باب آداب القاضي .
الأدب بفتح الهمزة والدال يقال أدب لرجل بكسر الدال وضمها أي صار أديبا في خلق وعلم وهو أخلاقه التي ينبغي له التخلق بها والخلق بالضم صورته الباطنة أي بيان ما يجب على القاضي أويسن له أن تأخذ به نفسه أوأعوانه من الآداب والقوانين التي تضبط أمور القضاة وتحفظهم عن الميل يسن كونه أي القاضي قويا بلا عنف لئلا يطع فيه الظالم لينا بلا ضعف لئلا يهابه المحق حليما لئلا يغضب من كلام الخصم فيمنعه الحكم متأنيا من التأني وهو ضد العجلة لئلا تؤدي عجلته إلى ما لا ينبغي متفطنا لئلا يخدع من بعض الخصوم لغرة قال في الشرح عالما بلغات أهل ولايته عفيفا أي كافا نفسه عن الحرام لئلا يطمع في ميله بأطماعه بصيرا بأحكام الحكام قبله لقول علي لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى تكمل فيه خمس خصال : عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشيرذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم ويسهل عليه الحكم وتتضح له طريقه و يسن سؤاله إن ولي في غير بلده عن علمائه ليشاورهم في الحوادث ويستعين بهم على قضائه و عن عدوله لاستناد أحكامه إليهم وثبوت الحقوق عنده بهم فيقبل أو يرد من يراه لذلك أهلا وليكون على بصيرة منهم و يسن إعلامهم بأن ينفذ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله البلد ليتلقوه لأنه أوقع له في النفوس وأعظم لحشمته من غير أن يأمرهم بتلقيه لأنه أنسب بمقامه و يسن دخوله بلد أولى الحكم فيه يوم اثنين أو يوم خميس أو يوم سبت [ لأنه A دخل في الهجرة المدينة يوم الاثنين وكذا من غزوة تبوك وقال بورك لأمتي في سبتها وخميسها ] وينبغي أن يدخلها ضحوة تفاؤلا لاستقبال الشهر لابسا أجمل ثيابه أي أحسنها لأنه تعالى يحب الجمال وقال [ خذوا زينتكم عند كل مسجد ] لأنها مجامع الناس وهنا يجتمع ما لا يجتمع في المساجد فهوأولى بالزينة وكذا أصحابه لأنه أعظم له ولهم في النفوس ولا يتطير أي لا يتشاءم وإن تفاءل فحسن لأنه A كان يحب الفأل الحسن وينهي عن الطيرة فيأتي الجامع فيصلي فيه ركعتين تحيته ويجلس مستقبلا القبلة لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة ويأمر القاضي بعهده فيقرأعلى الناس ليعلموا توليته واحتفاظ الامام على اتباع الأحكام وقدر المولى بفتح اللام عنده وحدود ولايته وما فوض إليه الحكم فيه و يأمر بمن يناديهم بيوم جلوسه للحكم ليعلمه من له حاجة فيأتي فيه ويقل من كلامه إلا لحاجة للكلام لأنه أهيب ثم يمضي إلى منزله المعد له ليستريح وينفذ أي يبعث ثقة ليتسلم ديوان الحكم بكسر الدال وحكى فتحها وهو الدفتر المعد لكتب الوثائق والسجلات والودائع ممن كان قاضيا قبله لأنه الأساس الذي يبني عليه وهو في يد الحاكم بحكم الولاية وقد صارت إليه ويأمر كاتبا ثقة يثبت ما تسلمه بمحضر عدلين احتياطا ثم يخرج يوم الوعد أي الذي وعد الناس بالجلوس فيه للحكم بأعدل أحواله غير غضبان ولا جائع ولا حاقن ولا مهموم بما يشغله عن الفهم لأنه أجمع لقلبه وأبلغ في تيقظه للصواب فيسلم على من يمر به ولو صبيا لأنه إما راكب أو ماش والسنة لكل منهما أن يسلم على من يمربه ثم يسلم على من بمجلسه لحديث [ من حق المسلم على المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه ] ويصلي إن كان بمسجد تحيته إن لم يكن وقت نهى كغيره وإلا يكن مسجدا خير بين الصلاة وتركها كسائر المجالس والأفضل الصلاة لينال ثوابها ويجلس على بساط أو نحوه يختص به