باب حد السرقة .
وحد السرقة : قطع اليد اليمنى لقول الله تعالى : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و يعتبر في وجوبه أمور تسعة : .
أحدهما : السرقة : و هو أخذ المال مختفيا فإن اختطفه أو اختلسه فلا قطع عليه لما روى جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ليس على المنتهب قطع ] وروى عنه عليه السلام أنه قال : [ ليس على الخائن و لا المختلس قطع ] رواهما أبو داود و لأن الله تعالى إنما أوجب القطع على السارق و ليس هؤلاء بسراق و في جاحد العارية روايتان : .
إحداهما : لا قطع عليه لأنه خائن فلا يقطع للخبر و لأنه ليس بسارق فلا يقطع كجاحد الوديعة وهذا اختيار أبي إسحاق بن شاقلا و أبي الخطاب .
و الثانية : يجب عليه القطع لما روي عن عائشة Bها : أن امرأة كانت تستعير المتاع و تجحده فأمر النبي صلى الله عليه و سلم بقطع يدها متفق عليه .
فصل .
الثاني : أن يكون مكلفا فلا يجب الحد على صبي أو مجنون لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ و عن المجنون حتى يفيق و عن النائم حتى يستيقظ ] و لأنه إذا سقط عنهما التكليف في العبادات و الإثم في المعاصي فالحد المبني على الدرء ولإسقاط أولى و لا قطع على مكره لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ عفي لأمتي عن الخطأ و النسيان و ما استكرهوا عليه ] و يخرج في قطع السكران وجهان بناء على الروايتين في طلاقه و قال القاضي : حكمه حكم الصاحي فيما يجب عليه من العقوبات و يجب القطع على السارق من أهل الذمة و المستأمنين و يقطع المسلم بسرقة مالهما لأنهم التزموا حكم الإسلام فأشبهوا المسلم مع المسلم .
فصل .
الثالث : أن يكون المسروق نصابا فلا قطع فيما دونه لقول النبي صلى الله عليه و سلم [ لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا ] متفق عليه .
و في قدر النصاب روايتان : .
إحداهما : ربع دينار من الذهب أو ثلاثة دراهم من الورق أو ما قيمته ذلك من غيرهما لما روت عائشة : أن رسول الله A قال : [ تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا ] وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم متفق عليهما و قال عليه السلام : [ فما بلغ ثمن المجن ففيه القطع ] و عنه : أن ما عدا الأثمان تعتبر قيمته بالدراهم خاصة لهذا الخبر .
و الثانية : الأصل الدراهم خاصة و يقوم الذهب بها لحديث ابن عمر و الأول أولى لخبر عائشة و لأن ما كان فيه أحد النقدين أصلا كان الآخر فيه أصلا كالديات و نصب الزكوات سواء في هذا الصحاح و المكسرة و التبر و المضروب للخبر فإنه اشترك اثنان في هتك حرز وسرقة نصاب منه فعليهما القطع لأنه قطع يجب على المنفرد فوجب على المشتركين فيه كالقصاص و يحتمل ألا يجب لأن كل واحد لم يسرق نصابا فلا يجب عليه القطع للخبر و كما لو انفرد بسرقته فإن كان أحد الشريكين مما لا قطع عليه كالأب و الصبي و كانت سرقة الأجنبي البالغ نصابا فالقطع واجب عليه لأن المانع اختص بأحدهما فاختص السقوط به كالقصاص و يحتمل ألا يجب قطعه لأن سرقتهما علة قطعهما و سرقة الأب لا تصلح علة القطع فلم يجب على واحد منهما و إن كانت سرقة الأجنبي لم تبلغ نصابا لم يجب قطعه لأن ما سرقه لم يجب به القطع و لا يمكن بناء فعله على فعل شريكه لأن فعل الشريك لا يوجب و يحتمل أن يجب قطعه كما في القصاص و من هتك حرزا فأخذ منه درهمين ثم عاد فسرق منه درهما في ليلة أخرى أو وقيتين متباعدين فلا قطع عليه لأن كل سرقة منهما منفردة لا تبلغ نصابا و إن تقاربا وجب القطع لأنهما سرقة واحدة من حرز هتكه فأشبه ما لو أخرجهما معا و إذا بني فعل أحد الشريكين على فعل شريكه فعلى فعل نفسه أولى و متى شككنا في المسروق هل يبلغ نصابا أو لا ؟ لم يجب القطع لأن الأصل عدمه فلا يجب الشك .
