باب حد الزنى .
1593 - ـ مسألة : الزاني ( من أتى الفاحشة في قبل أو دبر من امرأة لا يملكها أو من غلام أو من فعل ذلك به ) لا خلاف بين أهل العلم في أن من وطىء امرأة في قبلها لا شبهة له في وطئها أنه زان فأما إن وطئها في دبرها فهو أيضا زان لأنه وطىء امرأة في فرجها ولا ملك له فيها ولا شبهة فكان زانيا كما لو وطىء في القبل ولأن الله سبحانه قال : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } 'سورة النساء : الآية 15' الآية ثم بين النبي A أن الله قد جعل لهن سبيلا : [ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ] والوطء الحرام في الدبر فاحشة لقوله سبحانه في قوم لوط : { أتأتون الفاحشة } 'سورة النمل : الآية 54' يعني الوطء في أدبار الرجال .
1594 - ـ مسألة : من تلوط بغلام فحكمه حكم الزاني في إحدى الروايتين وفي الأخرى يقتل بالرجم بكرا كان أو ثيبا وهو قول علي وابن عباس وجابر بن زيد ووجه ذلك قول النبي A : [ من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ] رواه أبو داود وفي لفظ [ فاقتلوا الأعلى والأسفل ] واحتج الإمام أحمد بعلي أنه كان يرى رجمه ولأن الله تعالى عذب قوم لوط بالرجم فينبغي أن يعاقب بمثل ذلك ودليل الأولى أن النبي A قال : [ إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ] ولأنه إيلاج في فرج آدمي أشبه الإيلاج في فرج المرأة وإذا ثبت أنه زان فيدخل في عموم قوله سبحانه : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } 'سورة النور : الآية 2' وعموم الأخبار فيه .
1595 - ـ مسألة : ( ومن فعل ذلك به ) يعني أن يكون زانيا إذا وطىء في الدبر رجلا كان أو امرأة لقوله عليه السلام : إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان وأما إذا وطىء الرجل المرأة في دبرها فهو زان أيضا لأنه وطئها في فرجها فأشبه وطأها في قبلها .
1596 - ـ مسألة : ( فحده الرجم إن كان محصنا أو جلد مائة وتغريب عام إن لم يكن محصنا ) فالزاني المحصن يجب عليه الرجم بالأحجار حتى يموت لم يخالف في الرجم إلا الخوارج قالوا : الجلد للبكر والثيب لعموم آية الحد قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن المرجوم يدام عليه الرجم حتى يموت وقد رجم النبي A اليهوديين وماعزا حتى ماتوا وعنه يجلد ثم يرجم فعله علي وروي عن ابن عباس وأبي ذر وأبي وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز ونص على الأولى الأثرم في سننه واختاره لأن جابرا [ روى أن النبي A رجم ماعزا ولم يجلده وقال : أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] ولم يأمره بجلدها ورجم الغامدية ولم يجلدها ورجم عمر وعثمان ولم يجلدا وهذا كان آخرا فيجب تقديمه في العمل به ولأن الحدود إذا اجتمعت وفيها قتل سقط ما سواه وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة : إنه أول حد نزل وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله A ولم يجلده ولأنه حد يوجب القتل فلم يجب معه جلد كالردة ونحو هذا نقل إسماعيل بن سعيد ووجه الرواية الأخرى قوله سبحانه : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } 'سورة النور : الآية 2 ' وهذا عام ثم جاءت السنة بالرجم فوجب الجمع بينهما فروى عبادة بن الصامت [ أن النبي A قال : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم ] رواه مسلم وأبو داود وهذا صريح ثابت بيقين لا يترك إلا بيقين مثله والأحاديث الباقية ليست صريحة فإنه ذكر الرجم ولم يذكر الجلد فلا يعارض به الصريح فعلى هذا يبدأ بالجلد أولا ثم يرجم .
