كتاب الأقضية .
القضاء فرض على الكفاية بدليل قول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ولأن النبي A حكم بين الناس وبعث عليا إلى اليمن للقضاء وحكم الخلفاء الراشدون وولوا القضاة في الأمصار و لأن الظلم في الطباع فيحتاج إلى حاكم ينصف المظلوم فوجب نصبه فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحدا تعين عليه فإن امتنع أجبر عليه لأن الكفاية لا تحصل إلا به وعن أحمد : أنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به ؟ قال : لا يأثم وهذا يدل على أنه لا يجب عليه الدخول فيه لأن عليه في التولي خطرا وغررا فإن النبي A قال : [ من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن فلم يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره فعلى هذا القول يكره له طلبه لما فيه من الخطر ولأن السلف Bهم كانوا يأبون القضاء أشد الإباء ويفرون منه وإن طلب فالأولى أن لا يدخل فيه لأنه أسلم له وقال ابن الحامد : إن كان خاملا إذا ولي نشر علمه فالأفضل الدخول فيه لما يحصل من نشر العلم وإن كان ينشر علمه بغير ولاية فالأفضل أن لا يدخل فيه لأن الاشتغال بنشر العلم مع السلامة أفضل فأما من يوجد غيره ممن يصلح للقضاء فلا يجب عليه الدخول فيه ويكره له طلبه لما روى أنس أن النبي A قال : [ من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده ] قال الترمذي : هذا حديث حسن .
وإن طلب فالأفضل له على قول ابن حامد على التفصيل الماضي وأما من لا يحسن القضاء فيحرم عليه الدخول فيه لأن النبي A قال : [ القضاة ثلاثة : واحد في الجنة واثنان في النار ] إلى قوله : [ ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار ] رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة .
فصل .
و يجوز للقاضي أخذ الرزق عند الحاجة لما روي أن أبا بكر Bه لما ولي الخلافة أخذ الذراع وخرج إلى السوق فقيل له : لا يسعك هذا فقال : ما كنت لأدع أهلي يضيعون من أجلكم ففرضوا له كل يوم درهمين وبعث عمر Bه إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا وابن مسعود قاضيا و عثمان بن حنيف ماسحا وفرض لهم كل يوم شاة نصفها لعمار والنصف الأخر بين عبد الله و عثمان و كتب إلى معاذ و أبي عبيدة في الشام : أن انظروا رجالا من صالحي من قبلكم فاستعلموهم على القضاء و ارزقوهم و أوسعوا عليهم من مال الله فأما مع عدم الحاجة ففيه وجهان : .
أحدهما : الجواز لما ذكرنا و لأنه يجوز للعامل الأخذ على العمالة مع الغنى فكذلك القضاء .
و الثاني : لا يجوز لأنه يختص أن يكون فاعله من أهل القربة فلم يجز أخذ الأجرة عليه كالصلاة قال أحمد : ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجرا وإن كان فبقدر شغله مثل ولي اليتيم وإذا قلنا : يجوز أخذ الرزق فلم يجعل له شيء فقال : لا أقضي بينكما إلا بجعل جاز .
فصل .
و يشترط للقضاة عشرة أشياء : أن يكون مسلما عدلا بالغا عاقلا لأن هذه شروط الشهادة فأولى أن تشترط للقضاء .
الخامس : الذكورية فلا يصح تولية المرأة لقول النبي A : [ لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ] رواه البخاري ولأن المرأة ناقصة العقل غير أهل لحضور الرجال ومحافل الخصوم ولا يصح تولية الخنثى لأنه لم يعلم كونه ذكرا .
السادس : الحرية فلا يصح تولية العبد لأنه منقوص برقه مشغول بحقوق سيده لا تقبل شهادته في جميع الأشياء فلم يكن أهلا للقضاء كالمرأة .
السابع : أن يكون متكلما لينطق بالفصل بين الخصوم .
الثامن : أن يكون سميعا ليسمع الدعوى والإنكار والبينة و الإقرار .
التاسع : أن يكون بصيرا ليعرف المدعي من المدعى عليه و المقر من المقر له والشاهد من المشهود عليه .