فصل .
و الشرط الرابع : أن يكون المسروق مما يتمول في العادة لأن القطع شرع لصيانة الأموال فلا يجب في غيرها و سواء في ذلك ما يبقى زمنا كالثياب و ما يفسده طول بقائه كالفاكهة و الأطعمة الرطبة وما أصله الإباحة كالصيود و الفخار و الآجر و اللبن و الخشب لأنه مال يتمول به عادة فوجب القطع بسرقته كالأثمان فإم سرق حرا صغيرا فلا قطع عليه لأنه ليس بمال و عنه : يقطع فإن قلنا : لا يقطع و كان عليه حلي يبلغ نصابا ففيه وجهان : .
أحدهما : يقطع لأنه سرق نصابا من المال .
و الثاني : لا قطع عليه لأن يد الصبي ثابتة على ما عليه بدليل أن اللقيط يحكم له بما عليه فأشبه ما لو سرق جملا صاحبه راكب عليه و إن سرق عبدا صغيرا أو مجنونا قطع لأنه مال ممكن سرقته و إن كان كبيرا عاقلا فلا قطع عليه لأن سرقته غير ممكنة فإن قهره و أخذه كان غاصبا لا سارقا إلا أن يكون نائما أو غريبا لا يميز بين سيده و غيره فيقطع لأن سرقته ممكنة فإن كانت أم ولد كذلك ققي قطع سارقها وجهان : .
أحدهما : يقطع لأنها مضمونة بالقيمة أشبهت القن .
و الثاني : لا يقطع لأن بيعها محرم أشبهت الحرة و يقطع سارق الوقف لأنه مملكوك للموقوف عليه و يحتمل أن لا يقطع لأنه لا يحل بيعه و لأنه غير مملوك على إحدى الروايتين .
فإن سرق إناء يساوي نصابا في خمر أو ماء ففيه وجهان : .
أحدهما : يقطع لأنه سرق نصابا فلزمه القطع كما لو كان فيه بول .
و الثاني : لا يقطع لأن الإناء يراد وعاء لما فيه فصار تابعا لما لا قطع فيه أشبه ثياب الحر إذا سرقه و إن سرق آلة لهو كالطنبور و المزمار و شبهه فلا قطع عليه لأنه آلة معصية فأشبه الخمر و سواء بلغ قيمة خشبه مكسورا نصابا أو لم يبلغ لأن معظم المقصود منه كونه آلة المعصية فصار المباح فيه تابعا و إن سرق إناء ذهب أو فضة تبلغ زنته نصابا قطع لأن جوهره هو المقصود و الصناعة مغمورة فيه فصارت تابعة له بخلاف التي قبلها و إن سرق صليبا أو صنما من ذهب أو من فضة فقال أبو الخطاب : فيه القطع لما ذكرنا و قال القاضي فيه لأنه مجمع على تحريمه أشبه الطنبور .
فصل .
و إن سرق مصحفا فقال أبو الخطاب : عليه القطع للآية و لأنه متقوم يبلغ نصابا أشبه كتب الفقه و قال أبو بكر و القاضي : لا قطع فيه لأن المقصود منه كلام الله تعالى فإن كان محلى بحلية تبلغ نصابا ففيه وجهان : .
أحدهما : يقطع و هو قول القاضي لأنه سرق نصابا يجب به القطع منفردا فيجب به مع غيره كما لو كانت الحلية منفصلة عنه .
و الثاني : لا قطع فيها لأنها تابعة لما لا قطع فيه أشبه ثياب الحر و يقطع بسرقة سائر الكتب المتقومة المباحة لأنه يجوز بيعها أشبهت الثياب فإن كانت محرمة ككتب البدع و الشعر المحرم فلا قطع فيها لأنها محرمة أشبهت المزامير و لا يقطع بسرقة الماء لأنه لا يتمول عادة و لا بسرقة السرجين و إن كان طاهرا لذلك و لأنه يوجد كثيرا مباحا فلا تكثر تعلق الرغبات به فلا حاجة إلى الزجر عنه و إن سرق كلأ أو ملحا فقال أبو بكر : لا قطع عليه لأنه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه أشبه الماء و قال أبو إسحاق بن شاقلا : يقطع لأنه يتمول عادة أشبه الصيد و الثلج مثله و قال القاضي : هو كالماء لأنه ماء جامد .