1597 - ـ مسألة : ( والمحصن هو الحر البالغ العاقل الذي قد وطىء زوجة مثله في هذه الصفات في قبلها في نكاح صحيح ) وذلك أن الرجم لا يجب إلا على المحصن بإجماع أهل العلم وللإحصان شروط سبعة : الأول الحرية في قول أكثرهم فأما العبد والأمة فلا يجب عليهما الرجم لأن الله سبحانه قال : { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } 'سورة النساء : الآية 25' والرجم لا يتنصف وحكم العبد حكم الأمة في ذلك الشرط الثاني والثالث البلوغ والعقل لقوله عليه السلام : الثيب بالثيب جلد مائة والرجم فاعتبر الثيوبة خاصة ولو كانت تحصل قبل ذلك لكان يؤدي إيجاب الرجم على الصبي والمجنون وهذا أولى من القياس وقال بعض أصحاب الشافعي : الإحصان الوطء في النكاح الصحيح وسائر الشروط معتبرة للرجم لا للإحصان ومعناه أنه لو وطىء من هو صبي أو مجنون في نكاح صحيح ثم عقل المجنون وبلغ الصبي وزنيا رجما لأنه وطء محل للزوج الأول فأشبه الوطء في حال الكمال ولنا ما سبق الشرط الرابع أن يوجد الكمال فيهما جميعا حال الوطء فيطأ الرجل العاقل الحر امرأة عاقلة حرة لأنه إذا كان أحدهما ناقصا لم يكمل الوطء ولا يحصل به الإحصان كما لو كانا غير كاملين الخامس أن يكون الوطء في القبل فلو وطىء في الدبر أو فيما دون الفرج لم يحصل الإحصان لأنه ليس بمحل الوطء السادس أن يكون في نكاح ولا خلاف بين أهل العلم في أن الزنى ووطء الشبهة لا يصير به أحدهما محصنا ولا نعلم بينهم خلافا في أن التسري لا يحصل به الإحصان لواحد منهما لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه أحكامه السابع أن يكون النكاح صحيحا فإن كان فاسدا لم يحصل به الإحصان لأن وطء في غير ملك فأشبه وطء الشبهة .
1598 - ـ مسألة : ( ولا يثبت الزنى إلا بأحد أمرين : إقراره به أربع مرات مصرحا بذكر حقيقته أو شهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنى ويجيئون في مجلس واحد ويتفقون على الشهادة بزنى واحد ) وذلك أن الزنى إنما يثبت بأحد شيئين : إقرار أو بينة فإن ثبت بإقرار اعتبر إقرار أربع مرات وقال الشافعي وغيره : يحد بإقراره مرة لقول النبي A : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] وفي حديث الجهنية أنه رجمها وإنما اعترفت مرة ولأنه حق فأشبه سائر الحقوق ولنا ما روى أبو هريرة قال : [ أتى رجل من الأسلميين رسول الله A وهو في المسجد فقال : يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه حتى ثنى ذلك أربع مرات فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله A فقال : أبك جنون ؟ قال : لا قال : فهل أحصنت ؟ قال : نعم فقال رسول الله A : ارجموه ] متفق عليه ولو وجب الحد بمرة لم يعرض عنه رسول الله A لأنه لا يجوز ترك حد وجب لله سبحانه وروى نعيم ابن هزال حديثه وفيه [ حتى قالها أربع مرات فقال رسول الله A : إنك قد قلتها أربع مرات فبمن ؟ قال : بفلانة ] رواه أبو داود وهذا تعليل منه يدل على أن إقرار الأربع هي الموجبة وقد روى أبو بردة الأسلمي أن أبا بكر الصديق قال له عند النبي A : إن أقررت أربعا رجمك رسول الله A فأقره رسول الله A على ذلك ولم ينكره فكان بمنزلة قوله لأنه لا يقر على الخطأ ولأن أبا بكر قد علم هذا من حكم النبي A ولولا ذلك لما تجاسر على قوله بين يديه فأما أحاديثهم فإن الاعتراف لفظ المصدر يقع على القليل والكثير وحديثنا يفسره ويبين أن الاعتراف الذي ثبت به كان أربعا .
مسألة : ويعتبر أن يصرح بحقيقة الزنى لتزول الشبهة لأن الزنى يعبر به عما لا يوجب الحد وقد [ روى ابن عباس أن النبي A قال لماعز : لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت قال : لا قال : أفنكتها - لا يكنى - قال : نعم فعند ذلك أمر برجمه ] رواه البخاري وفي رواية عن أبي هريرة قال : [ أنكتها ؟ قال : نعم قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ؟ قال : نعم قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر ؟ قال : نعم قال : هل تدري ما الزنى ؟ قال : نعم أتيت منها حراما كما يأتي الرجل من امرأته حلالا ] وذكر الحديث رواه أبو داود .