العاشر : أن يكون مجتهدا و هو : العالم بطرق الأحكام لما روي عن النبي A قال : [ القضاة ثلاثة واحد في الجنة و اثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة و رجل عرف الحق فحكم فجار في الحكم فهو في النار و رجل قضى للناس على جهل فهو في النار ] رواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجة ولأنه إذا لم يجز أن يفتي الناس و هو لا يلزمهم الحكم فلئلا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى ولا يشترط كونه كاتبا لأن النبي A سيد الحكام و هو أمي و قيل يشترط ليعلم ما يكتبه كاتبه فيأمن تحريفه .
فصل .
ينبغي أن يكون قويا من غير عنف لئلا يطمع فيه الظالم فينبسط عليه لينا من غير ضعف لئلا يهابه صاحب الحق فلا يتمكن من استيفاء حجته بين يديه حليما ذا أناة و فطنة و يقظة لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة ذا ورع و عفة و نزاهة و صدق قال علي Bه : لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال : عفيف حليم عالم بما كان قبله يستثير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم .
فصل .
و لا تصح ولاية القضاة إلا بتولية الإمام أو من فوض إليه الإمام لأنه من المصالح العظام فلم يصح إلا من جهة الإمام كعقد الذمة ومن شرط صحة التولية معرفة المولي للمولى وأنه على صفة تصلح للقضاء فإن كان يعرفه و إلا سأل عنه فإذا علم ذلك ولاه .
وألفاظ التولية تنقسم إلى صريح و كناية فصريحها سبعة : وليتك الحكم و قلدتك و استنبتك و استخلفك ورددت إليك الحكم وفوضت إليك و جعلت إليك فإذا أتى بواحدة منها و اتصل بها القبول انعقدت الولاية .
و أما الكناية فهي أربعة : اعتمدت عليك في الحكم و عولت عليك و وكلت إليك وأسندت إليك الحكم فلا تنعقد التولية بها حتى تقترن بها قرينة نحو : فاحكم فيما وكلت إليك و انظر فيما أسندت إليك و تول فيما عولت عليك فيه لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها من كونه يأخذ برأيه و غير ذلك فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينة .
فصل .
فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء فحكماه ليحكم بينهما جاز لما روى أبو شريح أنه قال : يا رسول الله إن قومي إذا إختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي علي الفريقان فقال رسول الله ( ص ) [ ( ما أحسن هذا ) ] رواه النسائي ولأن عمر وأبيا Bهما تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم فإذا حكم بينهما لزم حكمه لأن من جاز حكمه لزم كقاضي الإمام .
فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه قبل شروعه في الحكم فله ذلك لأنه إنما صار حكما لرضاه به فإعتبر دوام الرضى وإن رجع بعد شروعه فيه وقبل تمامه ففيه وجهان : .
أحدهما : له ذلك لأن الحكم لم يتم أشبه ما قبل الشروع .
والثاني : ليس له ذلك لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه رجع فيبطل المقصود بذلك واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم فقال أبو الخطاب : ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان قياسا على قاضي الإمام وقال القاضي : يجوز حكمه في الأموال الخاصة فأما النكاح والقصاص وحد القذف فلا يجوز التحكيم فيها لأنها مبنية على الإحتياط فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام كالحدود .
فصل .
ويجوز أن يولي في البلد الواحد قاضيين فأكثر على أن يحكم كل واحد منهما في موضع وأن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق وإلى الآخر في حق آخر أو إلى أحدهما في زمن وإلى الآخر في زمن آخر لأنه نيابة عن الإمام فكان على حسب الاستنابة و هل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد و زمن واحد و حق واحد ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : يجوز لأنه نيابة فجاز جعلها إلى اثنين كالوكالة .
و الثاني : لا يجوز فقد يختلفان فتقف الحكومة .
فصل .
و لا يجوز تقليده القضاء على أن يحكم بمذهب معين لقول الله تعالى : { فاحكم بين الناس بالحق } وإنما يظهر له الحق بدليل فلا يتعين ذلك في مذهب بعينه فإن قلد على هذا الشرط بطل الشرط و في فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع .
فصل .
إذا ولاه قاضيا في غير بلده كتب إليه العهد بما ولاه لأن النبي A كتب لعمرو ابن الحزم حين بعثه إلى اليمن .
وروى حارثة بن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة : أما بعد فإني بعثت إليكم عمارا أميرا و عبد الله قاضيا و أميرا فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما فإن كان البلد الذي ولاه بعيدا أشهد على التولية شاهدين لتثبت التولية بهما وإن كان قريبا فإن شاء أشهد وإن شاء اكتفى بالاستفاضة لأنهما تثبت الولاية وييستحب للقاضي السؤال عن حال البلد الذي وليه و من فيه من العلماء و الأمناء لأنه لا بد له منهم فاستحب تقدم العلم بهم .
و يستحب أن يدخل البلد يوم الخميس لأن النبي A كان يفعل ذلك فإذا دخل قصد الجامع فصلى فيه ركعتين و أمر بجمع الناس فقرأ عليهم عهده ليعلموا التولية و ما فوض إليه ويعد الناس يوما لجلوسه ثم يصير إلى منزله و يجعل منزله في وسط البلد إن أمكن ليتساووا في قربه .
فصل .
وإن نهاه الذي ولاه عن الاستخلاف لم يكن له ذلك لأنه نائب فيتبع قول من استبانه وإن لم ينهه جاز له الاستخلاف لأن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين وإيصال الحق إلى مستحقه فجاز أن يليه بنفسه و بغيره فإذا استخلف القاضي خليفة انعزل بموته وعزله لأنه نائبه فأشبه الوكيل وإن ولى الإمام قاضيا فهل ينعزل بموته و عزله ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : ينعزل كذلك ولما روي عن عمر Bه أنه قال : لأعزلن أبا مريم ـ يعنى : عن قضاه البصرة - وأولي رجلا إذا رأه الفاجر فرقه فعزله وولى كعب بن سوار وولى علي أبا الأسود ثم عزله فقال : لم عزلتني وما خنت ولا جنيت ؟ فقال : إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين .
والثاني : لا ينعزل لأنه عقده لمصلحة المسلمين فلم يملك عزله مع سداد حاله كما لو عقد الولي النكاح على موليته لم يملك فسخه وإن اختل أحد الشروط بأن يفسق أو يختل عقله أو بصره انعزل بذلك لأنه فات الشرط فانتفى المشروط كالصلاة .
فصل .
وليس له أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة ولا يكاتب قاضيا في حكم في غير عمله ولا يعتد بذلك إن فعله لأنه لا ولاية له في غير عمله أشبه سائر الرعية .
فصل .
ولا يجوز له أن يحكم لنفسه لأنه لا يجوز أن يكون شاهدا لها ويتحاكم هو وخصمه إلى قاض آخر ويجوز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه لأن عمر حاكم أبيا إلى زيد وحاكم عثمان طلحة إلى جبير ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وإن سفل لأنه متهم في حقهما فلم يجز حكمه لهما كنفسه وقال أبو بكر : يجوز حكمه لهما لأنهما من رعيته فجاز حكمه لهما كالأجانب وإن إتفقت حكومة بين والديه أو ولديه أو والده ووللده فالحكم فيهما كما لو انفرد أحدهما لأن ما منع منه في حق أحدهما إذا كان خصمه أجنبيأ منع منه إذا ساواه خصمه كالشهادة ويجوز له إستخلاف والده وولده في أعماله لأن غاية ما فيه أنهما يجريان مجراه .
فصل .
ولا يجوز له أن يرتشي في الحكم لما روى عبد الله بن عمرو قال : لعن رسول ( ص ) الراشي والمرتشي قال الترمذي : مذا حديث صحيح ولأنه أخذ مال على حرام فكان حراما كمهر البغي .
