باب الاعتكاف .
يشرع لا خلاف في مشروعية الإعتكاف وقد كان يعتكف النبي A في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة .
ويصح في كل وقت في المساجد لأنه ورد الترغيب فيه ولم يأت ما يدل على أنه يختص بوقت معين وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن عمر سأل النبي A قال : [ كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : فأوف بنذرك ] وأما كونه لا يكون إلا في المساجد فلأن ذلك هو معنى الإعتكاف شرعا إذا لا يسمى من اعتكف في غيرها معتكفا شرعا وقد ورد ما يدل على ذلك كحديث [ لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة ] أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور من حديث حذيفة قال في المسوى الاعتكاف جائز في كل مسجد فإن لم يكن المسجد جامعا فالخروج للجمعة واجب عليه فإذا خرج يبطل إعتكافه عند الشافعي فيحتاج إلى نية جديدة لما يستقبله إن كان تطوعا ولا يبطل عند أبي حنيفة كما لو خرج لقضاء الحاجة .
أقول : لا ريب أن مسمى الإعتكاف الشرعي لا يحصل إلا إذا كان في المسجد ولهذا لم تختلف الأمة في إعتبار ذلك إلا ما يروى عن محمد بن عمر بن لبابة المالكي فإنه أجازه في كل مكان وإنما اختلفوا هل يجزيء الإعتكاف في كل مسجد أم في الثلاثة المساجد فقط أم في المسجد الحرام فقط ؟ والظاهر أنه يجزيء في كل مسجد قال تعالى : { وأنتم عاكفون في المساجد } ولا حجة في قول عائشة ولا في قول حذيفة في هذا الباب .
وهو في رمضان آكد سيما في العشر الأواخر منه أفضل وآكد لكونه A كان يعتكف فيها ولم يرد ما يدل على توقيته بيوم أو أكثر ولا على اشتراط الصيام إلا من قول عائشة وحديث نذر عمر المتقدم يرده وكذلك حديث ابن عباس أن النبي A قال : [ ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ] أخرجه الدارقطني والحاكم وقال : صحيح الإسناد ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه .
وبالجملة : فلا حجة إلا في الثابت من قوله A ولم يثبت عنه ما يدل على أنه لا اعتكاف إلا بصوم بل ثبت عنه ما يخالفه في نذر عمر وقد روى أبو داود عن عائشة مرفوعا من حديث [ ولا إعتكاف إلا بصوم ] ورواه غيره من قولها ورجح ذلك الحفاظ .
أقول : أعلم أن كون الشئ شرطا لشئ آخر أو ركنا له أو فرضا من فروضه لا يثبت إلا بدليل لأنه حكم شرعي أو وضعي ولم يأت ما يدل على أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم بل ثبت الترغيب منه A في الاعتكاف ولم ينقل إلينا أنه اعتبر ذلك ولو كان معتبرا لبينه للأمة وأما إعتكافه A في صومه فلا يستلزم أن يكون الاعتكاف كذلك لأنه أمر اتفاقي ولو كان ذلك معتبرا لكان إعتكافه في مسجده معتبرا فلا يصح من أحد الإعتكاف في غيره وأنه باطل وأما قول عائشة المتقدم فظاهر هذا السياق أن لفظ [ ولا اعتكاف إلا بصوم ] ليس من بيان السنة المذكورة في أول كلامها بل ابتداء كلام منها فقد أخرجه النسائي ولم يذكر فيه قولها من السنة وكذلك أخرجه أيضا من حديث مالك وليس فيه ذلك وقال أبو داود : غير عبد الرحمن بن إسحق لا يقول فيه من السنة وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها [ لا يخرج وما عداه ممن دونها ] وكذلك رحج ذلك البيهقي كما ذكره ابن كثير في إرشاده ومما يؤيد هذا حديث [ من إعتكف فواق ناقة ] وكذلك حديث [ ليس على المعتكف صيام ] وفيهما مقال أوضحه الماتن رح في شرح المنتقى وقد ثبت عنه A أنه اعتكف عشرا من شوال ولم ينقل عنه أنه صامها بل روي عنه أنه اعتكف العشر الأول من شوال ولا يخفى أن يوم الفطر من جملتها وليس بيوم صوم فالحق عدم اشتراط الصوم في الإعتكاف لما تقدم ولما ثبت أن عمر [ سأل النبي A قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال : أوف بنذرك ] وهو متفق عليه وفي رواية لمسلم [ يوما ] مكان [ ليلة ] وما في الصحيحين أرجح مما في أحدهما إذا لم يمكن الجمع وقد جمع ابن حبان وغيره بأنه نذر إعتكاف ليلة ويوم وفي رواية أبي داود والنسائي [ أن النبي A قال له : اعتكف وصم ] ولكن في إسناده عبد الله بن بديل وهو ضعيف وقد ذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بذلك عمرو بن دينار وقال الحافظ في الفتح أن رواية من روى [ يوما ] شاذة وإذا عرفت ما تقدم من عدم انتهاض ما احتجوا به على شرطية الصوم فالحق الحقيق بالقبول أن الإعتكاف يكون ساعة فما فوقها بل حديث [ من اعتكف فواق ناقة ] يدل على أنه يكون أقله لحظة مختطفة وهذا الحديث وأن لم يكن صالحا للإحتجاج به فالأصل عدم التقدير بوقت معين والدليل على مدعي ذلك ثم كون اليوم الكامل شرطا للصوم لا يسلتزم أن يكون شرطا للإعتكاف لأنه يمكن الإعتكاف بعض اليوم مع الصوم لكل اليوم فاليوم شرط الصوم لا شرط الإعتكاف على تسليم أن الصوم شرط .
