كتاب الحج .
أقول : الحج في اللغة القصد فمعنى قوله تعالى : { ولله على الناس حج البيت } قصد البيت والقصد لا إجمال فيه وأما قوله صلى الله تعالى عليه وسلم [ خذوا عني مناسككم ] فهو أمر بالاقتداء به في أفعاله وأقواله والأمر يفيد الوجوب فتكون المناسك التي بينها صلى الله تعالى عليه وسلم واجبة ولا يخرج عن الوجوب منها إلا ما خصه دليل وأما كونه لا يصح الحج إلا بفعل جميع المناسك أو يختل بإختلال بعضها فلا دليل على ذلك لأن الذي يؤثر عدمه في العدم هو الشرط لا الواجب وليس في أدلة مناسك الحج مايفيد تأثير عدمه في عدم الحج إلا الوقوف بعرفة ولا ريب أنه نسك من مناسك الحج يختص بمزية لا توجد في غيره من المناسك لحديث [ الحج عرفة من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ] أخرجه أحمد وأصحاب السنن والحاكم والبيهقي وابن حبان من حديث عبد الرحمن بن نعيم الدؤلي وأخرج من تقدم ذكره [ من حديث عروة بن مضرس من صلى معنا هذه الصلاة يعني صلاة يوم النحر وأتىعرفات قبل ذلك ليلا أونهارا فقد تم حجة وقضى تفثه ] وصحح هذا الحديث جماعة من الحفاظ كالحاكم والدارقطني وابن العربي وفي رواية من حديث عبد الرحمن المذكور [ من جاء عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج ] وفي رواية لأبي نعيم [ ومن لم يدرك جمعا فلا حج له ] فهذه الروايات تدل على أن الوقوف بعرفة ركن من الأركان التي لا يتم الحج بدونها وههنا بحث وهو أن الإستدلال ببعض أفعاله على الوجوب وبعضها على الندب تحكم وكذلك القول بأن بعضها نسك وبعضها غير نسك والظاهر أن جميع أفعاله الصادرة عنه في حجته مناسك لأنه لم يتبين لنا أن النسك هو هذا الفعل دون هذا ولكن لا بد أن تكون الأفعال مقصودة لذاتها كالإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي ورمي الجمار لا ما كان غير مقصود لذاته كالمبيت بمنى ليالي الرمي أو كان بسبب غير الحج كجمع الصلاتين في مزدلفة ونحو ذلك وقد زعم الجلال في ضوء النهار أن من زعم أن حجه A مجمل بين بفعله فقد أسرف في الجهل قال : لأن إسم الحج ومسماه ظاهران ثم قال : إن تلك التي فعلها A إنما هي أفعال وهي لا تدل على الوجوب حتى يعلم أنه فعلها على وجه الوجوب وإلا فالظاهر القربة فقط وهي لا تستلزم الوجوب ولا الشرطية انتهى ولعله لم يخطر بباله حال تحرير هذا البحث حديث [ خذوا عني مناسككم ] وهو حديث صحيح في مسلم وغيره ولا ريب أنه يفيد وجوب مناسك الحج كما قدمنا .
يجب على كل مكلف مستطيع لنص الكتاب العزيز { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } وعليه إجماع الأمة قالوا : الحج فريضة محكمة يكفر جاحدها وقالوا : الحر المكلف القادر إذا وجد الزاد والراحلة وأمن الطريق يلزمه الحج كذا في المسوى .
أقول : حديث تفسيره A للسبيل بالزاد والراحلة فيه مقال ولكنه قد روي من طريق جماعة من الصحابة وفي جميع الطرق علل لا تمنع تقوية بعضها لبعض ويشد من عضدها حديث [ من وجد رادا وراحلة ] وهو مروي من طريق ثلاثة من الصحابة وفي جميعها مقال .
