فصل : ومن أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إلى الحرم أو لجأ إليه من عليه قصاص لم يستوف منه حتى يخرج من الحرم فيستوفى منه روى ذلك عن ابن عباس وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن الجناية إذا كانت فيما دون النفس لم تستوف في الحرم ولأن حرمة النفس أعظم قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم حد جنايته حتى يخرج منه وإن هتك حرمة الحرم بالجناية هتكت حرمته بإقامة الحد عليه ودليل الأولى قول الله سبحانه : { ومن دخله كان آمنا } 'سورة آل عمران : الآية 97' قيل المراد بهذا الخبر الأمر وقال النبي A : [ إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وإنما حلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها فلا يسفك فيها دم ] وروى أبو شريح [ أن رسول الله A قال : إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد فيها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله A فقولوا : إن الله أذن لرسوله A ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب ] متفق عليه ووجه الحجة أنه حرم سفك الدم بها على الإطلاق وتخصيص مكة بهذا يدل على أنه أراد العموم فإنه لو أراد سفك الدم الحرام لم تختص به مكة فلا يكون التخصيص مفيدا ومن وجه آخر وهو أنه قال عليه السلام : إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها ومعلوم أنه إنما أحل له سفك دماء كانت حلالا في غير الحرم فحرمها الحرم ثم أحلت له ساعة ثم عادت الحرمة ثم أكد هذا بمنعه قياس غيره عليه والاقتداء به بقوله : فإن أحد ترخص بقتال رسول الله A فقولوا : إن الله أذن لرسوله A ولم يأذن لكم وهذا ظاهر إذا ثبت هذا فإنه ( لا يبايع ولا يشارى ) ولا يطعم ولا يؤوى ويقال له : اتق الله واخرج إلى الحل ليستوفى منك الحق الذي قبلك فإذا خرج استوفى حق الله D منه وإنما كان كذلك لأنه إذا أطعم وأوى تمكن من الإقامة أبدا فيضيع الحق الذي عليه وإذا منع ذلك كان وسيلة إلى خروجه فيقام فيه حق الله D .
1591 - ـ مسألة : ( وإن فعل ذلك في الحرم استوفى منه فيه ) لا نعلم في ذلك خلافا وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عباس قال : من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شئ وقال الله سبحانه : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } 'سورة البقرة : الآية 191' فأباح قتلهم عند قتالهم في الحرم ولأن أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عند ارتكاب المعاصي حفظا لأنفسهم وأموالهم وأعراضهم كما يحتاج إليه غيرهم فلو لم يشرع الحد في حق من ارتكبه في الحرم لتعطلت حدود الله في حقهم وفاتت هذه المصالح التي لا بد منها ولا يجوز الإخلال بها ولأن الجاني في الحرم هاتك لحرمته فلا ينتهض الحرم لتحريم دمه وصيانته بمنزلة الجاني في دار الملك لا يعصم لحرمة الملك بخلاف الملتجىء إليها بجناية صدرت منه في غيرها .
1592 - ـ مسألة : ( وإن أتى حدا في الغزو لم يستوف منه حتى يخرج من دار الحرب ) لما [ روي عن بسر بن أرطاة أنه أتي برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال : لولا أني سمعت رسول الله A يقول : لا يقطع في الغزاة لقطعتك ] وفي لفظ [ لا تقطع الأيدي في الغزاة ] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ولأنه إجماع الصحابة وروى سعيد في سننه أن عمر كتب إلى الناس : لا تجلدن أمير جيش ولا سرية ولا رجلا من المسلمين حدا وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تحمله حمية الشيطان فيلحق بالكفار وعن أبي الدرداء مثل ذلك وعن علقمة قال : كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان وعلينا الوليد بن عقبة فشرب الخمر فأردنا أن نجلده فقال حذيفة : أتجلدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم وأتي سعد بأبي محجن يوم القادسية وقد شرب الخمر فأمر به إلى القيد فلما التقى الناس قال أبو محجن : .
( كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا على وثاقيا ) .
فقال لابنة حفصة امرأة سعد : أطلقيني ولله علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد وإن قتلت استرحتم مني قال فخلته حين التقى الناس وكانت بسعد جراحة فصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء ثم أخذ رمحا فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هزمهم الله وجعل الناس يقولون هذا ملك لما يرونه يصنع وجعل سعد يقول : الصبر صبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم الله العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد فأخبرت ابنة حفصة سعدا بما كان من أمره فقال سعد : لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى الله به المسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله فقال أبو محجن : قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها فأما إذا بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا وهذا اتفاق لم يظهر خلافه فأما إذا خرج من دار الحرب فإنه يقام عليه الحد لعموم الآيات والأخبار وإنما أخر لعارض كما يؤخر لمرض أو نحوه فإذا زال العارض أقيم ولهذا قال عمر : حتى يقطع الدرب قافلا