باب الفدية .
587 - ـ مسألة : ( وهي على ضربين : أحدهما على التخيير وهي فدية الأذى واللبس والطيب فله الخيار بين صيام ثلاثة أيام أو إطعامه ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين أو ذبح شاة ) أما فدية الأذى فهي على التخيير لما سبق في محظورات الإحرام من الآية وحديث كعب بن عجرة المتفق عليه وأما فدية اللبس والطيب فهي مقيسة على فدية الأذى لكونه ترفه بذلك في إحرامه فلزمته الفدية كالمترفه بحلق شعره ولا فرق بين قليل الطيب وكثيره وقليل اللبس وكثيره لأنه معنى حصل به الاستمتاع بالمحظور فاعتبر مجرد الفعل كالوطء .
وكذلك الحكم في كل دم وجب لترك واجب يعني أن ذلك على التخيير لا على الترتيب .
588 - ـ مسألة : ( وجزاء الصيد مثل ما قتل من النعم ) أجمع أهل العلم على وجوب الجزاء على المحرم بقتل الصيد وقال الله سبحانه : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم } 'سورة المائدة : الآية 95 ' فمن قتل الصيد ابتداء من غير سبب يبيح قتله ففيه الجزاء فأما إن اضطر إلى أكله فيباح له أكله بلا خلاف نعلمه ويلزمه ضمانه لأنه قتله لحاجة نفسه ودفع الأذى عنه من غير معنى حدث في الصيد يقتضي قتل فلزمه جزاؤه كحلق الرأس لدفع الأذى عنه وإن صال عليه فلم يقدر على دفعه إلا بقتله فله قتله ولا ضمان عليه لأنه ألجأه إلى قتله فلم يجب ضمانه كالآدمي الصائل ولو خلص صيدا من سبع أو شبكة فتلف بذلك فلا ضمان عليه لأنه فعل أبيح لحاجة الحيوان فلم يضمن ما تلف به كما لو داوى ولي الصبي فمات بذلك .
مسألة : ولا فرق بين العامد والمخطىء في وجوب الجزاء لما روى جابر قال : [ جعل رسول الله A في الضبع يصيده المحرم كبشا ] وقال في بيض النعام يصيده المحرم [ ثمنه ولم يفرق ] رواهما ابن ماجه ولأنه ضمان إتلاف أشبه مال الآدمي وعنه لا كفارة في الخطأ لأن الله سبحانه قال : { ومن قتله منكم متعمدا } 'سورة المائدة : الآية 96 ' فدليل خطابه أنه لا جزاء على الخاطىء .
مسألة : والصيد ما جمع ثلاثة أشياء : أن يكون مباح الأكل لا مالك له ممتنعا قاله بعض أهل اللغة فيخرج منه ما لا يحل أكله كسباع البهائم والمستخبث من الحشرات وما عليه ملك فما ليس بوحشي يباح للمحرم ذبحه وأكله كبهيمة الأنعام والخيل والدجاج لا نعلم بين أهل العلم في هذا خلافا والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال فلو استأنس الوحشي وجب فيه الجزاء ولو توحش الأنسي لم يجب فيه جزاء ولهذا وجب في الحمام اعتبارا بأصله .
مسألة : والواجب في صيد البر دون صيد البحر لقوله سبحانه : { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما } 'سورة المائدة : الآية 95 ' إذا ثبت هذا فجزاء الصيد مثله من بهيمة الأنعام وهي الإبل والغنم لقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } 'سورة المائدة : الآية 96 ' وليس المراد حقيقة المماثلة فإنها لا تتحقق بين النعم والصيود لكن أريد المماثلة من حيث الصورة والمشابهة من وجه وكونه أقرب بهيمة الأنعام به شبها لأن الصحابة Bهم أجمعوا على وجوب المثل فقال عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية : في النعامة بدنة وحكم أبو عبيدة وابن عباس في حمار الوحش بدنة وحكم عمر وعلي في الظبي بشاة وحكموا في الحمام بشاة .
589 - ـ مسألة : ( إلا الطائر فإن فيه قيمته ) في موضعه وهذا هو الأصل في الضمان بدليل سائر المضمونات من الأموال وتعتبر القيمة في موضع الإتلاف كما لو أتلف مال آدمي قوم في موضع الإتلاف كذا هاهنا .