ويستحب الإجتهاد في العمل فيها لحديث عائشة [ أن النبي A كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل كله وأيقظ أهله وشد المئزر ] وهو في الصحيحين وغيرهما .
وقيام ليالي القدر لحديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما عن النبي A [ من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ] وفي تعيين ليلة القدر أحاديث مختلفة وأقوال جاوزت الأربعين ذكرتها في مسك الختام شرح بلوغ المرام بالفارسية وقد استوفاها الماتن في نيل الأوطار وفي حاشية الشفاء للماتن أقول : في تعيينها مذاهب يطول تعدادها وقد بسطتها في شرح المنتقى فكانت سبعة وأربعين قولا وذكرت أدلتها وبينت راجحها من مرجوحها ورحجت أنها في أوتار العشر الأواخر لما ذكرته هنالك انتهى قال في الحجة البالغة : إن ليلة القدر ليلتان : إحداهما ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم وفيها نزل القرآن جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك نجما نجما وهي ليلة في السنة ولا يجب أن تكون في رمضان نعم رمضان مظنة غالبة لها واتفق أنها كانت في رمضان عند نزول القرآن والثانية يكون فيها نوع انتشار الروحانية ومجيء الملائكة إلى الأرض فيتفق المسلمون فيها على الطاعات فيتعاكس أنوارهم فيما بينهم ويتقرب منهم الملائكة ويتباعد منهم الشياطين ويستجاب منهم أدعيتهم وطاعاتهم وهي ليلة في كل رمضان في أوتار العشر الأواخر تتقدم وتتأخر فيه ولا تخرج منها فمن قصد الأولى قال : هي في كل سنة ومن قصد الثانية قال : هي في العشر الأواخر من رمضان وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه و آله وسلم : [ أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ] وقال : [ أريت هذه الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين ] فكان ذلك في ليلة إحدى وعشرين وإختلاف الصحابة فيها مبني على إختلافهم في وجدانها ومن أدعية من وجدها [ اللهم أنك عفو تحب العفو فاعف عهي ] وفي المسوى إختلفوا في ليلة هي أرجى والأقوى أنها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة تتقدم وتتأخر وقول أبي سعيد أنها ليلة إحدى وعشرين وقال المزني وابن خزيمة أنها تنتقل كل نسة ليلة جمعا بين الأخبار قال في الروضة : وهو قوي ومذهب الشافعي أنها لا تلزم ليلة بعينها وفي المنهاج ميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والثالث والعشرين وعن أبي حنيفة أنها في رمضان لا يدري أية ليلة هي وقد تتقدم وتتأخر وعندهما كذلك إلا أنها متعينة لا تتقدم ولا تتأخر .
ولا يخرج المتعتكف إلا لحاجة لما ثبت من حديث عائشة في الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم [ أنه كان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان إذا كان معتكفا ] وأخرج أبو داود عنها قالت : [ كان النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه ] وفي إسناده ليث بن أبي سليم قال الحافظ : والصحيح عن عائشة من فعلها أخرجه مسلم وغيره وقال صح ذلك عن علي وأخرج أبو داود عن عائشة أيضا قالت : [ السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ولا اعتكاف إلا بصوم ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع ] وأخرجه أيضا النسائي وليس فيه قالت [ السنة ] قال أبو داود : غير عبد الرحمن بن اسحق لا يقول فيه قالت السنة وجزم الدارقطني بأن القدر من حديث عائشة قولها : [ لا يخرج ] وماعداه ممن دونها قال في المسوى : اتفق أهل العلم على أن المعتكف يخرج للغائط والبول ولا يفسد به إعتكافه ولا يخرج للأكل والشرب ويجوز له غسل الرأس وترجيل الشعر وما في معناه وأكثرهم على أنه لا يجوز له الخروج لعيادة المريض وصلاة الجنازة إلا أن يخرج لحاجة فيسأل المريض مارا وإن شرط في اعتكافه الخروج لشئ من هذا جاز له أن يخرج عند الشافعي ولا يجوز عند أبي حنيفة كذا في شرح السنة