باب إقامة الحد .
لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا للإمام أو نائبه لأنه حق الله تعالى و يفتقر إلى الاجتهاد و لا يؤمن في استيفائه الحيف فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه و لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقيم الحد في حياته ثم خلفاؤه بعده و لا يلزم الإمام حضور إقامته لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ] و أمر برجم ماعز و لم يحضر و أتى بسارق فقال : اذهبوا فاقطعوه و جميع الحدود في هذا سواء حد القذف و غيره لأنه لا يؤمن فيه الحيف و الزيادة على الواجب و يفتقر إلى الاجتهاد فأشبه سائر الحدود إلا أن للسيد إقامة الحد على رقيقه لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ] وروى علي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] و لا يملك إقامته إلا بشروط أربعة : .
أحدها : أن يكون مكلفا عالما بالحدود و كيفية إقامتها لأنه إذا لم يعلم لا يمكنه الإتيان به على وجهه و هل تشترط عدالته ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : تشترط لأنه ولاية فنافاها الفسق كولاية التزويج و لأنه لا يؤمن من الفاسق التعدي بزيادة أو نقص .
و الثاني : لا يشترط لأنها ولاية ثبتت بالملك أشبهت ولاية التأديب و في اشتراط الذكورية وجهان كما ذكرنا في العدالة فإن قلنا : تشترط ففي أمة المرأة وجهان : .
أحدهما : يفوض حدها إلى وليها كتزويجها .
و الثاني : يفوض إلى الإمام كأمة الصغير و هل تشترط الحرية ؟ فيه وجهان : .
ووجههما ما تقدم فإن قلنا تشترط لم يثبت لمكاتب لأنه ليس من أهل الولاية و يفوض إلى الإمام .
الشرط الثاني : أن يختص بالمملوك فأما المشترك و الأمة المزوجة و المكاتبة فلا يقيم الحد عليهم إلا الإمام لأن ابن عمر قال ذلك و لا مخالف له في الصحابة و لأنه لم تكمل ولايته عليهم فأشبهوا من بعضه حر .
الشرط الثالث : أن يكون الحد جلدا كحد الزنا و الشرب و القذف فأما القطع و القتل في الردة فلا يملكه لأن النبي صلى الله عليه و سلم إنما أمر بالجلد فلا يثبت في غيره و لأن الحد تأديب فيملكه السيد كتأديبه على حقوقه و في تفويضه إليه ستر على عبده كيلا يفتضح بإقامة الإمام له فتنقص قيمته و هذا منتف في القطع و القتل و لأن فيهما إتلافا فيحتاج إلى مزيد احتياط قال القاضي : و كلام أحمد يقتضي رواية أخرى : أنه يقيمهما لعموم قوله عليه السلام : [ أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ] و لأن ابن عمر قطع عبدا سرق و حفصة قتلت أمة سحرتها .
الشرط الرابع : أن يثبت عنده سببه بإقرار أو بينة فإن ثبت بإقرار فللسيد أن يسمعه و يقيم الحد به إذا كان عالما بشروط الإقرار و كيفيته و إن ثبت ببينة اعتبر ثبوتها عند الحاكم لأن للحاكم ولاية البحث عن العدالة و الاجتهاد فيها و معرفة شروطها بخلاف غيره و ذكر القاضي : أن السيد إن عرف شروطها و أحسن استماعها ملك سماعها و إقامة الحد بها كالإقرار و لا يقيم الحد بعلمه و رؤيته لأن الإمام لا يقيمه بعلمه فالسيد أولى و عن أحمد : أنه يقيمه بعلمه لأنه ثبت عنده أشبه ما لو أقر به عنده .
فصل .
و لا يقام الحد على حامل حتى تضع سواء كان الحد رجما أو غيره لأنه لا يؤمن تلف الولد و قد روى بريدة : أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه و سلم فقالت : إني فجرت فو الله إني لحبلى فقال لها : [ ارجعي حتى تلدي ] فرجعت فلما ولدت أتته بالصبي فقال : [ ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه ] فجاءت به و قد فطمته و في يده شيء يأكله فأمر بالصبي فدفع إلى رجل من المسلمين و أمر بها فحفر لها و أمر بها فرجمت رواه أبو داود فإن كان الحد قتلا فالحكم فيه على ما ذكرنا في القصاص في الحامل و إن كان جلدا و كانت عقيب الولادة قوية يؤمن تلفها أقيم عليها الحد و إن كانت ضعيفة أو في نفاسها فقال أبو بكر : يقام حدها بشيء يؤمن معه تلفها و لا تؤخر كالمريض .
و قال القاضي : ظاهر كلام الخرقي تأخيرها حتى تطهر من نفاسها و يؤمن معه تلفها لما روي عن علي قال : فجرت جارية لآل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ يا علي انطلق فأقم عليها الحد ] فانطلقت فإذا بها دم يسيل لم ينقطع فأتيته فأخبرته فقال : [ دعها حتى ينقطع عنها الدم ثم أقم عليها ] رواه مسلم بنحو هذا المعنى .
و لا يجلد السكران حتى يصحو لأن المقصود زجره و تنكيله و لا يحصل في حال سكره .
فصل .
و لا يقام الحد في المسجد جلدا كان أو غيره لما روى حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن يستقاد في المسجد و أن تنشد فيه الأشعار و أن تقام فيه الحدود و لأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شيء فيتلوث به المسجد فإن أقيم به سقط الفرض لأن المقصود حاصل و المرتكب للنهي غير المحدود فلم يمنع ذلك سقوط الفرض عنه كما لو اقتص في غير المسجد .