فصل .
الشرط الخامس : أن يكون المسروق مما لا شبهة للسارق فيه لأن الحدود تدرا بالشبهات فلا يقطع الوالد بسرقة مال ولده و إن سفل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أنت و مالك لأبيك ] رواه أبو داود و الأم كالأب في هذا لأنها أحد الأبوين أشبهت الأب ولا يقطع الابن بسرقة مال والده و إن علا في إحدى الروايتين لأن بينهما قرابة تمنع شهادة أحدهما لصاحبه أشبهت الأب و يقطع سائر الأقارب بسرقة مال أقاربهم لعدم ذلك فيهم و لا يقطع العبد بسرقة مال سيده لما روي أن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي قال لعمر : إن عبدي سرق مرآة امرأتي ثمنها ستون درهما فقال : أرسله : لا قطع عليه غلامكم أخذ متاعكم و لأن يده كيد مولاه بدليل أنه لو كان في يده مال فتنازعه السيد و أجنبي كان لسيده و إن سرق أحد الزوجين من مال الآخر الذي لم يحرزه عنه لم يقطع لأنه غير محرز عنه و إن سرق مما أحرزه عنه ففيه روايتان : .
إحداهما : لا قطع عليه لقول عمر : غلامكم أخذ متاعكم و لأن أحدهما يرث صاحبه من غير حجب و ترد شهادته له أشبه الولد وهذا اختيار الخرقي و أبي بكر .
و الأخرى : يقطع لعموم الآية و لأنه سرق مالا محرزا عنه لا شبهة له فيه أشبه الأجنبي و لا يقطع على من سرق مالا له فيه شركة لأن له فيه حقا فكان ذلك شبهة و لا قطع على مسلم بالسرقة من بيت المال لذلك و لأن عمر Bه قال لابن مسعود حين سأله عمن سرق من بيت المال : أرسله فما من أحد إلا و له في هذا المال حق و إن سرق منه ذمي قطع لأنه لا حق له فيه .
ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع لذلك و إن لم يكن كذلك فسرق منها بعد إخراج الخمس قطع لأنه لا حق له فيها وأن سرق قبل إخراج الخمس لم يقطع لأن له حقا في خمس الخمس و إن سرق مسكين من وقف المساكين لم يقطع لأن له فيه حقا و إن سرق منه غني قطع لأنه لا حق له فيه و إن سرق حصير مسجد أو قنديله أو نحوه مما جعل لنفع المصلين لم يقطع لأن له فيه حقا و إن سرق بابه أو تأزيره أو شيئا من خشب سقفه ففيه وجهان .
أحدهما : يقطع لأنه لا حق له فيه و هو محرز بحرز مثله أشبه سارق ذلك من بيت آدمي .
و الثاني : لا قطع عليه لأن المسجد كله إنما يراد لنفع المصلين و لأنه ليس له مالك من المخلوقين و الكعبة و غيرها في هذا سواء و لا يقطع بسرقة ستارتها الخارجة منها لأنها غير محرزة و قال القاضي : إن كانت مخيطة عليها قطع سارقها لأن هذا حرز مثلها .
فصل .
و لا قطع على الزوجة إذا منعت نفقتها فأخذت بقدرها لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ] و لا على الضيف إذا منع قراه فأخذ بقدره لأن له حقا و إن سرق غير ذلك من البت الذي هو فيه لم يقطع لأنه غير محرز عنه و إن كان محرزا عنه فعليه القطع لعدم الشبهة و لا قطع على المضطر إذا سرق ما يأكله إذا لم يقدر على ذلك إلا بالسرقة لأنه فعل ما له فعله قال أحمد : لا قطع في المجاعة لأن عمر Bه قال : لا قطع في عام سنة قيل لأحمد تقول به ؟ قال : أي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة و الناس في شدة و مجاعة و لا قطع على الغريم إذا جحده غريمه أو منعه و لم يقدر على استيفاء دينه فأخذ بقدره في أحد الوجهين و هو اختيار أبي الخطاب لأن طائفة من أهل العلم أباحت له ذلك فيكون شبهة و في الآخر عليه القطع و هو قول القاضي لأنه ليس له الأخذ فإن كان غريمه باذلا له قطع لأنه لا شبهة له في السرقة لإمكان التوصل إلى أخذه و إن سرق المسروق منه مال السارق و المغصوب منه مال الغاصب من حرز فيه ماله ففيه وجهان : .