ولا يجوز له قبول الهديه ممن لم تجر عادته بها قبل الولاية لما روى أبو حميد قال : بعث رسول الله ( ص ) رجلا من الأزد يقال له : ابن اللتبية على الصدقه فقال : هذا لكم وهذا أهدي إلي فقام النبي ( ص ) على المنبر فقال : [ ( ما بال العامل نبعثه فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته ) ] متفق عليه فدل على أن أهدي إليه مما كانت الولاية سببا له محرم عليه .
فأما من كانت عادته الهدية إليه قبل الولاية فجائز قبولها لأن قول النبي ( ص ) [ : ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ) ] يدل على تعليل تحريم الهدية لكون الولاية سببها وهذه لم تكن سببها الولاية فجاز قبولها إلا أن تكون في حال الحكومة بينه وبين خصم له فلا يجوز قبولها لأنه يتهم فهي كالرشرة والأولى الورع عنها في غير حال الحكومة لأنه لا يأمن أن تكون الحكومة منتظرة .
فصل .
ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال [ : ( ما عدل وال اتجر في رعيته ) ] .
وقال شريح : شرط علي عمر حين ولاني القضاء : أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرشي ولا أقضي وأنا غضبان ولأنه يعرف فيحابى فيجري مجرى الهدية .
ويستحب أن يوكل من لا يعرف أنه وكيله فإذا عرف استبدل به حتى لا يحابى فإن لم يمكنه الإستنابة تولاه بنفسه لأن أبا بكر الصديق أخذ الذارع وقصد السوق ليتجر فيه ولأنه لا بد له منه فإن كان لمن بايعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه كيلا يميل إليه .
فصل .
ويجوز للقاضي حضور الولائم لأن النبي ( ص ) أمر بإجابة الداعي ولا يخص بإجابته قوما دون قوم لأنه جور فإن كثرت عليه وشغلته ترك الجميع لأنه يشتغل بها عما هو أوكد منها وله عيادة المرضى وشهود الجنائز ويأتي مقدم الغائب لأنه قربة وطاعة وله أن يخص بذلك قوما دون قوم لأن هذه الأمور لحق نفسه طلبا لثواب الله تعالى فكان له فعل ما أمكن منها دون ما لم يمكن وحضور الوليمة لحق الداعي فإذا خص بعضهم بها حصل مراعيا لبعضهم دون بعض فكان ذلك ميلا .
فصل .
ولا يقضي في حال الغضب ولا الجوع والعطش والحزن والفرح المفرط والنعاس الشديد والمرض المقلق ومدافعة الأخبثين والحر المزعج والبرد المؤلم لما روى أبو بكرة قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول [ : لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان ] متفق عليه فثبت النص في الغضب وقسنا عليه سائر المذكور لأنه في معناه ولأن هذه الأمور تشغل قلبه فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وتأمل الحادثة فإن حكم في هذه الأحوال ففيه وجهان : .
أحدهما : ينفذ حكمه لما روي أن النبي ( ص ) اختصم إليه الزبير ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي ( ص ) للزبير [ : اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري : أن كان ابن عمتك فغضب رسول الله ( ص ) ثم قال للزبير : ( اسق زرعك ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ) ] متفق عليه فحكم في غضبه .
والثاني : لا ينفذ حكمه لأنه منهي عنه والنهي يقتضي فساد المنهي عنه وقيل : إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة لأنه يشغله عن استيضاح الحق أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم لم يمنع حكمه فيها كقصة الزبير .
فصل .
ويستحب للحاكم الجلوس للحكم في موضع بارز واسع يصل إليه كل أحد ولا يحتجب عن غير عذر لما روي عن النبي ( ص ) أنه قال [ : من ولي من أمر الناس شيئا فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون حاجته وفقره ] رواه الترمذي .
ويكون موضعا لا يتأذى فيه بحر ولا برد ولا دخان ولا رائحة منتنة لأن عمر Bه كتب إلى أبي موسى : إياك والقلق والضجر وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر وتمنعه من التوفر على الاجتهاد ويمنع الخصوم من استيفاء الحجة ولا بأس بالقضاء في المساجد لما روي عن عمر وعثمان وعلي Bهم أنهم كانوا يقضون في المسجد وقال مالك : هو من أمر الناس القديم فإن اتفق أحد الخصمين مانع من دخول المسجد كالحيض والكفر وكل له وكيلا أو انتظره حتى يخرج فيحاكم إليه .