ليتميز عن جلسائه لأنه أهيب له لأنه مقام عظيم يجب فيه إظهار الحرمة تعظيما للشرع ويدعو الله تعالى بالتوفيق للحق والعصمة من زلل القول والعمل لأنه مقام خطر وكان من دعاء عمر اللهم أرني الحق حقا ووفقني لاتباعه وأرني الباطل باطلا ووفقني لاجتنابه مستعينا أي طالب المعونة من الله تعالى متوكلا أي مفوضا أمره إليه ويدعو سرا لأنه أرجى للاجابة وأبعد من الرياء وليكن مجلسه في موضع لا يتأذى فيه بشيء لئلا يشتغل باله بما يؤذيه فسيحا كجامع فيجوز القضاء فيه بلا كراهة روى عن عمروعثمان وعلي أنهم كانوا يقضون في المسجد قال مالك القضاء في المسجد من أمر الناس القديم وكان A يجلس في المسجد مع حاجة الناس إليه في الفتيا والحكم وغيرهما من حوائج الناس وأما الجنب فيغتسل والحائض توكل أو تأتي القاضي في منزله ويصونه أي المسجد عما يكره فيه من نحو رفع صوت وكدار واسعة وسط البلد إن أمكن لتستوي أهل البلد في المضي إليه ولا يتخذ حاجبا ولا بوابا بلا عذر إلا في غير مجلس الحكم إن شاء لحديث عمرو بن مرة مرفوعا [ ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجات والخلة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته ] رواه أحمد و الترمذي ولأنهما ربما منعا ذا الحاجة لغرض النفس أو غرض الحطام ويعرض القصص ويجب تقديم سابق لسبقه إلى مباح وفي معناه المعلم إذا اجتمع عنده الطلبة و لا يقدم سابق في أكثر من حكومة لئلا يستوعب المجلس فيضر بغيره وإن ادعى المدعى عليه على المدعي حكم بينهما لأنه إنما يعتبر الأول في الدعوى لا في المدعى عليه ويقرع بينهم إن حضروا دفعة واحدة وتشاحوا في التقديم لأنه لا مرجح غيرها و يجب عليه أي القاضي العدل بين متحاكمين ترافعا إليه في لحظة أي ملاحظته ولفظه أي كلامه لهما ومجلسه ودخول عليه إلا إذا سلم أحدهما عليه فيرد عليه ولا ينتظر سلام الثاني لوجوب الرد فورا وإلا المسلم إذا ترافع إليه مع كافر فيقدم المسلم دخولا على القاضي ويرفع جلوسا لحرمة الاسلام قال تعالى : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } ودليل وجوب العدل بين الخصمين حديث عمرو بن أبي شيبة في كتاب القضاء عن أم سلمة مرفوعا [ من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ولا يرفعه على الآخر ] وفي رواية [ وليسوا بينهم في النظر والمجلس والاشارة ] ولأنه إذا ميز أحدهما حصر الآخر وانكسر وربما لم تقم حجته فيؤدي ذلك إلى ظلمه ولا يكره قيامه أي القاضي للخصمين فإذا قام لأحدهما وجب أن يقوم للآخر ويحرم أن يسار أحدهما أو يلقنه حجة أو يضيفه لأنه إعانة له على خصمه وكسرقلبه وروي عن علي أنه نزل به رجل فقال له ألك خصم قال نعم قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله A يقول : [ لا تضيفوا احد الخصمين إلا وخصمه معه ] أو يعلمه كيف يدعى إلا أن يترك ما يلزم ذكره في الدعوى كشرط عقد و سبب إرث و نحوه فله أن يسأله عنه ضرورة تحريرا للدعوى ولا ضررعلى صاحبه في ذلك وأكثر الخصوم لا يعلمه وليتضح للقاضي وجه الحكم وله أي القاضي أن يزن عن أحد الخصمين لأن فيه نفعا لخصمه و له أن يشفع له عند خصمه ليضع عن خصمه شيئا لأنها شفاعة حسنة وقد قال تعالى : { من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها } و [ عن كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي دينا كان عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما النبي A وهوفي بيته فخرج حدرد