث طاوس عن عائشة [ أن النبي A قال لها يسعك طوافك لحجك وعمرتك ] أخرجه أحمد ومسلم وأخرج أيضا مسلم من طريق مجاهد عنها [ أن النبي A قال لها : يجزيء عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك و عمرتك ] وأما أحاديث الفعل فأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة [ أن الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا طوافا واحدا ] وأخرج مسلم وأبو داود عن جابر [ أنه لم يطف النبي A ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا وحدا ] وأخرج البخاري عن ابن عمر [ أنه طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا ] بعد أن قال : أنه سيفعل كما فعل رسول الله A وأخرج عبد الرزاق بإسناد صحيح عن طاوس [ أنه حلف ما طاف أحد من أصحاب رسول الله A وعمرته إلا طوافا واحدا ] واستدل القائلون بأن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين بفعل علي Bه وقوله : [ رأيت رسول الله A يفعل هكذا ] أخرجه عبد الرزاق والدارقطني وغيرهما وقد روى نحوه عن ابن مسعود وابن عمر بأسانيد في بعضها متروك وفي البعض الآخر ضعيف حتى قال ابن حزم : لا يصح عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولا عن أحد من أصحابه في ذلك شئ وتعقب أن حديثي علي وابن مسعود لا بأس بإسناديهما ولهذا رجح البيهقي وغيره المصير إلى الجمع أنه طاف طواف القدوم وطواف الإفاضة قال : وأما السعي فلم يثبت فيه شئ وقد حكى الحافظ في الفتح أنه روى جعفر الصادق عن أبيه أنه كان يحفظ عن علي للقارن طوافا واحدا خلاف ما يقوله أهل العراق .
والحاصل : أن الجمع بما تقدم إن اندفع به النزاع فالمراد وإلا وجب المصير إلى التعارض والترجيح ولا يشك عالم بالحديث أن أدلة الطواف الواحد والسعي الواحد أرجح .
ويكون حال الطواف متوضئا ساتر العورة لما في الصحيحين من حديث عائشة [ أن أول شئ بدأ به النبي A حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ] وفيهما أيضا من حديث أبي بكر [ أن النبي A قال : لا يطوف بالبيت عريان ] في شرح السنة عند الشافعي لا يجزيء الطواف إلا بما يجزيء به الصلاة من الطهارة عن الحدث والنجاسة وستر العورة فإن ترك شيئا منها فعليه الإعادة قال في الأنوار : ولو أحدث في الطواف عمدا توضأ وبنى ولا يجب الإستئناف وإن طال الفصل والكلام في الطواف مباح ويستحب أن لا يتكلم إلا بذكر الله أو حاجة أو علم وقال أبو حنيفة : إذا طاف جنبا أو محدثا وفارق مكة لا تلزمه الإعادة وعليه دم وفي العالمكيرية أن كل عبادة تؤدى لا في المسجد من المناسك فالطهارة ليست من شرطها كالسعي والوقوف بعرفة وكل عبادة في المسجد فالطهارة من شرطها كالطواف .
أقول : أما فرضية الوضوء للطواف أو شرطيته كما زعمه البعض فغاية ما في ذلك حديث [ أنه توضأ A ثم طاف ] وهذا مجرد فعل لا ينتهض للوجوب وليس الوضوء بداخل في عموم المناسك حتى يقول أنه بيان لقوله : [ خذوا عني مناسككم ] فإن قيل أنه شرط النسك أوفرضه فيكون من جملة بيان المناسك فيجاب بأن هذه مصادرة على المطلوب لأن كونه شرطا أو فرضا هو محل النزاع ومع هذا ففعله للوضوء يحتمل أن يكون لما يتعقب الطواف من الصلاة ولا سيما وقد كان A لا يدخل المسجد إلا متوضئا في غير الحج فملازمته لذلك في الحج أولى وأما منعه A للحائض أن تطوف بالبيت فليس فيه دليل على أن المنع لها لكون الطهارة شرطا أو فرضا للطواف لإحتمال أن يكون المنع لها لكون الطواف من داخل المسجد وهي ممنوعة من المساجد ولو سلم فغايته أن الطهارة من الحيض هي الشطر لا الوضوء وأما حديث الطواف بالبيت صلاة فمع كونه في إسناده عطاء بن السائب وهو ضعيف فليس التشبيه بمقتض لمساواة المشبه للمشبه به في جميع الأوصاف : بل الإعتبار التشابه في أخص الأوصاف وليس هو الوضوء .
والحائض تفعل الحاج غير أن لا تطوف طواف القدوم وكذا طواف الوداع بالبيت لحديث عائشة عن النبي A أنه قال [ الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف ] أخرجه أحمد وأخرج نحوه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من حديث ابن عمر ولحديث عائشة أيضا في الصحيحين وغيرهما أنه قال لها النبي A لما حاضت : [ افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي ] .
ويندب الذكر حال الطواف بالمأثور لحديث عبدالله بن السائب قال : [ سمعت رسول الله A يقول بين الركن اليماني والحجر : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ] أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم لأنه دعاء جامع نزل به القرآن وهو قصير اللفظ يناسب تلك الفرصة القليلة وعن أبي هريرة عن النبي A قال : [ وكل به يعني الركن اليماني سبعون ملكا فمن قال : اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار قالوا آمين ] أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه إسمعيل بن عياش وهشام بن عمار وهما ضعيفان وأخرج ابن ماجه أيضا من حديثه أنه سمعه يقول : [ من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولاحول ولا قوة إلا بالله محيت عنه عشر سيئات وكتب له عشر حسنات ورفع له بها عشر درجات ] وفي إسناده من تقدم في الحديث الأول وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث عائشة قالت : [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى ] وفي الباب أحاديث .
وبعد فراغه يصلي ركعتين وعليه الشافعي وقال أبو حنيفة : هما واجبتان .
في مقام إبراهيم ثم يعود إلى الركن فيستلمه لحديث جابر عند مسلم وغيره [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما انتهى إلى مقام إبراهيم قرأ : ] واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ فصلى ركعتين فقرأ فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد ثم عاد إلى الركن فاستلمه قلت : وجهر فيهما بقراءته نهارا فالجهر فيهما السنة ليلا ونهارا فلما فرغ منهما أتى الحجر الأسود فاستلمه ثم خرج إلى الصفا ] من الباب الذي يقابله *