فصل .
ويجوز استرقاق العرب لأن الأدلة الصحيحة قد دلت على جواز استرقاق الكفار من غير فرق بين عربي وعجمي وذكر وأنثى ولم يقم دليل يصلح للتمسك قط في تخصيص أسر العرب بعدم جواز استرقاقهم بل الأدلة قائمة متكاثرة على أن حكمهم حكم سائر المشركين منها حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما [ أنها كانت عند عائشة سبية من بني تميم فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أعتقيها فإنها من ولد إسمعيل ] وأخرج البخاري وغيره [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : حين جاء وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم أموالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : أحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال ] الحديث وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر [ أن جويرية بنت الحرث من سبي بني المصطلق كاتبت عن نفسها ثم تزوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن يقضي كتابتها فلما تزوجها قال الناس أصهار رسول الله A فأرسلوا ما بأيديهم من السبي ] وأخرجه أحمد من حديث عائشة وقد ذهب إلى جواز استرقاق العرب الجمهور وحكي في البحر عن الحنفية أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف واستدل بقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } الآية ولا يخفى أنه لا دليل في الآية على المطلوب ولو سلم ذلك كان ما وقع منه A مخصصا لذلك وقد صرح القرآن الكريم بالتخيير بين المن والفداء فقال : { فإما منا بعد وإما فداء } ولم يفرق بين عربي وعجمي واستدلوا أيضا بما أخرجه الشافعي والبيهقي [ أن النبي A قال يوم حنين لو كان الإسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم إنما هو أسرى ] وفي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي وقد أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الفدية من ذكور العرب في بدر وهو فرع الإسترقاق .
أقول : قد سبى A جماعة من بني تميم وأمر عائشة أن تعتق منهم كما تقدم وبالغ A فقال : من فعل كذا فكأنما أعتق رقبة من ولد إسمعيل وقال لأهل مكة : [ اذهبوا فأنتم الطلقاء ] .
والحاصل : أن الواجب الوقوف على ما دلت عليه الأدلة الكثيرة الصحيحة من التخيير في كل مشرك بين القتل والمن والفداء والاسترقاق فمن ادعى تخصيص نوع منهم أو فرد من أفرادهم فهو مطالب بالدليل وأما أسر نساء العرب فالأمر أظهر من أن يذكر والوقائع في ذلك ثابتة في كتب الحديث الصحيحين وغيرهما وفي كتب السير جميعها .
وقتل الجاسوس لحديث سلمة بن الأكوع عند البخاري وغيره قال : [ أتى النبي A عين وهو في سفر فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل فقال النبي A : اطلبوه فاقتلوه فسبقتهم إليه فقتلته فنفلني سلبه ] وهو متفق على قتل الجاسوس الحربي وأما المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي : ينتقض عهده بذلك وأخرج أحمد وأبو داود عن فرات بن حيان [ أن النبي A أمر بقتله وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار فمر بحلقة من الأنصار فقال : إني مسلم فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله إنه يقول إنه مسلم فقال رسول الله A : إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان ] وفي إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب ولا يحتج بحديثه وهو يرويه عن سفيان ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري وهو ممن اتفق على الاحتجاج به البخاري ومسلم ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الأزرق العباداني وهو ثقة .
وإذا أسلم الحربي قبل القدرة عليه أحرز أمواله لحديث صخر بن عيلة [ أن النبي A قال : إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله ] أخرجه أحمد وأبو داود ورجاله ثقات وفي لفظ [ أن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم ] وأخرج أبو يعلى من حديث أبي هريرة مرفوعا [ من أسلم على شئ فهو له ] وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي له عن أبي هريرة قال البيهقي : وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة مرسلا وقد أخرجه عن عروة مرسلا سعيد بن منصور برجال ثقات [ أن النبي A حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد ابن سعية فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار ] ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح الثابت من طرق أنه A قال : [ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت جميع أمواله في ملكه ولا فرق بين من أسلم في دار الحرب أو دار الإسلام .
وإذا أسلم عبد الكافر صار حرا لحديث ابن عباس عند أحمد وابن أبي شيبة قال : [ أعتق رسول الله A يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين ] وأخرجه أيضا سعيد بن منصور مرسلا قصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في صحيح البخاري ورواها أبو داود عن الشعبي عن رجل من ثقيف قال : [ سألنا رسول الله A أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكنا فأسلم قبلنا فقال : لا هو طليق الله ثم طليق رسوله ] وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث علي قال : [ خرج عبدان إلى رسول الله A يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا : ولله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم فغضب رسول الله A وقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا وأبى أن يردهم وقال : هم عتقاء الله D ] وأخرج أحمد عن أبي سعيد الأعشم قال : [ قضى رسول الله A في العبد إذا جاء فأسلم ثم جاء مولاه فأسلم أنه حر وإذا جاء المولى ثم جاء العبد بعد ما أسلم مولاه فهو أحق به ] وهو مرسل .
