باب تحمل الشهادة وأدائها .
لا يجوز تحملها وأداؤها إلا عن علم لقول الله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } وقوله سبحانه : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } فإن كانت الشهادة على فعل كالخيانة والغصب لم تجز إلا عن مشاهدة لأنه لا يعمل إلا بها فإن أراد أن ينظر إلى فرجي الزانيين ليتحمل الشهادة عليهما جاز لأن [ سعد بن عبادة قال للنبي A : أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال النبي A : نعم ] ولأن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر Bه فلم ينكر عليهم نظرهم .
فصل .
وإن كانت الشهادة على قول كالبيع والنكاح والطلاق والرجعة والإقرار لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول ومعرفة القائل يقينا لأن العلم لا يحصل بدونهما وإن لم يحصل العلم إلا بمشاهدة القائل اعتبر ذلك لتوقف العلم عليه وإن حصل العلم بدونه لمعرفته صوت القائل كفى لأنه علم المشهود عليه فجازت الشهادة عليه كما لو رآه .
فصل .
وتجوز الشهادة بما علمه بالاستفاضة في تسعة أشياء : النسب والنكاح والملك المطلق والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاية والعزل لأننا نشهد أن فاطمة Bها ابنة رسول الله A وزوج علي Bه وأن نافعا مولى ابن عمر وأنهم قد ماتوا ونعلم ذلك يقينا ولم نشاهده قال مالك : ليس عندنا أحد يشهد على أجناس أصحاب رسول الله A إلا على السماع ولأن هذه الأمور يتعذBه في الغالب معرفة أسبابها ويحصل العلم فيها بالاستفاضة فجاز أن يشهد عليها بها كالنسب وظاهر كلام أحمد و الخرقي أنه لا يشهد بذلك حتى يسمعه من عدد كثير يحصل له به العلم لأنه الشهادة لا يجوز إلا على ما علمه وقال القاضي : يكفي أن يسمع من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما فإن الحق يثبت بقول اثنين فإن سمع رجلا يقر بنسب أب أو ابن وصدقة المقر به جاز أن يشهد به لأنها شهادة على إقرار وإن سكت شهد به أيضا لأن السكوت في النسب إقرار به بدليل أن من بشر بولد فسكت كان مقرا به ويحتمل أن لا يشهد به حتى يكرر لأن السكوت محتمل فاعتبر له التكرار ليزول الاحتمال وإن كذبه المقر به لم يشهد به .
فصل .
وإن سمع إنسانا يقر بحق جاز أن يشهد عليه وإن لم يقل له : اشهد علي لأنه سمع إقراره يقينا فجاز أن يشهد به كما يشهد على الفعل برؤيته وعنه : لا يشهد حتى يستدعيه المقر ذلك فيقول : اشهد علي قياسا على الشهادة وعنه : إن سمعه يقر بالدين شهد عليه لأنه معترف بثبوته وإن سمعه يقر بسببه كالقرض ونحوه لم يشهد به لأنه يجوز أن يكون قد وفاه وعنه : يجوز أن يشهد بما سمعه ولا يجب أداؤه حتى يقول له : اشهد علي فإذا قاله وجب عليه الأداء إذا دعي لقول الله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } قال : إذا أشهدوا والأول المذهب لأنه يشهد بما سمعه يقينا فأشبه الشهادة بالاستفاضة وفارق الشهادة على الشهادة لأنها ضعيفة فاعتبر تقويتها بالاستدعاء .
فصل .
ومن رأى في يد إنسان شيئا مدة يسيرة لم يجز أن يشهد له بالملك لأن ملك غيره قد يكون في يده ويجوز أن يشهد له باليد لأنه شاهدها وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه تصرف الملاك من النقص والبناء والسكنى والاستغلال ونحوه جاز أن يشهد له بالملك في قول ابن حامد لأن اليد دليل الملك واستمرارها من غير منازع يقويها فجرت الاستفاضة ويحتمل أن لا يشهد له إلا باليد لأن اليد قد تكون من غصب وتوكيل وإجارة وعارية فلم تحصر في الملك فلم تجز الشهادة به مع الاحتمال .
فصل .
وتجوز شهادة الأعمى بالاستفاضة لأنه يحصل له العلم بها كالبصير وبالترجمة لأنه يترجم ما يسمعه عند الحاكم وفيما طريقه السماع إذا عرف القائل يقينا لأنه تجوز روايته بالسماع واستمتاعه بزوجته فجازت شهادته كالبصير ولا يجوز أن يشهد على ما طريقه الرؤية لأنه لا رؤية له فإن تحمل الشهادة عليها وهو بصير ثم عمي جاز أن يشهد إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه لأنه يشهد على ما يعلمه فإن لم يعرفه إلا بعينه لم يشهد عليه إلا أن يتيقن صوته فيجوز أن يشهد عليه لعلمه به قال القاضي : يجوز أن يشهد عليه إذا وصفه بما يتميز به ويحتمل ألا يشهد لأن هذا مما لا ينضبط غالبا .
فصل .
ولا تجوز الشهادة حتى يعرف المشهود عليه والمشهود له نص عليه أحمد وقال : لا يشهد على امرأة حتى ينظر إلى وجهها ويعرف كلامها فإن كانت ممن عرف اسمها ودعيت وذهبت وجاءت فليشهد وإلا فلا يشهد ولا يجوز أن يقول لرجل : أتشهد أن هذه فلانة ؟ ويشهد على شهادته قال القاضي : يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب لتجويز الشهادة بالاستفاضة قال : ولا يشهد على امرأة إلا بإذن زوجها ولا يشهد لرجل على رجل بحق وهو لا يعرف اسميهما إلا إذا كانا شاهدين فقال أشهد أن لهذا على هذا كذا فأما إذا كانا غائبين فلا .