حتى كشف سجف حجرته فنادى يا كعب فقلت لبيك يا رسول الله فقال ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر قال قد فعلت يا رسول الله قال قم فاقضه ] رواه الجماعة إلا الترمذي أو أي ويجوز أن يشفع لينظره أي يمهل المدين بدينه لأنه أولى بالجواز من الوضع و للقاضي أن يؤدب خصما افتات عليه كقوله إرتشيت علي أو حكمت علي بغير الحق ونحوه بضرب لا يزيد على عشر وحبس وأن يعفوعنه ولو لم يثبته أي افتياته عليه ببينة لأن في توقفه على الإثبات جرحا وربما يكون ذريعة للافتيات و له أن ينتهزه إذا التوى عن الحق لئلا يطمع فيه ويسن للقاضي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب ومشاورتهم فيما يشكل إن أمكن وسؤالهم إذا حدثت حادثة ليذكروا جوابهم وأداتهم فيها فإنه أسرع لاجتهاده وأقرب لصوابه قال تعالى : { وشاورهم في الأمر } قال الحسن إن كان رسول الله A لغني عن مشاورتهم وإنما أراد أن يستن بذلك الحاكم بعده فإن اتضح له الحكم حكم باجتهاده ولا اعتراض عليه لأنه افتيات عليه وإلا يتضح له الحكم أخره حتى يتضح فلو حكم ولم يجتهد لم يصح حكمه ولو أصاب الحق إن كان من أهل الاجتهاد ويحرم عليه تقليد غيره ولو كان غيره أعلم منه كالمجتهدين في القبلة نقل أبو الحارث لا تقلد أمرك أحدا وعليك بالأثر وقال أحمد للفضل بن زياد ولا تقلد دينك الرجال فإنهم لم يسلموا أن يغلطوا و يحرم على قاض القضاء وهو غضبان كثيرا لخبرأبي بكرة مرفوعا [ لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان ] متفق عليه بخلاف غضب يسيرلا يمنع فهم الحكم أو أي ويحرم أن يقضي وهو حاقن أو في شدة جوع أو في شدة عطش أو هم أو ملل أو كسل أو نعاس أو برد مؤلم أو حر مزعج لأن ذلك كله في معنى الغضب لأنه يشغل الفكر الموصل إلى إصابة الحق غالبا وإن خالف وحكم وهو غضبان ونحوه فأصاب الحق نفذ حكمه وإلا لم ينفذ وكان للنبي A القضاء مع ذلك أي الغضب ونحوه لحديث [ مخاصمة الأنصاري والزبير في الشراج الحرة لما قال الأنصاري للنبي A أن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله A وقال للزبير اسبق يا زبيرثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار ] رواه الجماعة فلم يمنعه الغضب الحكم لأنه A لا يجوز عليه غلط يقر أي يقره الله تعالى عليه لا قولا ولا فعلا في حكم بخلاف غيره من الأمة وقوله في حكم احترازعما وقع لما مر بقوم يلحقون فقال لولم تفعلوالصلح حاله فخرج شيصا فمر بهم فقال ما لنخلكم قالوا قلت كذا وكذا قال : أنتم أعلم بأمر دنياكم رواه مسلم عن عائشة وأنس ويحرم على الحاكم قبوله رشوة بتثليث الراء لحديث ابن عمر قال [ لعن رسول الله A الراشي والمرتشي ] قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه أبو هريرة وزاد في الحكم رواه أبو بكر في زاد المسافر وزاد والرائش وهو السفيربينهما ولا إنما يرتشي ليحكم بغيرالحق أو يوقف الحكم عن الحق وهومن أعظم الظلم وكذا يحرم على حاكم قبول هدية لحديث أبي حميد الساعدي مرفوعا [ هدايا العمال غلول ] رواه أحمد ولأن القصد بها غالبا استمالة الحاكم ليعتني به في الحكم فتشبه الرشوة إلا الهدية ممن كان يهاديه قبل ولايته إذا لم يكن له حكومة فيباح له أخذها لانتفاء التهمة إذن ك ما يباح لمفت أخذ الهدية وردها أي الهدية من الحاكم أولى وقال القاضي يستحب له التنزه عنها فإن خالف الحاكم فأخذ الرشوة أو الهدية حيث حرمت ردتا لمعط لأنه كأنه أخذهما بغيرحق كالمأخوذ بعقد