باب العفو عن القصاص .
وهو مستحب لقول الله تعالى : { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } ومن وجب له القصاص فله أن يقتص وله أن يعفو عنه مطلقا إلى غير بدل وله أن يعفو على المال لقول الله تعالى : { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } أوجب الاتباع والأداء بمجرد العفو وروى أبو شريح الكعبي : أن النبي A قال : [ ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا لقتيل من هذيل وأنا والله عاقله فمن قتل بعده قتيلا فأهله بن خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية ] رواه أبو داود وإذا عفا عن القصاص أو عن بعضه سقط كله لأنه حق مبناه على الإسقاط لا يتبعض فإذا سقط بعضه سقط جميعه كالرق وإن وجب لجماعة فعفا بعضهم سقط كله لما روى زيد بن وهب أن عمر Bه أتى برجل قتل قتيلا فجاء ورثة المقتول ليقتلوه فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل : قد عفوت عن حقي فقال عمر : الله أكبر عتق القتيل قبل أن رواه أبو داود ولما ذكرنا في المعنى ثم إن عفا على مال انتقل حق الجميع إلى الدية وإن عفا مطلقا انتقل حق الباقين إلى الدية كما يسقط حق أحد الشريكين إذا أعتق شريكه إلى القيمة وقد روى زيد بن وهب : أن رجلا دخل على امرأته فوجد عندها رجلا فقتلها فاستعدى عليه إخوتها عمر Bه فقال بعض أخوتها : قد تصدقت فقضى لسائرهم بالدية .
فصل : .
ويصح العفو بلفظ العفو لقوله تعالى : { فمن عفي له من أخيه } وبلفظ الصدقة لقوله تعالى : { فمن تصدق به } وبلفظ الإسقاط لأنه إسقاط للحق وبكل لفظ يؤدي معناه لأن المقصود المعنى فبأي لفظ حصل ثبت حكمه كعقد البيع .
فصل : .
واختلفت الرواية في موجب العمد فعنه : موجبه أحد شيئين القصاص أو الدية لخبر أبي شريح لأن له أن يختار أيهما شاء فكن الواجب أحدهما كالهدي والطعام في جزاء الصيد وعنه : موجبه القصاص عينا لقوله تعالى : { كتب عليكم القصاص في القتلى } ولأنه بدل يجب حقا الآدمي فوجب معينا كبدل ماله فإن قلنا بهذا فعفا عنه مطلقا سقط القصاص ولم تجب الدية لأنه لم يجب له غير القصاص وقد أسقطه العفو وإن قلنا : موجبة أحد الشيئين فعفا عن القصاص مطلقا وجبت الدية لأن الواجب أحدهما فإن ترك أحدهما تعين الآخر وإن اختار الدية سقط القصاص وثبت المال وإن اختار القصاص تعين وقال القاضي : وله الرجوع إلى المال لأن القصاص أعلى فكان له أن ينتقل إلى الأدنى ولهذا قلنا : له المطالبة بالدية وإن كان القصاص واجبا عينا ويحتمل أنه ليس له ذلك لأنه تركها فلم يرجع إليها كما لو عفا عنها وعن القصاص ولو جنى عبد على حر جناية موجبة للقصاص فاشتراه بأرشها سقط القصاص لأن شراءه بالأرش اختيار للمال ثم إن كان أرشها مقدرا بذهب أو فضة صح الشراء لأنه ثمن معوم وإن كان إبلا لم يصح لأن صفتها مجهولة فلم يصح جعلها عوضا كما لو اشترى بها غير الجاني .
فصل : .
ويصح عفو المفلس والسفيه عن القصاص لأن الحجر عليها في المال وليس هذا بمال فإن عفوا إلى مال ثبت وإن عفو إلى غير مال وقلنا : الواجب أحد شيئين ثبت المال لأنه واجب وليس لهما إسقاط المال وإن قلنا : الواجب القصاص عينا صح عفوهما لأنه لم يجب إلا القصاص وقد أسقطاه .
فصل : .
وإن وجب القصاص لصغير فليس لوليه العفو على غير مال لأنه تصرف لا حظ للصغير فيه وإن عفا إلى مال وللصغير كفاية من ماله أو له من ينفق عليه لم يصح عفوه لأنه يسقط القصاص من غير حاجة وإن لم يكن له ذلك صح عفوه لأن للصغير حاجة إليه لحفظ حياته ويحتمل أن لا يصح لأن نفقته في بيت المال وإن قتل من لا ولي له فالأمر إلى السلطان وإن رأى قتل وإن رأى عفا على مال لأن الحق للمسلمين فكان على الإمام فعل ما يرى المصلحة فيه وإن أراد أن يعفو على غير مال لم يجز لأنه لا حظ للمسلمين فيه ويحتمل جواز العفو على غير مال لأنه روي عن عثمان أنه عفا عن عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان ولم ينكره أحد من الصحابة ولأنه ولي الدم فجاز له العفو على غير مال كسائر الأولياء .