فصل .
وان احتاج إلى أعوان لاحضار الخصوم اتخذ أمناء كهولا أو شيوخا من أهل الدين ويوصيهم بالرفق بالخصوم وإن دعت الحاجة إلى اتخاذ حاجب اتخذه أمينا بعيدا من الطمع ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق .
فصل .
ويتخذ حبسا لأن عمر Bه اشترى دارا بمكة بأربعة آلاف اتخذها سجنا واتخذ علي سجنا ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب واستيفاء الحق من المماطل والاحتفاظ بمن عليه قصاص أو حد حتى يستوفى .
فصل .
وينبغي أن يتخذ كاتبا لأن النبي ( ص ) استكتب زيدا وغيره ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره فلا يتمكن من الجمع بينهما وبين الكتابة فإن أمكنة ولاية ذلك بنفسه جاز ومن شرط الكاتب أن يكون عارفا بما يكاتب به القضاة من الأحكام وما يكتبه من المحاضر والسجلات لأنه إذا لم يعرفه أفسد ما يكتبه بجهله وأن يكون عدلا لأن الكتابة موضع أمانة ولا تؤمن خيانة الفاسق وأن يكون مسلما لأن الإسلام من شروط العدالة ويستحب أن يكون ورعا نزها لئلا يستمال بالطمع جيد الحفظ ليكون أكمل حرا ليخرج من الخلاف فإن كان عبدا جاز لأنه من أهل الشهادة .
فصل .
ولا يتخذ شهودا معينين لا يقبل غيرهم لأنه من ثبتت عدالته وجب قبول شهادته فلم يجز تخصيص قوم بالقبول دون قوم .
فصل .
ويتخذ أصحاب مسائل يتعرف بهم أحوال من جهل عدالته من الشهود ويجب أن يكونوا عدولا برآء من الشحناء بعداء من العصبية في نسب أو مذهب كيلا يحملهم ذلك على تزكية فاسق أو جرح عدل وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا إلى المطلوب ولا يسألوا عدوا ولا صديقا لأن الصديق يظهر الجميل ويستر القبيح والعدو بخلاف ذلك فإذا شهد عنده من يعرفه بالعدالة قبل شهادته وان علم فسقه لم يقبلها ويعمل بعلمه في العدالة والفسق وإن جهل إسلامه سأل عنه ولم يعمل بظاهر الدار لأن أعرابيا شهد عند النبي ( ص ) برؤية الهلال فلم يحكم بشهادته حتى سأله عن إسلامه ولأنه يتعلق بشهادته حق على غيره فلم يعمل بظاهر الدار ويقبل قوله في إسلام نفسه لأن النبي ( ص ) قبل قول الأعرابي في ذلك ولأنه بقوله يصير مسلما وإن لم تعرف عدالته لم يحكم حتى تثبت عدالته .
وعنه : يحكم بشهادة من جهل عدالته ما لم يقل المشهود عليه : هو فاسق لقول عمر Bه : المسلمون عدول بعضهم على بعض ولأن النبي ( ص ) لما شهد عنده الأعرابي برؤية الهلال لم يسأل عن عدالته ولأن العدالة تخفى ويدل عليها الإسلام فاكتفى به والأول : المذهب لقول الله تعالى { : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء } وقال سبحانه { : وأشهدوا ذوي عدل منكم } وروى سليمان بن حرب قال : شهد رجل عند عمر Bه فقال له عمر : إني لست أعرفك ولا يضرك أنني لا أعرفك فائتني برجل يعرفك فقال رجل : أنا أعرفه يا أمير المؤمنين قال : بأي شيء تعرفه قال : بالعدالة قال : فهو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه ؟ قال : لا» قال : فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع ؟ قال : لا قال : فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق ؟ قال : لا قال : فلست تعرفه ثم قال للرجل : ائتني بمن يعرفك ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقا فإذا أراد أن يعرف عدالته كتب اسمه ونسبه وكنيته وحليته وصنعته ومسكنه حتى لا ينسبه ومن شهد له وعليه لئلا يكون ممن لا تقبل شهادته للمشهود له من والد أو ولد ولا تقبل شهادته على المشهود عليه من عدو وقدر ما يشهد به لئلا يكون ممن يقبل قوله في القليل دون الكثير ويبعث ما كتبه مع أصحاب المسائل ويجتهد أن لا يعرفهم المشهود له ولا المشهود عليه لئلا يحتالا في تعديل الشهود أو جرحهم ولا المسؤولون لئلا يحتال أعداؤهم في جرحهم وأصدقاؤهم في تعديلهم ويجتهد أن لا يعلم بعض أهل المسائل ببعض كيلا يجمعهم الهوى على التواطؤ على جرح أو تعديل ويأمرهم القاضي : أن يسألوا عنه معارفه من أهل سوقه ومسجده وجيرانه فإذا عاد أهل المسائل بجرح أو تعديل ففيه وجهان : .
