فصل .
ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحق لقوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } فأوجب الله سبحانه قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله ولا فرق بين أن يكون البغي من بعض المسلمين على إمامهم أو على طائفة منهم قال في المسوى : قال الواحدي والبغوي وغيرهما : نزلت هذه الآية في ضرب كان بينهم بالجريد والأيدي والنعال فأصلح النبي A بينهم والظاهر أنها في قتال ومضاربة يكون في الغضب بين المسلمين حيث يكون حكم الله تعالى معلوما لقوله تعالى : { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وليست في البغاة وهم الذين لهم منعة وشبهة فنصبوا رئيسا وخرجوا على الإمام العدل إذ ليس هناك قاطع يطلب منهم الفيء إليه بل كل فرقة منهما تدعي أن ما ذهبت إليه هو الحق الموافق لكتاب الله وإنما يستفاد حكم البغاة من آثار علي رضي الله تعالى عنه حين قاتل أهل البصرة وأهل الشام وأهل النهروان وهذا أحسن ما فهمت في هذه الآية والعلم عند الله تعالى انتهى .
أقول : اعلم أن هذا الفصل مستفاد من اجتهادات الصحابة Bهم وأكثر من روي عنه في ذلك علي كرم الله وجهه ولم يثبت في ذلك عن النبي A شئ إلا حديث ابن مسعود الآتي وقد ضعفه جماعة من المسلمين وقد أجمع المسلمون على بعض الأحكام كعدم جواز سبي البغاة .
والحاصل : أن أصل دم المسلم وماله العصمة ولم يأذن الله D بسوى قتال الطائفة الباغية حتى تفيء فيجب الإقتصار على هذا ويكون الجائز قتال من لم يحصل منه الفيء وإن كان جريحا أو منهزما من غير فرق بين من له فئة ومن لا فئة له ما دام مصرا على بغيه وأما المال فلا يجوز أخذ شئ منه هذا ما عندي في ذلك فإن ثبت ما يخالفه فالثابت شرعا أولى بالاتباع .
ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا تغنم أموالهم لما أخرجه الحاكم والبيهقي عن ابن عمر [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لابن مسعود : يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي قال : الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ] وفي لفظ [ ولا يذفف على جريحهم ولا يغنم منهم ] سكت عنه الحاكم وقال ابن عدي : هذا الحديث غير محفوظ وقال البيهقي : ضعيف وقال صاحب بلوغ المرام أن الحاكم صححه فوهم لأن في إسناده كوثر بن حكيم وهو متروك وصح عن علي من طرق نحوه موقوفا والصحيح أنه نادى بذلك منادي على يوم صفين ولم يثبت الرفع وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم والبيهقي من طريق عبد خير عن علي بلفظ [ نادى منادي على يوم الجمل ألا لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم ] وأخرج سعيد بن منصور عن مروان بن الحكم قال : [ صرخ صارخ لعلي يوم الجمل لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن ] وأخرج أحمد في رواية الأثرم واحتج به عن الزهري قال : [ هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله A متوافرون فأجمعوا أن لا يقاد أحد ولا يؤخذ مال على تأويل القرآن إلا ما وجد بعينه ] وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : [ شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا ] وأخرج البيهقي عن علي أنه قال يوم الجمل : [ إن ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا على جريح وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك فهو لورثتهم ] قال البيهقي : هذا منقطع والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا ويؤيد جميع هذه الآثار أن الأصل في دماء المسلمين وأموالهم الحرمة فلا يحل شئ منها إلا بدليل شرعي والمراد بالإجازة على الجريح والإجهاز والتذفيف أن يتمم قتله ويسرع فيه وما حكاه الزهري من الإجماع على عدم القود يدل على أنه لا قصاص في أيام الفتنة وقد أخرج هذا الأثر عن الزهري البيهقي بلفظ [ هاجت الفتنة الأولى فأدركت يعني الفتنة رجالا ذوي عدد من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ممن شهد معه بدرا وبلغنا أنهم يرون أن هذا أمر الفتنة لا يقام فيها على رجل قاتل في تأويل القرآن قصاص فيمن قتل ولا حد في سبي امرأة سبيت ولا يرى عليها حد ولا بينهما وبين زوجها ملاعنة ولا يرى أن يقذفها أحد إلا جلد الحد ويرى أن ترد إلى زوجها الأول بعد أن تعتد عدتها من زوجها الآخر ويرى أن يرثها زوجها الأول ] انتهى قال في البحر : ولا يجوز سبيهم ولا اغتنام ما لم يجلبوا به إجماعا لبقائهم على الملة وحكى عن النفس الزاكية والحنفية والشافعية أنه لا يغنم منهم شئ .
