كتاب الحدود باب حد المحارب .
و هو الذي يقطع الطريق و يخيف السبيل و على الإمام طلبه ليدفع عن الناس شره فإن ظفر به قبل أن يقتل و يأخذ مالا ففيه روايتان : .
إحداهما : ينفيه فلا يتركه يأوي بلدا .
و الثانية : يعزره بما يرى من حبس و غيره .
ووجه الرواية الأولى قول الله تعالى : { أو ينفوا من الأرض } و ظاهر اللفظ وجوب نفيهم و وجه الثانية : أنه قد قيل : إن نفيهم : طلبهم لتعزيرهم و إقامة حد الله تعالى فيهم فروي عن ابن عباس Bهما أنه قال : نفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا فتقام عليهم الحدود و لأن نفيهم من البلد يقضي إلى إغرائهم بما كانوا فيه .
و إن شهر السلاح في الصحراء فقتل و أخذ مالا قتل حتما و إن عفا ولي الدم لأنه حد فلا يدخله عفو كسائر الحدود ثم يصلب قدر ما يشتهر أمره و لا توقيت فيه لأن التوقيت طريقة التوقيف و لا توقيف فيه و لا يصلب قبل القتل لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ] ثم ينزل و يصلى عليه و يدفن و إن مات قبل قتله لم يصلب لأنه تابع للقتل فسقط بفواته و إن قتل و لم يأخذ مالا قتل حتما و لم يصلب و إن أخذ المال و لم يقتل قطعت يده اليمنى و رجله اليسرى في مقام واحد ثم حسمتا و خلي لقول الله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } و روى أبو داود بإسناده عن ابن عباس قال : وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بردة الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحابه فنزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم : أن من قتل و أخذ المال قتل و صلب و من قتل و لم يأخذ المال قتل و من أخذ المال و لم يقتل قطعت يده و رجله من خلاف و هذا نص .
وحكم الردء حكم المباشر في جميع هذه الجنايات لأنها محاربة فاستوى فيها الردء و المباشر كالجهاد يستوي الردء و المباشر في استحقاق الغنيمة و ذكر القاضي فيمن قتل و أخذ المال رواية أخرى : أنه يقطع ثم يقتل لأن القتل جزاء القتل و القطع جزاء أخذ المال مفردا و إذا اجتمعا وجب حدهما كالزنا و السرقة و الأول أولى لأنه متى كان في الحدود قتل سقط ما دونه كالرجم في الزنا و القطع في السرقة .
فصل .
و من شرط المحارب أن يكون مع سلاح أو يقاتل بسلاح لأن من لا سلاح له لا منعة له و إن قاتل بالعصا و الحجارة فهو محارب لأنه سلاح يأتي على النفس و لأطرف أشبه الحديد و هل من شروطه أن يكون في الصحراء ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : لا يكون محاربا حتى يشهر السلاح في الصحراء فإن شهره في مصر أو قرية و سعى فيها بالفساد فليس بمحارب هذا ظاهر كلام الخرقي لأن الواجب على المحاربين يسمى : حد قطاع الطريق و قطع الطريق إنما يكون في الصحراء و لأن المصر يلحق فيه الغوث غالبا فتذهب شوكتهم و يكونون مختلسين و قال جماعة من أصحابنا : هم محاربون حيث كانوا لعموم الآية فيهم و لأن ضررهم في المصر أعظم فكانوا بالحد أولى و قال القاضي : إن كبسوا دارا في مصر بحيث يلحقهم الغوث عادة لم يكونوا محاربين و إن حضروا قرية أو بلدا بحيث لا يلحقهم الغوث لكثرة العدد أو بعد البلد من الغوث فهم قطاع طريق لأن الغوث لا يلحقهم عادة فأشبهوا من في الصحراء .
فصل .
و يشترط لتحتم القتل أن يقتل قاصدا لأخذ المال فإن قتل لغير ذلك فليس بمحارب و حكمه حكم القاتل في المصر و إن قتل المحارب من لا يكافئه كحر قتل عبدا أو مسلم قتل ذميا ففيه روايتان : .