أحدهما : يكتفي بقولهم لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم فعلى هذا : يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم بلفظ الشهادة ويعتبر عدولهم كما في سائر المعدلين .
والثاني : لا يكتفي بهم لأنهم شهود فرع فلا يكتفى بهم مع القدرة على شهود الأصل لكن يعينون من أخبرهم بالجرح أو العدالة ليستحضر الحاكم اثنين منهم فيسمع منهم الجرح والتعديل بلفظ الشهادة والعدد فعلى هذا : لا يعتبر العدد في أصحاب المسائل بل يجوز أن يكون واحدا لأنه مخبر عن شاهد ليس بشاهد .
فصل .
ولا يقبل الجرح والتعديل من أقل من اثنين لأنه إخبار عن صفة من يبنى الحكم على صفته فأشبه الإحصان وعنه : يكتفى بواحد اختارها أبو بكر لأنه إخبار عن حال من لا حق له فأشبه أخبار الديانات ولأنه يكتفى في تعديل راوي الحديث وجرحه بقول واحد فكذلك في غيره والأول : المذهب لما ذكرنا وإنما اكتفي في تعديل الراوي بواحد لأنه فرع على الرواية المنقولة من واحد بخلاف الشهادة ويعتبر فيه اللفظ بالشهادة لأنه شهادة إلا على الرواية التي قلنا : هو خبر فلا يعتبر فيه لفظ الشهادة ويكفي في التعديل قوله : أشهد أنه عدل وان لم يقل : علي ولي لأنه لا يكون عدلا إلا له وعليه ولا يكفي أن يقول : لا أعلم فيه إلا الخير لأنه لم يصرح بالتعديل وان شهد بالجرح واحد وبالتعديل اثنان ثبتت العدالة لأن بينة الجرح لم تكمل وإن شهد بالجرح اثنان قدم الجرح على التعديل لأن الشاهد به يخبر عن أمر باطني خفي على المعدل وشاهد العدالة يخبر عن أمر ظاهر فقدم من يخبر عن الباطن ولأن الجارح مثبت والمعدل ناف فقدم الإثبات وإن شهد بالجرح اثنان وبالعدالة أربعة قدم الجرح لأن بينته كملت ولا يقبل الجرح إلا مفسرا أن يذكر السبب الذي به جرح ولا يكفي أن يشهد أنه فاسق أنه ليس بعدل وعنه : يكتفى بذلك كما يكتفى في التعديل أن يشهد أنه عدل والأول : المذهب لأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان فيحتمل أن يعتقد الشاهد فسقه بما لا يعتقده الحاكم فسقا والجرح والتعديل إلى الحاكم فوجب بيانه لينظر فيه ولا يجوز أن يشهد بالجرح إلا من يعلم ذلك بمشاهدة الأفعال كالسرقة وشرب الخمر أو بالسماع في الأقوال كالقذف والبدعة أو بالاستفاضة بالخبر لأنه شهادة عن علم فإن قال : بلغني كذا أو قيل لي لم يجز أن يشهد به لقول الله تعالى { : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة ممن تقدمت معرفته وطالت صحبته لحديث عمر Bه وأن المقصود علم عدالته في الباطن ولا يعلم ذلك إلا من تقدمت معرفته ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء لأنه شهادة بما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال أشبه الحدود .