والأرض المغنومة أمرها إلى الإمام فيفعل الأصلح من قسمتها أو تركها مشتركة بين الغانمين أو بين جميع المسلمين لأن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قسم أرض قريظة والنضير بين الغانمين وقسم نصف أرض خيبر بين المسلمين وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس كما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث بشير ابن يسار عن رجال من الصحابة وأخرج نحوه أيضا أبو داود من حديث سهل بن أبي حثمة وقد ترك الصحابة ما غنموه من الأراضي مشتركة بين جميع المسلمين يقسمون خراجها بينهم وقد ذهب إلى ما ذكرناه جمهور الصحابة ومن بعدهم وعمل عليه الخلفاء الراشدون وأخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكم فيها وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم ] .
أقول : قسمة الأموال المجتمعة للمسلمين من خراج ومعاملة وجزية وصلح وغير ذلك ينبغي تفويض قسمتها إلى الإمام العادل الذي يمحض النصح لرعيته ويبذل جهده في مصالحهم فيقسم بينهم ما يقوم بكفايتهم ويدخر لحوادثهم ما يقوم بدفعها ولا يلزمه في ذلك سلوك طريق معينة سلكها السلف الصالح فإن الأحوال تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فإن رأى الصلاح في تقسيم ما حصل في بيت المال في كل عام فعل وإن رأى الصلاح في تقسيمه في الشهر أو الأسبوع أو اليوم فعل ثم إذا فاض من بيت مال المسلمين على ما يقوم بكفايتهم وما يدخر لدفع ما ينوبهم جعل ذلك في مناجزة الكفرة وفتح ديارهم وتكثير جهات المسلمين وفي تكثير الجيوش والخيل والسلاح فإن تقوية جيوش المسلمين هي الأصل الأصيل في دفع المفاسد والخيل والسلاح وجلب المصالح ومن أعظم موجبات تكثير بيت المال وتوسيع دائرته العدل في الرعية وعدم الجور عليهم والقبول من محسنهم والتجاوز عن مسيئهم هذا معلوم بالإستقراء في جميع دول الإسلام والكفر فما عدل ملك في رعيته إلا ونال بعدله أضعاف أضعاف ما يناله الجائر يحوره مع ما في العدل من السلامة من انتقام الرب D في هذه الدار أو في دار الآخرة فإنها جرت عادة الله سبحانه بمحق نظام الظلم وخراب بنيانه وهدم أساسه حتى صارت دول الظلمة من أعظم العبر للمعتبرين فإنه لا بد أن يحل بهم من نكال الله وسخطه ما يعرفه من له فطنة واعتبار وتفكر ومن نظر في تواريخ الدول رأى من هذا ما يقضي منه العجب .
فالحاصل : أن الظالم ممن خسر الدنيا والآخرة أما خسران الآخرة فواضح معلوم من هذه الشريعة بالضرورة وأما خسران الدنيا فهو وإن تم له منها نصيب نزر فهو على كدر وتخوف ونغص وتحيل ووحشة من رعيته فلا يزال متوقعا لزوال ملكه في كل وقت بسبب ما قد فعله بهم وهم مع ذلك على بغضه وهو منطو على بغضهم وينضم إلى ذلك كله تناقص الأمر وخراب البلاد وهلاك الرعية وفقر أغنيائهم ففي كل عام هو في نقص مع ما جرت به عادة الله D من قصم الظلمة وهلاكهم في أيسر مدة فأقل الملوك مدة أشدهم بطشا وأكثرهم ظلما وهذا هو الغالب وما خالفه فنادر فأين حال هؤلاء الظلمة في الدين والدنيا من حال الملوك العادلين بالرعية المحبوبين عندهم الممتعين بلذة العدل مع لذة العيش الصافي عن كدر المخاوف التي لا يأمن الظلمة هجومها عليهم في كل وقت ولو لم يكن من ذلك كله إلا الأمن من عقاب الله وانتقامه بل الرجاء في ثوابه وجزيل إفضاله وما وعد به العادلين في الآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لكان مغنيا .
ومن أمنه أحد المسلمين صار آمنا لحديث علي عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : [ ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ] وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ [ يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم ] وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا وأخرجه ابن ماجه من حديث معقل بن يسار مختصرا بلفظ [ المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم ] وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة مختصرا أيضا وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا بلفظ [ أن ذمة المسلمين واحدة فمن أحقر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ] وهو في الصحيحين من حديث علي وأخرجه البخاري من حديث أنس وفي الباب أحاديث وقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنا قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة انتهى وأما العبد فأجاز أمانه الجمهور وأما الصبي فقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن أمان الصبي غير جائز انتهى وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف قلت : إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا أمن واحد أو اثنين فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم فلا يصح إلا من الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة كعقد الذمة ولو جعل ذلك آحاد الناس صار ذريعة إلى إبطال الجهاد .