590 - ـ مسألة : ( إلا الحمامة ففيها شاة والنعامة فيها بدنة ) لما سبق من قضاء الصحابة Bهم .
591 - ـ مسألة : ( ويتخير بين إخراج المثل وتقويمه بطعام فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما ) وعن أحمد أنها على الترتيب فيجب المثل أولا فإن لم يجد أطعم فإن لم يجد صام روي نحوه عن ابن عباس Bه لأن هدي المتعة على الترتيب وهذا آكد منه فإنه يفعل محظورا وعنه لا طعام في الكفارة وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام لأن من قدر على الإطعام قدر على الذبح قال : كذا قال ابن عباس ودليل الرواية الأولى قوله سبحانه : { هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما } 'سورة المائدة : الآية 95 ' و أو في الأمر للتخيير روي عن ابن عباس قال : كل شئ أوفهو مخير وأما ما كان فإن لم يجد فهو للأول الأول ولأن هذه الفدية تجب بفعل محظور فكان مخيرا بين ثلاثتها كفدية الأذى .
مسألة : فإذا اختار المثل ذبحه وتصدق به على مساكين الحرم لأن الله سبحانه قال : { هديا بالغ الكعبة } 'سورة المائدة : الآية 95 ' وإن اختار الإطعام فإنه يقوم المثل بدراهم والدراهم بالطعام ويتصدق به على المساكين كل مسكين مد من البر كما يدفع إليهم كفارة اليمين وإن اختار الصيام صام عن كل مد يوما لأنها كفارة دخلها الصيام والإطعام فكان اليوم في مقابلة المد ككفارة الظهار وعنه يصوم عن كل نصف صاع يوما روي عن ابن عباس واحتج به أحمد Bه .
592 - ـ ( الضرب الثاني على الترتيب وهو : التمتع يلزمه شاة فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ) لقوله سبحانه : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } 'سورة البقرة : الآية 196 ' .
593 - ـ مسألة : ( وفدية الجماع بدنة فإن لم يجد فصيام كصيام المتمتع ) لما سبق من إجماع الصحابة وكذلك الحكم في البدنة الواجبة بالمباشرة بالقياس على البدنة الواجبة بالوطء .
594 - ـ مسألة : ( وكذلك الحكم في دم الفوات ) [ لأن عمر Bه قال لهبار بن الأسود لما فاته الحج : إذا كان عام قابل فاحجج فإن وجدت سعة فأهد فإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعت إن شاء الله ] رواه الأثرم وعنه لا هدي عليه لأنه لو لزمه هدي لزم المحصر هديان بالفوات والإحصار والأول أصح لأنه قول عمر وجماعة من الصحابة وعنه لا قضاء عليه إن كانت نفلا فيخرج الهدي في عامه فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع .
595 - ـ مسألة : ( والمحصر يلزمه دم فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ) لقوله سبحانه : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } 'سورة البقرة : الآية 196 ' وثبت [ أن رسول الله A أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلوا فإن لم يجد صام عشرة أيام ] لأنه دم واجب للإحرام فكان له بدل ينتقل إليه كدم المتمتع والطيب واللباس .
596 - ـ مسألة : ( ومن كرر محظورا من جنس غير قتل الصيد فكفارة واحدة ) وذلك مثل من حلق ثم حلق أو لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب فالحكم فيه كما لو فعل ذلك دفعة واحدة وتجزئه كفارة واحدة لأنها تتداخل فهي كالحدود والأيمان ( فإن كفر عن الأول قبل فعل الثاني سقط حكم ما كفر عنه ) فصار كأنه لم يفعله وثبت لما بعده حكم المنفرد وهكذا لو كرر شيئا من محظورات الإحرام اللاتي لا يزيد الواجب فيها بزيادتها ولا يتقدر بقدرها فأما ما يتقدر الواجب بقدره وهو إتلاف للصيد فإن في كل واحد منها له جزاؤه سواء فعل مجتمعا أو متفرقا ولا يتداخل بحال ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني لما سبق وعن أحمد C إن كرره لأسباب - مثل إن لبس للبرد ثم لبس للحر ثم لبس للمرض - فكفارات وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة .
597 - ـ مسألة : ( وإن فعل محظورا من أجناس فلكل واحد كفارة ) وذلك مثل إن حلق وقلم ولبس وتطيب ووطىء فعليه لكل واحد كفارة وعنه إن مس طيبا ولبس وحلق فكفارة وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد ففي كل واحد دم ودليل الأولى أنه فعل محظورات من أجناس فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة والأيمان المختلفة .
598 - ـ مسألة : ( والحلق والتقليم والوطء وقتل الصيد يستوي عمده وسهوه ) يعني في وجوب الضمان لأنه ضمان إتلاف فاستوى عمده وخطؤه كمال الآدمي وأما الوطء فلأنه وطء في عبادة فاستوى عمده وسهوه كالوطء في رمضان ( وسائر المحظورات لا شئ في سهوه ) قال أحمد C : قال سفيان ثلاثة في الحج العمد والنسيان سواء : إذا أتى أهله وإذا أصاب صيدا وإذا حلق رأسه قال أحمد : إذا جامع أهله بطل حجه لأنه شئ لا يقدر على رده والشعر إذا حلقه فقد ذهب لا يقدر على رده والصيد إذا قتله فقد ذهب لا يقدر على رده فهذه الثلاثة العمد والخطأ والنسيان فيها سواء وكل شئ من النسيان بعد الثلاثة فهو يقدر على رده مثل إذا غطى المحرم رأسه ثم ذكر ألقاه عن رأسه وليس عليه شئ أو لبس خفا نزعه وليس عليه شئ وعنه أن الفدية تلزم الجميع لأنه هتك حرمة الإحرام فاستوى عمده وسهوه كحلق الشعر وتقليم الأظافر ودليل الأولى عموم قوله عليه السلام : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] .
599 - ـ مسألة : ( وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم ) لقوله سبحانه : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ' سورة الحج : الأية 33 ' الطعام كالهدي في اختصاصه بمساكين الحرم لقول ابن عباس : الهدي والطعام بمكة والصوم حيث شاء ولأنه طعام يتعلق بالإحرام فأشبه لحم الهدي .
مسألة : ومساكين الحرم من كان فيه سواء كان من أهله أو واردا إليه كالحاج وغيره وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم .
600 - ـ مسألة : ( إلا فدية الأذى فإنه يفرقها في الموضع الذي حلق فيه ) نص عليه واحتج بحديث علي حين ذبح عن الحسين بالسقيا ولأن النبي A أمر كعب بن عجرة بالفدية في الحديبية ولم يأمره ببعثه إلى الحرم .
601 - ـ مسألة : ( وهدي المحصر ينحره في موضعه ) لأن النبي A وأصحابه نحروا هداياهم بالحديبية وروي أن النبي A نحر هديه عند الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان وهي من الحل باتفاق أهل السير والنقل وقد دل على ذلك قوله سبحانه : { والهدي معكوفا أن يبلغ محله } 'سورة الفتح : الآية 25 ' ولأنه موضع تحلله فكان موضع ذبحه كالحرم وأما قوله سبحانه : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ' سورة البقرة : الآية 196 ' فمحمول على غير المحصر وقال ابن المنذر : إن ذلك ينصرف على وجهين : أحدهما أن بلوغه محله هو الذبح والنحر وإن كان في الحل وذلك في حق المحصر اقتداء بما فعل رسول الله A زمن الحديبية والثاني أن محله الذبح في الحرم وذلك في حق الآمنين لقوله سبحانه : { ثم محلها إلى البيت العتيق } ' سورة الحج : الآية 33 ' .
602 - ـ مسألة : ( وأما الصيام فيجزئه بكل مكان ) لا نعلم في هذا خلافا إلا في الصيام عن هدي المتعة فإن قوما اشترطوا أن يرجع إلى أهله وقال ابن عباس : الدم والطعام بمكة والصوم حيث شاء لأن الصيام لا يتعدى نفعه إلى أحد فلا معنى لتخصيصه بمكان بخلاف الهدي والإطعام فإنه يتعدى نفعه إلى من يعطاه