فصل .
وإذ لم تثبت عدالته فقال المشود عليه : هو عدل حكم بشهادته لأن البحث عن عدالته لحق المشهود عليه وإنه ممن يثبت بالحق بقوله فوجب الحكم به وفيه وجه آخر : إنه لا يثبت لأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى ولهذا لو رضي المشهود عليه أن يحكم عليه بشهادة فاسق لم يحكم عليه بها .
فصل .
ومن ثبتت عدالته ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب حكم بشهادته وإن كان بعده بزمن طويل ففيه وجهان : .
الوجه الأول : يحكم بشهادته لأن عدالته قد ثبتت والأصل بقاؤها .
والثاني : يعيد السؤال لأن مع طول الزمان تتغير الأحوال وإن شهد عنده عدول فارتاب بشهادتهم استحب له تفريقهم وسؤال كل واحد منهم على الانفراد عن صفه التحمل ومكانه وزمانه فإن اختلفوا سقطت شهادتهم وإن اتفقوا وعظهم لما روى أبو حنيفة C قال : كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفه فجاءه رجل فادعى على رجل حقا فأنكره فأحضر المدعي شاهدين فشهدا له فقال المشهود عليه : والذى تقوم به السموات والأرض قال كذبا علي وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : [ إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمى بما فى حواصلها من هول يوم القيامه وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار ] فإن صدقتما فاثبتا وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا فغطا رؤوسهما وانصرفا .
فصل .
ويستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء من أهل كل مذهب يساورهم فيما يشكل عليه لقول الله تعالى { : وشاورهم في الأمر } قال الحسن : إن كان رسول الله ( ص ) عن مشاورتهم لغنيا ولكن أراد أن يستن بذلك الحكام وروى عبد الرحمن بن القاسم : أن أبا بكر الصديق Bه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه دعا رجالا من المهاجرين والأنصار دعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن ابن عوف ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولي عمر فكان يدعو هؤلاء النفر Bهم فإذا اتفق أمر مشكل شاورهم فإن اتضح له الحق حكم به وإن لم يتضح له أخره ولم يقلد غيره ضاق الوقت أو اتسع لأنه مجتهد فلم يقلد غيره كما لو اتسع الوقت وإن فوض الحكم في الحادثة إلى من اتضح له الحق فحكم فيها جاز وإن حكم باجتهاده ثم تبين له الخطأ بنص أو إجماع نقضه لما روي عن عمر Bه أنه قال : ردوا الجهالات إلى السنة وكتب إلى أبي موسى : لا يمنعنك قضاء قضيت به ثم راجعت نفسك فهديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم لا يبطله شيء وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل ولأنه مفرط في حكمه غير معذور فيه فوجب نقضه وإن تغير اجتهاده ولم يخالف نصا ولا إجماعا لم ينقض حكمه لما روي عن عمر Bه أنه حكم في المشركة بإسقاط ولد الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال : تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا وقضى في الحد بقضايا مختلفة ولم يرد الأولى ولأنه لو نقض الحكم بمثله لأدى إلى نقض النقض والى أن لا تثبت قضية .
فصل .
وليس على القاضي تتبع قضايا من قبله لأن الظاهر أنه لا يولى للقضاء إلا من يصلح والظاهر إصابته الحق وإن علم أن القاضي قبله لا يصلح للقضاء نقض من أحكامه ما خالف الحق وإن لم يخالف نصا ولا إجماعا لأنه ممن لا يجوز قضاؤه أشبه حكم بعض الرعية ويبقي ما وافق الحق لأن الحق وصل إلى مستحقه فلا حاجة إلى نقضه وقال أبو الخطاب : ينقضه أيضا ليحكم به وإن كان يصلح للقضاء لم يجز أن ينقض من قضاياه إلا ما خالف نصا أو إجماعا لما ذكرنا في حكم نفسه وإن تظلم متظلم من القاضي قبله وسأل إحضاره لم يحضره حتى يسأله عما بينهما لأنه ربما قصد تبديله فإن قال : لي عليه مال من معاملة أو غصب أو رشوة أحضره وإن قال : حكم علي بشهادة فاسقين أو عدوين أو جار علي في الحكم وله بينة أحضره أو وكيله وحكم له بها وإن لم يكن له بينة ففيه وجهان : .