فصل .
ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلم قال أحمد : لا يشهد على الوصية المختومة حتى يقرأها فإن حضر جماعة فقرأ الكتاب بعضهم وسمعه بعضهم جاز لجميعهم الشهادة به .
فصل .
ويعتبر في أداء الشهادة الإتيان بلفظها فيقول : أشهد بكذا فإن قال : أعلم وأتيقن أو أحق ونحوه لم يعتد به لأنها مشتقة من اللفظ وإذا شهد بأرض أو دار فلا بد من ذكر حدودها لأنها لا تعلم إلا بذلك وإن شهد بنكاح اشترط ذكر شروطه من الولي والشهود والإيجاب والقبول لأن الناس يختلفون فيها وإن شهد بالرضاع احتاج إلى وصفه وأنه ارتضع من ثديها أو من لبن حلب منه وذكر عدد الرضعات وأنه في الحولين ولو شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف الناس فيما يصير به ابنا .
وإن رأى امرأة أخذت صبيا تحت ثيابها فأرضعته لم يجز أن يشهد برضاعه لأنه يجوز أن يتخذ شيئا على هيئة الثدي يمتصه غير الثدي وإن شهد بالجناية ذكر صفتها فيقول : ضربه بالسيف فقتله أو أماته أو فمات منه أو ضربه فأوضحه وإن قال : ضربه بالسيف فمات أو فاتضح أو فوجدته ميتا أو موضحا لم تصح شهادته لأنه قد يموت أو يتضح من غير ضربة وإن قال : ضربه فسال دمه لم تثبت البازلة كذلك وإن قال فأسال دمه ثبتت وإن قال : ضربه فأوضحه فوجدت في رأسه موضحتين وجب دية موضحة لأنه قد أثبتها ولم يجب قصاص لأننا لا ندري أتيهما التي شهد بها .
فصل .
ومن شهد بالزنا فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها لئلا يراه على بهيمة أو جارية ابنه فيعتقده زنا ويحتمل أن لا يقتصر إلى ذكر المزني بها لأنه لا يفتقر إليه في الإقرار ويفتقر إلى ذكر صفة الزنا وأنه رأى ذكره في فرجها لأن زيادا شهد على المغيرة فلم يذكر ذلك فلم يقم الحد عليه فإن لم يذكر الشهود ذلك سألهم الحاكم عنه وهل يفتقر إلى ذكر الزمان والمكان ؟ يحتمل وجهين : .
أحدهما : لا يفتقر إلى ذكرهما لأن الأزمنة في الزنا واحد فلا تختلف .
والثاني : يفتقر إلى ذكره لتكون شهادتهم على فعل واحد لئلا يكون ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر ولأن الناس اختلفوا في الشهادة بالحد مع تقادم الزمان فقال ابن أبي موسى : لا تقبل لأن عمر بن الخطاب Bه قال : من شهد رجل بحد فلم يشهد عليه حين يصيبه فإنما يشهد على ضغن وقال غيره من أصحابنا : تقبل لأنها شهادة بحق فجازت مع تقادم الزمان كالقصاص ولأنه قد يعرض ما يمنعه الشهادة في حينها ويتمكن منها بعد ذلك ومن شهد على سرقة ذكر السارق والمسروق منه الحرز والنصاب لأن الحكم يختلف باختلافها .
ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتدا فلم يجز الحكم به قبل البيان كما لا يجوز الحكم بجرح الشاهد قبل بيان الجرح .
فصل .
ويجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالوقوف عن الشهادة في حدود الله تعالى لأن عمر Bه عرض لزياد في شهادته على المغيرة فقال : إني لأرجو أن لا يفضح الله على يدك أحدا من أصحاب محمد A وقال أبو الخطاب : في ذلك وجهان .
فصل .
وكل حق الله تعالى كالحدود والحقوق المالية وما كان حقا لآدمي غير معين كالوقوف على الفقراء والمساجد والمقبرة المسبلة فلا يفتقر أداء الشهادة فيه إلى تقدم دعوى لأنه لا يستحقها آدمي معين فيدعيها وكذلك شهد أبو بكرة وأصحابه من غير دعوى وما عدا ذلك فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد تقدم الدعوى لأن الشهادة فيه حق لآدمي فلا يستوفى إلى بمطالبة وإذنه .
فصل .
ومن كان له على غيره حق فقضى بعضه وأشهد البينة بقضائه ثم جحد الباقي شهد الشهود للمدعي بالدين وعليه بما اقتضى وإن قال : أشهد أن عليه أن عليه ألفا ثم قال : قضاه منه بعضه أفسد شهادته لأن ما قضاه لم يبق عليه وإن لم يقبض منه شيئا فقال المدعي للشاهد : اشهد لي ببعض الدين فعنه : أنه لا يشهد إلا كما تحمل لقول الله تعالى : { ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها } وقال أبو الخطاب : عندي يجوز ذلك لأن من شهد بألف فهو شاهد بخمسمائة وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد أو نقص قبلت ما لم يحكم بشهادته وإن ادعت عنده شهادة فأنكر ثم شهد بها وقال : كنت أنسيتها قبلت لأن ما قاله محتمل فلا محتمل فلا يجوز تكذيبه مع إمكان تصديقه