فالحاصل : أن مجموع ما ورد في تفسير السبيل بالزاد والراحلة وترتيب الوجوب عليها ينتهض للإحتجاج به على ذلك فلا وجوب على من لم يجد الراحلة كما أنه لا وجوب على من لم يجد الزاد ولا وجه لقصر السبيل على الزاد والراحلة بل السلامة من المرض والأمن هما من السبيل وكذلك المحرم للمرأة لدلالة الدليل على ذلك ثم التحقيق أن الشروط تنقسم إلى قسمين : شرط يتعلق بالفاعل وشرط يتعلق بالفعل فالأول يتوقف عليه تعلق الخطاب به والثاني يتوقف عليه كونه مطلوبا من فاعله والأول أيضا هو الذي يقال له شرط الإيجاب وشرط الطلب والثاني هو الذي يقال له شرط الواجب وشرط المطلوب وإيضاح هذا أن التكليف والإسلام والحرية شروط متعلقة بالفاعل والزاد والراحلة والأمن والمحرم شروط متعلقة بالفعل فجعل بعض شروط الفعل للوجوب وبعضها للأداء غير موافق لعقل ولا نقل وأنت خبير بأن المرأة منهية عن السفر بدون محرم كما ثبت النهي عن ذلك في الصحيح ولم يثبت النهي عن الحج لمن لم يجد الراحلة مثلا بل كان الإيجاب متعلقا بوجودها وهذا يقتضي أن تحصيل المحرم أهم من تحصيل الراحلة لأن السفر بدون محرم حرام كما يقتضيه النهي يحقيقته وكما يقتضيه لفظ [ لا يحل لأمرآة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام أو يوما أو ليلة أو بريدا بدون محرم ] على إختلاف الروايات ولم يرد ما يدل على تحريم السفر بدون الراحلة فإيجاب الوصية بالحج على من ماتت ولها زاد وراحلة وليس لها محرم دون من ماتت ولها زاد ومحرم وليس لها راحلة ليس بمناسب فإن فاقدة المحرم لم تستطع إلى الحج سبيلا كفاقدة الراحلة وزيادة ومعنى كون الشئ شرطا لتأدية شئ آخر أن التأدية بدونه لا تصح وهذا يعود إلى شرط الصحة وهم لا يريدون هذا بل معنى شرط الأداء عندهم أن يكون المكلف قد كملت له شروط الصحة والوجوب ولم يبق إلا التأدية وهي مشروطة بشرط وهذا إصطلاح قليل الثمرة غاية ما فيه أن من مات وقد كملت له شروط الصحة والوجوب ولم يبق إلا شرط الأداء وجب عليه الإيصاء بالحج وقد تقدم ماهو الحق في ذلك .
فورا لحديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : [ تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم ما يدري ما يعرض له ] أخرجه أحمد وأخرج أحمد أيضا وابن ماجة من حديث ابن عباس عن الفضل أو أحدهما عن الآخر قال : [ قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض الحاجة ] وفي إسناده إسمعيل بن خليفة العبسي أبو إسرائيل وهو صدوق ضعيف الحفظ وأخرج أحمد وأبو يعلي وسعيد بن منصور والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا [ من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ] وفي إسناده ليث بن أبي سليم وشريك وفيهما ضعف وأخرجه الترمذي من حديث علي مرفوعا [ من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت نصرانيا أو يهوديا وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ] قال الترمذي غريب وفي إسناده مقال والحديث يضعف وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحق مجهول وقال العقيلي لا يتابع عليه وقد روي من طريق ثالثة من حديث أبي هريرة عند ابن عدي بنحوه وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ماهم بمسلمين ما هم بمسلمين وأخرجه أيضا البيهقي وقد ذهب إلى القول بالفور مالك وأبو حنيفة وأحمد وبعض أصحاب الشافعي وقال الشافعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد إنه على التراخي قال في حجة الله البالغة تحت قوله صلى الله تعالى عليه وسلم من ملك زادا وراحلة إلخ أقول : ترك ركن من أركان الإسلام يشبه بالخروج عن الملة وإنما شبه تارك الحج باليهودي والنصراني وتارك الصلاة بالمشرك لأن اليهود والنصارى يصلون ولا يحجون ومشركو العرب يحجون ولا يصلون والمصلحة المرعية في الحج أعلاه كلمة الله وموافقة سنة إبراهيم عليه السلام وتذكر نعمة الله عليه انتهى وفي بعض النسخ المتن .
وذلك العمرة وما زاد فهو نافلة وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : [ العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ] قلت : الحج المبرور هو الذي لا يخالطه شئ من المأثم وفي تنبيه الغافلين للشيخ محي الدين بن إبراهيم النحاس في ذكر منكرات الحجاج وأعظمها فتنة وأجلها مصيبة وأكثرها وجودا وبلية هو تضييع أكثرهم الصلاة في الحج وكثير منهم لا يتركونها بل يضيعون أوقاتها ويجمعونها على غير الوجه الشرعي وذلك حرام بالإجماع ومن تحقق أن ذلك نصيبه في حجه حرم عليه الحج رجلا كان أو إمرأة قال ابن الحاج : وقد قال علماؤنا في المكلف : إذا علم أنه تفوته الصلاة الواحدة إذا خرج إلى الحج فقد سقط الحج عنه وقد سئل مالك في الذي يركب البحر ولا يجد موضعا يسجد فيه إلا على ظهر أخيه أيجوز له الحج ؟ فقال رح : أيركب حيث لا يصلي ويل لمن ترك الصلاة ويل له وأما النساء فلا يمكن إحداهن الصلاة في وقتها المشروع إلا في النادر الذي لا حكم له وسبب هذا المنكر العظيم أمراء الحاج وتهاونهم في الإنكار وخوف المصلي من فوات الرفقة ومشقة اللحوق بهم فالواجب على الأمراء أن يقفوا بالحج في أوقات الصلاة إذا دخلت عليهم وهم مسافرون ويتفقدون من لم يصل من الجمالين وغيرهم ويشددون عليهم في أمر الصلاة ويمنعون من يتقدم منهم قبل الصلاة فإن لم يفعلوا كان إثم من ترك الصلاة كذلك في أعناقهم ومن تركها تهاونا وكسلا ولم يعلموا به فإثمه في عنق نفسه وحكمه مذكور في كتب الفقه انتهى حاصله