باب حد السرقة .
( ومن سرق ربع دينار من العين أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما يساوي أحدهما من سائر المال وأخرجه من الحرز قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت ) ولا يجب القطع إلا بشروط أربعة : أحدها السرقة ومعناها أخذ المال على وجه الخفية والاستتار ومنه استراق السمع فإن اختطف أو اختلس لم يكن سارقا ولا قطع عليه وقد روي [ عن النبي A أنه قال : ليس على الخائن ولا على المختلس قطع ] وفي حديث [ عن جابر قال : قال رسول الله A : ليس على المنتهب قطع ] رواهما أبو داود وقال : لم يسمعهما ابن جريج من أبي الزبير الشرط الثاني أن يكون المسروق نصابا وقيل يقطع في القليل والكثير لظاهر الآية ولما روى أبو هريرة قال : [ قال رسول الله A : لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده ] متفق عليه ولنا [ قول النبي A : لا تقطع إلا في ربع دينار فصاعدا ] متفق عليه ويحتمل أن الحبل يساوي ذلك وكذلك بيضة السلاح وروى ابن عمر [ أن رسول الله A قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ] متفق عليه قال ابن عبد البر : هذا أصح حديث يروى في هذا الباب لا يختلف أهل العلم في ذلك وفي هذا الحديث دليل على أن العروض تقوم بالدراهم لأن ثمن المجن قوم بها ولأن ما كان الذهب فيه أصلا كان الورق فيه أصلا كنصب الزكاة والديات وقيم المتلفات الشرط الثالث كون المسروق مالا فإن سرق ما ليس بمال كالحر فلا قطع فيه صغيرا كان أو كبيرا وقيل يقطع بسرقة الصغير لعموم الآية ولأنه غير مميز أشبه العمد وذكره أبو الخطاب رواية عن الإمام أحمد ولنا أنه ليس بمال فلا يقطع بسرقته كالكبير النائم الشرط الرابع أن يخرجه من الحرز كل أهل العلم على اشتراطه ولا نعلم عن أحد خلافهم إلا الحسن والنخعي وروي عن عائشة فيمن جمع المتاع في البيت : عليه القطع وعن الحسن مثل قول سائر أهل العلم قال ابن المنذر : وليس فيه خبر ثابت فهو كالإجماع منهم وحكي عن داود أنه لا يعتبر الحرز لأن الآية لا تفصيل فيها ولنا إجماع أهل العلم السابق على قوله وما روي عن عمرو بن شعيب [ أن رجلا من مزينة سأل النبي A عن الثمار فقال : من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شئ ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ] رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم وهذا الخبر يخص الآية كما خصصناها في اعتبار النصاب وإذا ثبت هذا في الحرز وما عد حرزا في العرف فإنه لما لم يثبت اعتباره في الشرع من غير تنصيص على بيانه علم أنه رد ذلك إلى العرف لأنه لا طريق إلى معرفته إلا من جهته إذا ثبت هذا فإن حرز الذهب والفضة والجواهر في الصناديق تحت الأغلاق والأقفال الوثيقة وحرز الثياب وما خف من المتاع كالصفر والنحاس والرصاص في الدكاكين والبيوت المقفلة في العمران فإن كان لابسا ثوب أو متوسدا له نائما عليه أو مستيقظا في أي موضع فهو محرز بدليل [ حديث رداء صفوان إذ سرق رداؤه وهو متوسده في المسجد فقطع النبي A سارقه ] ( رواه النسائي الحديث 4896 ) فإن تدحرج عن الثوب زال الحرز وحرز البقل وقدور الباقلاء بالشرائح من الخشب والقصب إذا كان في السوق حارس وحرز الخشب والحطب بالحظائر وتعبية بعضه على بعضه ويقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شئ منه على ما جرت به العادة وما في الفنادق مغلق عليه فهو محرز وإن لم يقيد .
1612 - ـ مسألة : ( فإذا وجدت هذه الشروط وجب قطع يده اليمنى من مفصل الكف وهو الكوع وحسمت ولا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى روي ذلك عن أبي بكر وعمر ولا مخالف لهما في الصحابة ولأن البطش بها أقوى فكان البداية بها أردع ويستحب أن تحسم اليد والرجل بعد القطع ومعناه أنه يغلى لها الزيت فإذا قطعت غمست فيه لتنسد أفواه العروق لئلا ينزف الدم وقد روي [ أن النبي A أتي بسارق سرق شملة فقال : اقطعوه واحسموه ] وهو حديث في إسناده مقال قاله ابن المنذر .
1613 - ـ مسألة : ( فإن عاد ثانيا قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت وبذلك قالت الجماعة إلا عطاء وحكي عنه أنه تقطع يده اليسرى لقوله سبحانه : { فاقطعوا أيديهما } 'سورة المائدة : الآية 38' وحكي ذلك عن ربيعة وداود ومذهب جماعة فقهاء الأمصار من الصحابة والتابعين على ما قلناه وقد روي عن أبي هريرة أن النبي A قال في السارق : [ إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] ولأنه في المحاربة تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى كذا ها هنا وإنما قطعت رجله اليسرى لأنه أرفق به ولأنه يمكن المشي على خشبة ولو قطعت رجله اليمنى ويده اليمنى لم يمكن ذلك .