أحدهما : لا قطع عليه لأنه هتك حرزا له هتكه لأخذ ماله .
و الثاني : يقطع لأنه لما أخذ غير ماله علم أنه قصد سرقة مال غيره و إن سرق ماله من حرز لا مال له فيه فحكمه حكم السارق من غريمه و إن أحرز المغصوب أو المسروق فسرقه أجنبي لم يقطع لأنه حرز لم يرضه مالكه و إن غصب دارا فأحرز فيها متاعه لم يقطع سارقه لأنه لا حكم لحرزه حيث كان متعديا به ظالما فيه و إن سرق المعير من الدار المستعارة أو المؤجر من الدار المستأجرة شيئا قطع لأنه محرز عنه فأشبه الأجنبي .
فصل .
السادس : أن يسرق من حرز لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عم جده أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الثمار فقال : [ ما أخذ في أكمامه فاحتمل ففيه قيمته و مثله معه وما كان في الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن ] رواه أبو داود .
و يعتبر الحرز بما يتعارفه الناس فما عدوه حرزا فهو حرز و ما لا فلا لأن الشرع لما اعتبر الحرز و لم يبينه علمناه أنه رده إلى العرف كالقبض و التفرق و إحياء الموات هذا ظاهر قول أصحابنا و إليه ذهب ابن حامد و القاضي وذكر أبو بكر كلاما يدل على أن الإحراز لا يختلف فقال : إذا أفرد الشيء في الملك فهو محرز و العمل على الأول فحرز الأثمان و الجواهر و نحوها في الخانات الحريزة و الدور في العمران دونها الأغلاق و الأقفال أو حافظ مستيقظ أو حمل صاحبها لها معه على ما جرت به العادة في جيبه أو كمه أو وسطه أو معضدته و نحن ذلك و نقل حنبل عن أحمد في الذي يأخذ من جيب الرجل أو كمه لا قطع عليه و هذا محمول على من اختلس دون من سرق لأنه قد بينه في رواية ابن منصور فقال : الطرار يقطع إذا كان يطر سرا .
وإن اختلس لم يقطع فأما الجواسق في البساتين و الخانات في البرية فإن كانت مغلقة و فيها حافظ فهي حرز نائما كان أو يقظان و إن كانت مفتوحة فلا تكون حرزا إلا أن يكون الحافظ يقظان و إن لم يكن فيها حافظ فليست حرزا بحال لأن المال لا يحرز فيها من غير حافظ .
و الخيمة و الخركاه المنصوبة كالجواسق فيما ذكرنا و يقطع سارقها متى كان فيها حافظ و إن كان نائما لأنها تحرز بهذا و حرز متاع الباعة من العطارين و غيرهم بالدكاكين في الأسواق وراء الأغلاق و الأقفال و إن كانت مفتوحة فبحافظ يقظان و حرز قدور الباقلا في الدكاكين و شرائح القصب و ما جرت العادة بإحرازها به و حرز باب الدار و الدكان نصبه في موضعه و حرز حلقة الباب تسميرها فيه و حرز آجر الحائط و حجارته كونه مبنيا في الحائط و حرز الخشب و الحطب بالحظائر و تغيبه بعضه على بعض مقيد فوقه بحيث يعسر أخذ شيء منه و إن كان في فندق مغلق أو فيه حافظ فهو محرز و إن لم يقيد و حرز متاع الباعة و أشباههم كونه بين أيديهم لأنه محفوظ بذلك فإن نام عنه أو اشتغل أو جعله خلفه بحيث تناله اليد خرج عن الحرز لأنه غير محفوظ و إن نام إنسان على ثوبه أو متاعه فقد أحرزه لما روى صفوان بن أمية أنه نام في المسجد و توسد رداءه فأخذ من تحت رأسه فجاء بسارقه إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأمر به أن يقطع فقال صفوان يا رسول الله : لم أرد هذا ردائي عليه صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ فهلا قبل أن تأتيني به ] رواه ابن ماجه فإن تدحرج عنه خرج من الحرز