أحدهما : يحضره كما لو ادعى عليه مالا .
والثاني : لا يحضره لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه فإن أحضره فاعترف حكم عليه وإن أنكر قبل قوله بغير يمين لأن قوله مقبول بحال ولايته .
فصل .
ويخرج القاضي إلى مجلس قضائه على أعدل أحواله ويقول عند خروجه : بسم الله آمنت بالله واعتصمت بالله وتوكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله ويدعو بما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله A إذا خرج من بيته قال : [ اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أزل أو أضل أوأضل أو أظلم أوأظلم أو أجهل أو يجهل علي ] رواه أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن صحيح ويسأله أن يعصمه ويعينه .
ويجلس مستقبل القبلة لقول النبي A : [ خير المجالس ما استقبل به القبلة ] ويكون عليه سكينة ووقار في مشيه وجلوسه ويبسط تحته شيئا يجلس عليه ليكون أوقر له ويترك القمطر مختوما بين يديه ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر والسجلات ويجلس الكاتب قريبا منه ليرى ما يكتبه فإن غلط رد عليه .
فصل .
ويبدأ في نظره بالمحبوسين لأن الحبس عقوبة وربما كان فيهم من يجب إطلاقه فاستحب البداءة بهم فيكتب أسماء المحبوسين وينادي في البلدان : القاضي ينظر في أمرهم يوم كذا فليحضر من له محبوس فإذا حضروا أخرج رقعة فأخرج صاحبها فنظر بينه وبين خصمه فإن وجب إطلاقه أطلقه وإن وجب حبسه أعيد فإن قال : حبست بدين أنا معسر به فصدقه خصمه أو ثبت إعساره ببينة أطلقه وإن كذبه ولم يثبت إعساره أعيد إلى الحبس فإن ادعى خصمه أن له دارا وأقام بها بينة فقال المحبوس : هي لزيد فكذبه زيد بيعت الدار وقضي الدين لأن إقراره سقط بإكذابه وإن صدقه زيد وله بينة فهي له لأن بينته قويت بإقرار صاحب اليد .
وإن قال : حبست في ثمن كلب أو خمر أرقته لذمي فقال القاضي : يطلقه لأن غرمه ليس بواجب وفيه وجه آخر : أن الثاني ينفذ حكم الأول لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده ويحتمل أن يتوقف ويجتهد في أن يصطلحا على شيء لأنه لا يمكنه فعل الأمرين المتقدمين وإن قال : حبست ظلما ولا حق علي نادى الحاكم بذلك فإن لم يظهر له خصم فالقول قوله مع يمينه لأنه لا خصم له ولا حق عليه ويخلي سبيله والله أعلم .
فصل .
ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله فإن ادعى رجل أنه وصي ميت لم يقبل إلا ببينة لأن الأصل عدم الوصية فإن أقام بينة وكان عدلا قويا أقره على الوصية وإن كان فاسقا أو ضعيفا ضم إليه أمينا يتقوى به أو أبدله إن رأى إبداله وإن أقام بينة أن الحاكم الذي قبله أنفذ الوصية أنفذها ولم يسأل عن عدالته لأن الظاهر أنه لا ينفذ ذلك إلا لمن هو أهل وإن كان وصيا في تفرقة ثلثه ففرقه ومو عدل فلا شيء عليه وإن كان فاسقا والوصية لمعينين فلا شيء عليه أيضا لأنه دفعه إلى مستحقه وإن كان لغير معين ففيه وجهان : .
أحدهما : لا غرم عليه لأنه دفعه إلى مستحقه بإذن الميت أشبه ما لو كاذ لمعينين .
والثاني : يغرم لأنه فرقه ولم تكن له تفرقته فغرمه كما لو جعلت تفرقته إلى غيره والله تعالى أعلم