مسألة : قد سبق أن الزنى إنما يثبت بأحد شيئين : إقرار أو بينة وقد مضى الإقرار وأما البينة ( فشهادة أربعة رجال أحرار عدول يصفون الزنى ) فيعتبر لشهود الزنى شروط : الأول أن يكونوا أربعة وهذا إجماع لقوله سبحانه : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء } 'سورة النور : الآية 13' وقال : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } 'سورة النساء : الآية 15' الشرط الثاني أن يكونوا رجالا كلهم فلا تقبل فيه شهادة النساء لأن في شهادتهن شبهة والحدود تدرأ بالشبهات الثالث الحرية فلا تقبل فيه شهادة عبيدى لا نعلم في ذلك خلافا إلا عن أبي ثور فإن شهادتهم عنده مقبولة ولنا أنه مختلف في قبول شهادتهم في جميع الحقوق فيكون ذلك شبهة في درء ما يدرأ بالشبهات الرابع أن يكونوا عدولا ولا خلاف في اشتراطها فإن العدالة مشترطة في سائر الشهادات وها هنا مع مزيد الاحتياط أولى ويكونوا مسلمين ولا نعلم في هذا خلافا فلو شهد أربعة من أهل الذمة على ذمي أنه زنى بمسلمة فعليهم الحد ولا حد على المشهود عليه الخامس أن يصفوا الزنى فيقولوا رأينا ذكره في فرجها كالمرود في المكحلة والرشأ في البئر لما روى في قصة ماعز لما أقر عند النبي A بالزنى قال : حتى غاب ذلك منك في ذلك منها كما يغيب المرود في المكحلة والرشأ في البئر ؟ قال : نعم وإذا اعتبر التصريح في الإقرار كان اعتباره في الشهادة أولى ولأنهم إذا لم يصفوا الزنى احتمل أن يكون المشهود به لا يوجب الحد فاعتبر كشفه .
1599 - ـ مسألة : ( ويجيئون في مجلس واحد ) وحو شرط سادس في الشهود أن يأتوا الحاكم في مجلس واحد وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم فعليهم الحد وقيل لا يشترط لقوله سبحانه : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء } ولم يذكر المجلس ولأن كل شهادة مقبولة إذا اتفقت تقبل وإن افترقت في مجالس كسائر الشهادات ولنا أن عمر Bه شهد عنده أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ولأنه لو شهد الثلاثة فحدهم ثم جاء الرابع فشهد لم تقبل شهادته ولولا اشتراط المجلس لكملت شهادتهم به ويفارق هذا سائر الشهادات وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط ولهذا لم تذكر العدالة وصفة الزنى .
1600 - ـ مسألة : ( ويشترط أن يتفقوا على الشهادة بزنى واحد ) فلو شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت واثنان أنه زنى بها في بيت آخر أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد به صاحباهما واختلفوا في اليوم فالجميع قذفة وعليهم الحد لأنهم لم تكمل شهادة أربعة على فعل واحد فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما وحكي عن الإمام أحمد رواية ثانية أنه يجب الحد على المشهود عليه لأن الشهادة قد كملت عليه وهو اختيار أبي بكر قال أبو الخطاب : ظاهر هذه الرواية أنه لا يعتبر كمال الشهادة على فعل واحد قال القاضي قال أبو بكر : لو شهد اثنان أنه زنى بها بيضاء وشهد اثنان أنه زنى بها سوداء فهم قذفة وهذا ينقض عليه قوله : ولو شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية من هذا البيت وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية أخرى منه فإن كانت الزاويتان متباعدتين بحيث لا يمكن أن يوجد الفعل الواحد فيهما فالقول فيهما كالقول فيما إذا اختلفا في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم وحد المشهود عليه وقال الشافعي : لا حد عليه لأن شهادتهم لم تكمل فأشبه ما لو أختلفا في البيتين ولنا أنه أمكن صدق الشهود عليه بأن يكون ابتداء الفعل في إحدى الزاويتن وتمامه في الأخرى فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا على موضع واحد فإن قيل قد يمكن أن تكون الشهادة ها هنا على فعلين فلم أوجبتم الحد والحدود تدرأ بالشبهات ؟ قلنا : يبطل هذا فيما إذا اتفقوا على موضع واحد فإنه يمكن أن تكوت الشهادة على فعلين بأن يكون قد فعل ذلك في ذلك الموضع مرتين ومع هذا لا يمتنع وجوب الحد فكذا ها هنا