والرسول كالمؤمن لحديث ابن مسعود عند أحمد وأبي داود والنسائي والحاكم [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لرسولي مسلمة : لو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما ] وأخرج أحمد وأبو داود من حديث نعيم بن مسعود الأشجعي [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لهما : والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ] وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان وصححه [ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لأبي رافع لما بعثه قريش إليه فقال : يا رسول الله لا أرجع إليهم فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن يعني الإسلام فارجع ] .
وتجوز مهادنة الكفار وملوكهم وقبائلهم إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين فعرفوا نفع المسلمين في ذلك ولم يخافوا من الكفار مكيدة .
ولو بشرط وإلى أجل أكثره عشر سنين لحديث أنس عند مسلم وغيره [ أن قريشا صالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا فقالوا يا رسول الله : أنكتب هذا ؟ قال : نعم أنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ] وهو في البخاري وغيره من حديث المسور بن مخرمة ومروان مطولا وفيه أن مدة الصلح بينه A وبين قريش عشر سنين وقد اختلف أهل العلم في جواز مصالحة الكفار على رد من جاء منهم مسلما وفعله A قد دل على جواز ذلك ولم يثبت ما يقتضي نسخه وأما قدر مدة الصلح فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين لأن الله سبحانه قد أمرنا بمقاتلة الكفار في كتابه العزيز فلا يجوز مصالحتهم بدون شئ من جزية أو نحوها ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان دليلا على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها ولا تجوز الزيادة عليها رجوعا إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب وقد قيل أنها لا تجوز مجاوزة أربع سنين وقيل ثلاث سنين وقيل لا تجوز مجاوزة سنتين .
ويجوز تأييد المهادنة بالجزية لما تقدم من أمره صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بدعاء الكفار إلى إحدى ثلاث خصال منها الجزية وحديث عمرو بن عوف الأنصاري في الصحيحين وغيرهما [ أن رسول الله A بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي ] وأخرج أبو عبيد عن الزهري مرسلا قال : [ قبل رسول الله A الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا ] وأخرج أبو داود من حديث أنس [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعث خالدا إلى أكيد ردومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية ] وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال عن الزهري [ أن أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى ] وقد جعل النبي A على أهل اليمن على كل حالم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافري يعني أهل الذمة منهم رواه الشافعي في مسنده عن عمر بن عبد العزيز وهو ثابت في حديث معاذ المشهور عند أبي داود وأخرج البخاري وغيره من حديث المغيرة بن شعبة [ أنه قال لعامل كسرى أمرنا رسول الله A أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية ] وأخرج البخاري عن ابن أبي نجيح قال : قلت لمجاهد ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال جعل ذلك من قبيل اليسار وقد وقع الإتفاق على أنها تقبل الجزية من كفار العجم من اليهود والنصارى والمجوس قال مالك والأوزاعي وفقهاء الشام : إنها تقبل من جميع الكفار من العرب وغيرهم وقال الشافعي : إن الجزية تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلحق بهم المجوس في ذلك وقد استدل من لم يجوز أخذها إلا من العجم فقط بما وقع في حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وحسنه [ أن النبي A قال لقريش : إنه يريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ويؤدي إليهم بها العجم الجزية ] يعني كلمة الشهادة وليس هذا مما ينفي أخذ الجزية من العرب ولا سيما مع قوله A في حديث سليمان بن بريدة المتقدم [ وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال ] وفيها الجزية قال في المسوى في باب أخذ الجزية من أهل الكتاب : قال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } قلت : عليه أهل العلم في الجملة وقال الشافعي : الجزية على الأديان لا على الأنساب فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ولا تؤخذ من أهل الأوثان والمجوس لهم شبهة كتاب وقال أبو حنيفة : لا يقبل من العرب إلا الإسلام أو السيف وفي حديث ابن شهاب [ أن رسول الله A أخذ الجزية من مجوس البحرين وأن عمر بن الخطاب أخذها من البربر ] وفي حديث جعفر بن علي بن محمد بن أبيه [ أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال ما أدرى كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله A يقول لهم : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ] قلت : وعليه أهل العلم قال مالك : مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم قلت وعليه أهل العلم وأما قدرها فضرب عمر بن الخطاب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام قلت : قد صح من [ حديث معاذ بعثه النبي A إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا ] فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر فقال الشافعي : أقل الجزية دينار على كل بالغ في كل سنة ويستحب للإمام المماكسة ليزداد ولا يجوز أن ينقص من دينار وأن الدينار مقبول من الغني والمتوسط والفقير وتأول أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين وحديث معاذ على الفقراء لأن أهل اليمن أكثرهم فقراء فقال : على موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط ديناران وعلى كل فقير دينار وعن عمر بن عبد العزيز من مر بك من أهل الذمة فخذ بما يديرون به من التجارات من كل عشرين دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ منها شيئا واكتب لهم بما تأخذ منهم كتابا إلى مثله من الحول قلت : عليه أبو حنيفة وقال الشافعي : الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا وقت عقد الذمة وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون قلت عليه أبو حنيفة وقال الشافعي : لا تسقط بالإسلام ولا بالموت لأنه دين حل عليه كسائر الديون انتهى .