فاسد ويكره بيعه أي القاضي وشراؤه إلا بوكيل لا يعرف به أي أنه وكيله لئلا يحابي والمحاباة كالهدية وليس له أي القاضي ولا لوال أن يتجر لحديث أبي الأسود المالكي عن أبيه جده مرفوعا [ ما عدل وال اتجر في رعيته أبدا ] وإن احتاج إلى التجارة ولم يكن له يكفيه لم تكره له لأن أبا بكر قصد السوق ليتجرفيه حتى فرضوا له ما يكفيه ولوجوب القيام بعياله فلا يتركه لوهم مضرة وتسن له أي القاضي عيادة المرض وشهادة الجنائز وتوديع غاز وحاج ما لم يشغله ذلك عن الحكم لأنه من القرب وفيه أجرعظيم وله حضور بعض ذلك وترك بعضه لأنه يفعله لنفع نفسه بتحصيل الأجروالقربة بخلاف الولائم فإنه يراعى فيها حق الداعي فينكسر فيها قلب من لم يجبه إذا أجاب غيره وهو أي القاضي في دعوات الولائم كغيره لأنه A كان يحضرها وأمر بحضورها وقال [ ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله ] ومتى كثرت وازدحمت تركها كلها ولا يجيب قوما ويدع قوما بلا عذر لما تقدم فإن كان في بعضها عذر كمنكر أو بعد مكان أو اشتغل بها زمنا طويلا دون الأخرى أجاب من لا عذر له في تركها ويوصي القاضي وجوبا الوكلاء والأعوان ببابه بالرفق بالخصوم وقلة الطمع لئلا يضروا بالناس ويجتهد أن يكونوا شيوخا أو كهولا من أهل الدين والعفة والصيانة ليكونوا أقل شرا فإن الشباب شعبة من الجنون والحاكم تأتيه النساء وفي اجتماع الشباب بهن مفسدة ويباح لقاض قال في المبدع والأشهر أنه يسن له أن يتخذ كاتبا [ لأنه A استكتب زيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما ولكثرة اشتغال الحاكم بنفسه ونظره في أمر الناس فلا يمكنه تولي الكتابة بنفسه ] ويشترط كونه أي كاتب القاضي مسلما لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } وقال عمر : لا تؤمنوهم وقد خونهم الله ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم الله عدلا لأنه موضع أمانة ويسن كونه حافظا عالما لأن فيه إعانة على أمره وكونه حرا خروجا من الخلاف وكونه جيد الحظ لأنه أكمل وكونه عارفا قاله في الكافي لئلا يفسد ما يكتبه بجهله ويجلس الكاتب بحيث يشاهد القاضي ما يكتبه لأنه أمكن لإملائه عليه وأبعد للتهمة ويجعل القاضي القمطر بكسر القاف وفتح الميم وسكون الطاء أعجمي معرب وهو ما يجمع فيه القضايا مختوما بين يديه ليحفظ عن التغيير ويسن حكمه بحضرة شهود ليستوفي بهم الحقوق وتثبت بهم الحجج والمحاضر ويحرم على قاض تعيينه قوما بالقبول أي قبول الشهادة بحيث لا يقبل غيرهم لوجوب قبول شهادة من ثبتت عدالته ولا يصح ولاينفذ حكمه أي القاضي على عدوه كالشهادة عليه بل يفتي على عدوه لأنه لا إلزام في الفتيا بخلاف القضاء ولا يصح ولا ينفذ حكمه لنفسه ولا لمن لا تقبل شهادته لهم كزوجته وعمودي نسبه كالشهادة ولو كانت الخصومة بين والديه أو بين والده وولده لعدم قبول شهادته لأحدهما على الآخر فإن عرضت للقاضي أو لمن ترد شهادته له حكومة تحاكما إلى بعض خلفائه أو بعض رعيته فإن عمر حاكم أبيا إلى زيد بن ثابت وحاكم رجلا عراقيا إلى شريح وحاكم علي رجلا يهوديا إلى شريح وحاكم عثمان طلحة إلى جبيربن مطعم وله استخلافهم أي للقاضي إستنابة والده وولده ونحوهما عنه في الحكم مع صلاحيتهم كغيرهم كحكمه أي يجوز له أن يحكم لغيرهم أي لغيرمن لا تقبل شهادته له بشهادتهم كأن حكم على أجنبي بشهادة أبيه وابنه و كحكمه عليهم أي على من لا تقبل شهادته له فيصح حكمه على أبيه وإبنه وزوجته ونحوهم كشهادته عليهم