1614 - ـ مسألة : ( فإن عاد حبس ولا يقطع غير يد ورجل ) وهو اختيار أبي بكر وروي عن علي والحسن والشعبي وعن أحمد أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة وفي الرابعة رجله اليمنى وفي الخامسة يعزر ويحبس وهو قول الشافعي لما روى أبو هريرة أن النبي A قال في السارق : [ إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ] ولأن اليسار تقطع قودا فتقطع في السرقة كاليمنى ولأن في قطع اليدين تعطل منفعة الجنس فلم يشرع في حد كالقتل ألا ترى أنا عدلنا في الثانية إلى قطع الرجل لهذا المعنى ولأن قطع اليدين بمنزلة الإهلاك فإنه لا يمكنه أن يتوضأ ولا أن يستنجي ولا أن يحترز من النجاسة ولا يزيلها عنه ولا يأكل ولا يبطش ولذلك أوجب الله سبحانه في يديه دية جميعه وقال علي Bه : إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يبطش بها ولا رجلا يمشي عليها .
1615 - ـ مسألة : ( ولا تثبت السرقة إلا بشهادة عدلين أو اعتراف مرتين ) وذلك أن القطع إنما يثبت بأحد أمرين : بينة أواعتراف فأما البينة فيشترط فيها أن يكون رجلين مسلمين حرين عدلين يصفا السرقة والحرز والجنس والنصاب وقدره ليزول الاختلاف فيه فيقولان : نشهد أن هذا سرق كذا قيمته كذا من حرز ويصفانه فيقولان : من حرز فلان ابن فلان بحيث يتميز عن غيره فإذا اجتمعت الشروط وجب الحد الثاني الاعتراف مرتين لما روى أبو داود بإسناده عن أمية المخزومي [ أن النبي A أتي بلص قد اعترف فقال له : وما أخالك سرقت قال : بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا فأمر به فقطع ] ولو وجب القطع بأول مرة ما أخره ويشترط أن يذكر في اعترافه شروط السرقة من النصاب والحرز وإخراجه منه .
1616 - ـ مسألة : ( ولا يقطع حتى يطالب المسروق منه بماله ) لأن المال يباح بالبذل والإباحة فيحتمل أن يكون ماله أباحه إياه أو وقفه على المسلمين أو على طائفة السارق منهم أو أذن له في دخول حرزه فاعتبرت المطالبة لتزول هذه الشبهة .
1617 - ـ مسألة : ( وإن وهبها للسارق أو باعه إياها قبل ذلك سقط القطع وإن كان بعده لم يسقط ) وذلك أنه إذا باعه العين أو وهبها له قبل رفعه إلى الحاكم سقط القطع عنه لأن المطالبة شرط لما سبق ولم يبق مطالب وإن كان البيع أو الهبة بعد أن رفعه إلى الحاكم لم يسقط القطع لما روى الزهري عن صفوان [ عن أبيه أنه نام في المسجد فتوسد رداءه فأخذ من تحت رأسه فجاء بسارقه إلى النبي A فأمر به النبي A : أن يقطع فقال صفوان : يا رسول الله لم أرد هذا ردائي عليه صدقة فقال رسول الله A : فهلا قبل أن تأتي به ] رواه ابن ماجه والجوزجاني وفي لفظ قال : [ فأتيته فقلت أتقطعه من أجل ثلاثين درهما ؟ أنا أبيعه وأنسئه ثمنها قال : فهلا كان قبل أن تأتيني به ] رواه الأثرم وأبو داود فهذا يدل على أنه لو وجد قبل رفعه إليه لدرأ القطع وبعده لا يسقط .
1618 - ـ مسألة : ( وإن نقصت عن النصاب بعد الإخراج لم يسقط القطع وإن كان قبله لم يجب ) لقول الله سبحانه : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } 'سورة المائدة : الآية 38' ولأنه نقصان حدث في العين فلم يمنع القطع كما لو نقص باستعماله وسواء نقصت قيمتها قبل الحكم أو بعده لأن سبب الوجوب السرقة فيعتبر النصاب حينئذ فأما إن نقص قبل الإخراج لم يجب القطع لعدم الشرط قبل تمام السبب وسواء نقصت بفعله أو بغير فعله وإن وجدت ناقصة ولم يدر هل كانت ناقصة حين السرقة أو حدث النقص بعدها لم يجب القطع للشك في شرط الوجوب ولأن الأصل عدمه .
1619 - ـ مسألة : ( وإذا قطع فعليه رد المسروق إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا ) لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين على مالكها إن كانت باقية فأما إن كانت تالفة فعلى السارق رد قيمتها أو مثلها إن كانت مثلية قطع أو لم يقطع موسرا كان أو معسرا لأنها عين يجب ضمانها بالرد إن كانت باقية ويجب غرمها إن كانت تالفة كما لو لم يقطع ولأن القطع والغرم حقان يجبان لمستحقين فجاز اجتماعهما كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك والحديث في ذلك يرويه سعد بن إبراهيم وقال ابن المنذر : مجهول ويحتمل أنه أراد بقوله إذا أقيم الحد على السارق فلا غرم عليه يعني ليس عليه غرامة أجرة القاطع