ويمنع المشركون وأهل الذمة من السكون من جزيرة العرب لحديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما [ أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أوصى عند موته بثلاث : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة ] والشك من سليمان الأحول وأخرج مسلم وغيره من حديث عمر [ أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول : لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما ] وأخرج أحمد من حديث عائشة [ أن آخر ما عهد رسول الله A أن قال : لا يترك بجزيرة العرب دينان ] وهو من رواية ابن إسحق قال : حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها والأدلة هذه قد دلت على إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان ذميا أو غير ذمي وقيل إنما يمنعون من الحجاز فقط استدلالا بما أخرجه أحمد والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال : [ آخر ما تكلم به النبي A أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب ] وهذا لا يصلح لتخصيص العام لما تقرر في الأصول من أن التخصيص بموافق العام لا يصح وقد حكى ابن حجر في فتح الباري عن الجمهور أن الذي تمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة قال : وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم الجزيرة وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد الحرام وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة وقال الشافعي : لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الإمام .
أقول : الأحاديث مصرحة بإخراج اليهود من جزيرة العرب وذكر الحجاز هو من التنصيص على بعض أفراد العام لا من تخصيصه لأنه قد تقرر في الأصول أن مفاهيم اللقب لا يجوز العمل بها إجماعا إلا عند الدقاق ولفظ الحجاز يدل على أن غيره من موضع الجزيرة يخالفه بمفهوم لقبه هذا هو الصواب الذي ينبغي التعويل عليه وقد جمع المغربي مؤلف شرح بلوغ المرام رسالة رجح فيها التخصيص وقد دفعها الماتن C بأبحاث ليس هذا موضع ذكرها قال في المسوى في باب لا يدخل المسجد الحرام كافر : قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } قلت : قوله { فلا يقربوا المسجد الحرام } معناه المسجد الحرام وما حوله من الحرم يدل عليه قوله تعالى : { وإن خفتم عيلة } وعليه أهل العلم قالوا لا يجوز لكافر أن يدخل الحرم بحال سواء كان ذميا أو لم يكن وإذا جاء رسول من دار الكفر إلى الإمام وهو في الحرم فلا يأذن في دخوله بل يخرج الإمام إليه أو يبعث من يسمع رسالته قلت : قد صح في غير حديث أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أدخل الكفار في مسجده من ذلك ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري المسجد فقال الشافعي : لا يدخلون المسجد إلا بإذن مسلم وقال آخرون يجوز له الدخول ولو بغير إذن وتأويل الآية على قولهم إنهم أخيفوا بالجزية .
أقول : لا ريب أن مواطن العبادة المعدة للمسلمين ينبغي تنزيهها من أدران المشركين فهم الذين لا يتطهرون من جنابة ولا يغتسلون من نجاسة فإن كان تلويثهم لمساجد المسلمين بالنجاسات أو استهزاؤهم بالعبادة مظنونا فذلك مفسدة وكل مفسدة ممنوعة ما لم يعارضها مظنة إسلام من دخل منهم المسجد لما يسمعه ويراه من المسلمين فإن تلك المفسدة مغتفرة بجنب هذه المصلحة التي لا يقادر قدرها وأما إذا كان تلويثهم المسجد غير مظنون فلا وجه للمنع ولا سيما قد تقرر أنه A كان ينزل كثيرا من وفود المشركين مسجده الشريف وهو أفضل من غيره من المساجد غير المسجد الحرام ثم قال في المسوى : قال مالك قال ابن شهاب : [ أن رسول الله A أجلى يهود خيبر ] قال مالك : وقد أجلى عمر بن الخطاب يهود نجران وفدك فأما يهود خيبر فخرجوا منها ليس لهم من الثمر ولا من الأرض شئ وأما يهود فدك فكان لهم نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله A كان صالحهم على نصف الثمر ونصف الأرض فأقام لهم عمر بن الخطاب نصف الثمر ونصف الأرض قيمته من ذهب وورق وإبل وحبال وأقتاب ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم منها قلت : عليه أهل العلم قالوا الحجاز يجوز للكافر دخولها بالإذن ولا يقيم بها أكثر من مقام السفر فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما أجلاهم أجل لمن يقدم منهم تاجرا ثلاثا انتهى *