إحداهما : يقتل و يصلب لعموم ما روينا و لأنه حد الله تعالى فلم تعتبر فيه المكافأة كقطع السارق .
و الثانية : لا تقتل به لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يقتل مسلم بكافر ] و إن جرح إنسانا جرحا يجب في مثله القصاص وجب القصاص و هل يتحتم ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : يتحتم لأنه نوع قود أشبه القود في النفس .
و الثاني : لا يتحتم لأن الله تعالى ذكر حدود المحاربين فذكر القتل و الصلب و القطع و لم يذكر الجرح فيكون حكمه حكم الجرح في غير المحاربة .
فصل .
و يشترط لوجوب القطع في المحاربة ثلاثة أشياء : .
أحدها : أن يأخذ المال مجاهرة و قهرا فإن أخذه مختفيا فهو سارق و إن اختطفه و هرب به فهو منتهب لا قطع عليه لأن عادة قطاع الطريق القهر فيعتبر ذلك فيهم .
و الثاني : أن يأخذ ما يقطع السارق في مثله لأنه قطع يجب بأخذ المال فاعتبر النصاب كقطع السارق فإن أخذ جماعتهم ما يجب به القطع قطعوا كالمشتركين في السرقة .
و الثالث : أن يأخذ من حرز فإن أخذ منفردا عن القافلة أو من جمال ترك القائد تعهدها لم يقطع لما ذكرناه .
فصل .
و إذا كان المحارب معدوم اليد اليمنى و الرجل اليسرى و أخذ المال انبنى ذلك على الروايتين في السارق إن قلنا : يؤتى على أطرافه كلها قطعت هنا يده اليسرى و رجله اليمنى و إن قلنا : لا يؤتى عليها سقط القطع و إن وجد أحد طرفيه دون الآخر قطع الموجود حسب لأن ما يتعلق به الفرض معدوم فسقط كغسلها في الوضوء و إن قطع القاطع يد المحارب اليسرى و رجله اليمنى مع وجود الطرفين الآخرين أساء و أجزأ لأننا لو أوجبنا قطع الطرفين الآخرين أفضى إلى قطع أربعته بمحاربة واحدة .
فصل .
و إن تاب المحارب قبل القدرة عليه سقط عنه حد المحاربة لقوله تعالى : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } فيسقط عنه انحتام القتل و الصلب و القطع و النفي و لا يسقط حق الآدمي من القصاص و غرامة المال و حد القذف لأنه حق للآدمي فلم يسقط بالتوبة كالضمان و إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شيء مما وجب عليه لأن الله تعالى شرطه في المغفرة لهم كون التوبة قبل القدرة فيدل على عدمها بعدها و لأن إسقاطه بالتوبة بعد القدرة يفضي إلى إسقاطه بالكلية لأنه يخبر بتوبته متى قدرنا عليه و لا نأمن أن يكون تقية فلا يسقط ما تيقنا وجوبه بالشك .
فصل .
ومن وجب عليه حد الله تعالى فتاب فهل يسقط عنه ؟ فيه روايتان : .
إحداهما : يسقط لقول الله تعالى : { فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم } وقال في الزانيين : { فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما } و لأنه حد فسقط بالتوبة كحد المحارب .
و الثانية : لا يسقط لقوله تعالى : { الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } .
وقال سبحانه : { و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما } و لأن ماعزا و الغامدية جاءا مقرين تائبين فأقام النبي صلى الله عليه و سلم عليهما الحد .
قال أصحابنا : و لا يعتبر إصلاح العمل مع التوبة في إسقاط الحد لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ التوبة تجب ما قبلها ] و لأنها توبة من ذنب فلم يعتبر في حكمها إصلاح العمل كالإسلام و يحتمل أن يعتبر إصلاح العمل مدة يتبين فيها أمره لقول الله : { فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح } و قال : { فإن تابا وأصلحا } علق الحكم على شرطين فلا يثبت بدونهما و لأنه لا يؤمن أن يكون إظهار التوبة تقية فلا يتحقق وجودها فلا يثبت الحكم بها بمجردها كتوبة المحارب بعد القدرة