فصل .
ومن أقيم عليه الحد فمات منه فالحق قتله و لا شيء على من حده جلدا كان أو غيره لأنه حد وجب لله فلم يود من مات به كالقطع في السرقة و إن زاد على الحد فمات وجب ضمانه لأنه تعدى تعديا أعان على تلفه فوجب عليه ضمانه كما لو ضربه أجنبي و في قدره روايتان : .
إحداهما : الدية كلها لأنه قتل حصل بأمر من جهة الله و عدوان فكان الضمان على العادي الدية كما لو ضرب مريضا سوطا فقتله .
و الثانية : نصف الدية لأنه مات بفعل مضمون و غيره فكان على العادي نصف الدية كما لو جرح نفسه و جرحه آخر فمات و سواء زاد سوطا أو أكثر وسواء زاد خطأ أو عمدا لأن الخطأ يضمن كالعمد و متى كانت الزيادة من قبل الجلاد فالضمان على عاقلته في الخطأ و شبه العمد و إن كان له من يعد عليه إما الأمام أو غيره فلم يخبره بانتهاء العدد فالضمان على من يعد لأن الخطأ منه و إن أمره الإمام بالزيادة فزاد جاهلا بتحريم الزيادة فالضمان على الإمام كما لو أمره بقتل معصوم يجهل المأمور حاله و إن علم تحريم ذلك فالضمان عليه و قال القاضي : هو على الإمام كما لو جهل الحال و متى كانت الزيادة من الإمام عمدا فالضمان على عاقلته لأنه عمد الخطأ إلا أن يكون مما يقتل غالبا فعليه في ماله لأنه عمد و إن كان خطأ ففيه روايتان : .
إحداهما : الضمان على عاقلته لأنها جناية خطأ تحمل مثلها العاقلة فكانت على عاقلته كما لو أخطأ في غير الحكم .
و الثانية : هي في بيت المال لأنه نائب الله تعالى فيتعلق الحكم بمال الله و لأن خطأه يكثر فإيجاب عقله على عاقلته إجحاف بهم .
فصل .
و إذا اجتمع عليه حدود من جنس مثل أن زنى مرات أو شرب الخمر مرات و لم يحد فحد واحد لأنها طهرة سببها واحد فتداخلت كالطهارة و إن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها أقيمت كلها لأن أسبابها مختلفة فلم تتداخل كالطهارات المختلفة و يبدأ بالأخف فالأخف لأننا إذا بدأنا بالأغلظ لم نأمن أن يموت فيموت به سائرها و أخفها حد الشرب إن قلنا : هو أربعون فيبدأ به ثم بحد القذف و إن قلنا : هو ثمانون بدئ بحد القذف لأنه كحد الشرب في عدده و يرجح لكونه حق آدمي ثم بحد الشرب ثم بحد للزنا ثم بقطع للسرقة و لا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول لأننا لا نأمن من تلفه بموالاتها و المقصود زجره لا قتله و إن اجتمع قطع السرقة و قطع المحاربة قطعت يده لهما لأن محلهما واحد ثم تقطع رجله في الحال لأن قطعهما حد واحد فتجب الموالاة فيه كالجلدات في الزنا فأما إن كان في الحدود لله تعالى قتل كالرجم في الزنا أو القتل للمحاربة قتل وسقط سائرها لأن ذلك يروى عن ابن مسعود Bه و لأنها حدود لله تعالى فيها قتل فاجتزئ به عنها كما لو قطع في المحاربة و أخذ المال و لأن زجره يحصل بالقتل فلا حاجة إلى غيره .
فصل .
و إن اجتمعت حدود للآدميين استوفيت كلها سواء كان فيها قتل أو لم يكن و يبدأ بأخفها لما ذكرنا و إن اجتمعت حدود لله تعالى و للآدمي و لا قتل فيها استوفيت كلها إلا أن يتفق الحقان في محل واحد كالقطع للقصاص و السرقة فإنه يقدم القصاص لأنه حق آدمي و يسقط الحد لفوات محله و إن كان فيها قطع سقط ما سواه من حدود الله و تستوفى حقوق الآدميين ثم يقتل لما ذكرناه .
فصل .
و الضرب في الزنا أشد منه في سائر الحدود لأن الله تعالى خصه بمزيد تأكيد بقوله تعالى : { و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } و لأن الفاحشة به أعظم فكانت عقوبته أشد ثم بعده الضرب في حد القذف لأنه يليه في العدد و هو حق آدمي ثم الضرب في الشرب لأنه أخف الحدود و هو محض خق الله تعالى ثم التعزير لأنه لا يبلغ به الحد و ذكر الخرقي : أن العبد يضرب بدون سوط الحر لأن حده أقل عددا فيكون أخف سوطا كالشرب مع الزنا و يحتمل التسوية بينهما في السوط لأن الله تعالى قال : { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } و لا بتحقق النصف إذا نصفنا العدد إلا مع تساوي السوطين .
فصل .
و يضرب في جميع الحدود بسوط وسط لا جديد و لا خلق لما روي أن رجلا اعترف عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بالزنا فدعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم بسوط فأتي بسوط مكسور فقال [ فوق هذا ] و أتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته فقال : [ بين هذين ] رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلا و قال علي Bه : ضرب بين ضربين و سوط بين سوطين و هكذا الضرب يكون وسطا لا شديد فيقتل و لا ضعيف فلا يردع و لا يرفع باعه كل الرفع و لا يحطه كل الحط قال أحمد Bه : لا يبدي إبطه في شيء من الحدود يعني : لا يبالغ في رفع يده لأن المقصود أدبه لا قتله