فصل : .
وإذا وكل من يستوفي له القصاص ثم عفا عنه ثم قتله الوكيل قبل علمه بالعفو ففيه وجهان : .
أحدهما : لا يصح العفو لأنه عفا في حال لا يمكن تلافي ما وكل فيه فلم يصح كالعفو بعد رمي الحربة إلى الجاني .
والثاني : يصح لأنه حق له فصح عفوه عنه بغير علم الوكيل كالدين ولا قصاص على الوكيل لأنه جهر تحريم القتل وعليه الدية لأنه قتل معصوبا ويرجع بها على العافي في أحد الوجهين لأنه غره فرجع عليه بما غرم كالمغرور بحرية الأمة .
والثاني : لا يرجع عليه لأنه محسن بالعفو بخلاف الغار بالحرية .
فصل : .
وإذا جنى عليه جناية توجب القصاص فيما دون النفس فعفا عنها ثم سرت إلى نفسه فلا قصاص فيها لأن القصاص لا يتبعض وقد سقط في البعض فسقط في الكل وإن كانت الجناية لا توجب القصاص كالجائفة وجب القصاص في النفس لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يؤثر العفو وإن كان عفوه على مال فله الدية كاملة في الموضعين وإن عفا عن دية الجرح صح عفوه لأن ديته تجب بالجناية بدليل أنه لو جنى على طرف عبد فباعه سيده ثم برأ كان أرش الجناية للبائع دون المشتري وإنما تتأخر المطالبة به كالدين المؤجل فعلى هذا تجب له دية النفس إلا دية الجرح وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه لا يجب شيء لأن القطع غير مضمون فكذلك سرايته والأول أولى لأن القطع موجب وإنما سقط الوجوب بالعفو فيختص السقوط بمحل العفو وإن قال : عفوت عن الجناية وما يحدث منها صح عفوه ولا قصاص في سرايتها ولا دية لأنه إسقاط للحق بعد انعقاد سببه فصح كالعفو عن الشفعة بعد البيع ولا يعتبر خروج ذلك من الثلث نص عليه لأن الواجب القصاص عينا أو أحد شيئين فما تعين إسقاط أحدهما وعنه : أنه إن مات من سرايتها لم يصح العفو لأنها وصية لقاتل وعنه : تصح وتعتبر من الثلث .
فصل : .
وإن قطع إصبعا فعفا عنها ثم سرى إلى الكف ثم اندمل فالحكم فيه على ما فصلناه في السراية إلى النفس فإن قال الجاني : عفوت عن الجناية وما يحدث منها فأنكر الولي العفو عن سرايتها فالقول قوله لأنه منكر والأصل معه .
فصل : .
وإن قطع يده فعفا عن القصاص وأخذ نصف الدية فعاد الجاني فقتله فلوليه القصاص في النفس لأن القتل انفرد عن القطع فوجب القصاص فيه كما لو قتله غير القاطع فإن اختار الدية فقال أبو الخطاب : له الدية كلها لأن القتل منفرد عن القطع فلم يدخل حكمه في حكمه كما لو كان القاطع غيره ولأن من ملك القصاص في النفس ملك العفو عن الدية كلها كسائر أولياء المقتولين وقال القاضي : له نصف الدية لأن القتل إذا تعقب الجناية قبل برئها كان بمنزلة سرايتها ولو سرى القطع لم يجب إلا نصف الدية كذا هاهنا .
فصل : .
إذا قطع يد إنسان فسرى إلى نفسه فاقتص وليه في اليد ثم عفا عن النفس على غير مال جاز ولا شيء عليه سواء سرى القطع أو وقف لأن العفو يرجع إلى ما بقي دون ما استوفي فأشبه ما لو قبض بعض ديته ثم أبرأه من باقيها وإن عفا على مال فوجب له نصف الدية لأنه أخذ مال ما يساوي نصف الدية وإن قطع يدي رجل فسرى إلى نفسه فاستوفى من يديه ثم عفا عن النفس لم يجب له شيء لأنه لم يبق من الدية شيء وإن قطع نصراني يد مسلم فسرى فقطع الولي يده ثم عفا عن نفسه على ماله ففيه وجهان : .
أحدهما : له نصف دية مسلم لأنه رضي بأخذ يد النصراني بدل يد وليه فبقي له النصف .
والثاني : يجب له ثلاثة أرباعها لأنه استوفى يدا قيمتها ربع دية مسلم فبقي له ثلاثة أرباعها وإن قطع يده فسرى إلى نفسه فاستوفى من يده وعفا عن نفسه فعلى الوجه الأول : لا شيء له لأنه رضي بيده بدلا من يديه فيصير كما لو استوفى ديته وعلى الوجه الثاني : له نصف الدية لأنه أخذ ما يساوي نصفها وبقي له نصفها وإن كان الجاني امرأة على رجل فعلى ما ذكرناه من التفصيل