أقول : وأما الكلام فيمن حارب عليا كرم الله وجهه فلا شك ولا شبهة أن الحق بيده في جميع مواطنه أما طلحة والزبير ومن معهم فلأنهم قد كانوا بايعوه فنكثوا بيعته بغيا عليه وخرجوا في جيوش من المسلمين فوجب عليه قتالهم وأما قتاله للخوراج فلا ريب في ذلك والأحاديث المتواترة قد دلت على أنه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية وأما أهل صفين فبغيهم ظاهر لو لم يكن في ذلك إلا قوله A لعمار : [ تقتلك الفئة الباغية ] لكان ذلك مفيدا للمطلوب ثم ليس معاوية ممن يصلح لمعارضة علي ولكنه أراد طلب الرياسة والدنيا بين قوم أغتام لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فخادعهم بأنه طلب بدم عثمان فنفق ذلك عليهم وبذلوا بين يديه دمائهم وأموالهم ونصحوا له حتى كان يقول علي لأهل العراق أنه يود أن يصرف العشرة منهم بواحد من أهل الشام صرف الدراهم بالدينار وليس العجب من مثل عوام الشام إنما العجب ممن له بصيرة ودين كبعض الصحابة المائلين إليه وبعض فضلاء التابعين فليت شعري أي أمر اشتبه عليهم في ذلك الأمر حتى نصروا المبطلين وخذلوا المحقين وقد سمعوا قول الله تعالى : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وسمعوا الأحاديث المتواترة في تحريم عصيان الأئمة ما لم يروا كفرا بواحا وسمعوا قول النبي A لعمار : [ أنه تقتله الفئة الباغية ] ولو لا عظيم قدر الصحابة ورفيع فضل خير القرون لقلت : حب الشرف والمال قد فتن سلف هذه الأئمة كما فتن خلفها اللهم غفرا ثم اعلم أنه قد جاء القرآن والسنة بتسمية من قاتل المحقين باغيا كما في الآية المتقدمة وحديث عمار بن ياسر المتقدم فالباغي مؤمن يخرج عن طاعة الإمام التي أوجبها الله تعالى على عباده ويقدح عليه في القيام بمصالح المسلمين ودفع مفاسدهم من غير بصيرة ولا على وجه المناصحة فإن انضم إلى ذلك المحاربة وله القيام في وجهه فقد تم البغي وبلغ إلى غايته وصار كل فرد من أفراد المسلمين مطالبا بمقاتلته لقوله سبحانه وتعالى : { فإن بغت إحداهما } الآية وليس القعود عن نصرة الحق من الورع بعد قوله الله D : { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي } .
والحاصل : أنه إذا تبين الباغي ولم يلتبس ولا دخل في الصلح كان القعود عن مقاتلته خلاف ما أمر الله به وأما مع اللبس فلا وجوب حتى يتبين المحق من المبطل لكن يجب السعي في الصلح كما أمر الله به وليس من البغي إظهار كون الإمام سلك في اجتهاده في مسألة أو مسائل طريق مخالفة لما يقتضيه الدليل فإنه ما زال المجتهدون هكذا ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله ولا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة بهذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد ابتلي علي Bه بقتال البغاة على اختلاف أنواعهم وإذا كانت الإمامة الإسلامية مختصة بواحد والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول أن يقتل إذا لم يتب عن المنازعة وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعة في وقت واحد فليس أحدهما أولى من الآخر بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما حتى يجعل الأمر في أحدهما فإن استمرا على التخالف كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين ولا تخفي وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في غير قطره أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين وتجب الطاعة لكن واحد منهم بعد البيعة على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا يجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدري من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلا عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما يدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة لأنه لا يعقلها والله المستعان