باب استيفاء القصاص .
إذا قتل الآدمي استحق القصاص ورثته كلهم لما روى أبو شريح أن النبي A قال : [ من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ] رواه أبو داود وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي A قال : [ من قتل له قتيل فهو بخير النظيرين إما أن يقتل وإما أن يفدى ] ولأنه حق يستحقه الوارث من جهة مورثه فأشبه المال فإن كان الوارث صغيرا لم يستوف له الولي وعنه : للأب استيفاؤه لأنه أحد بدلي النفس فأشبه الدية والمذهب لأول لأن القصد التشفي ودرك الغيظ ولا يحصل ذلك باستيفاء الأب فلم يملك استيفاؤه كالوصي والحاكم فعلى هذا : يحبس القاتل إلى أن يبلغ الصغير ويعقل المجنون ويقدم الغائب لأنه فيه حظا للقاتل بتأخير قتله وحظا للمستحق بإيصال حقه إليه فإن أقام القاتل كفيلا ليخلى سبيله لم يجز لأن الكفالة بالدم غير صحيحة وإن وثب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله ففيه وجهان : .
أحدهما : يصير مستوفيا لحقه لأنه عين حقه أتلفه فأشبه ما لو كانت وديعة عند رجل .
والثاني : لا يصير مستوفيا لحقه لأنه ليس من أهل الاستيفاء فتجب له دية أبيه وعلى عاقلته دية القاتل بخلاف الوديعة فإنها لو تلفت من غير تعد برئ منها المودع ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من الجناية وإن كان القصاص بين صغير وكبير أو مجنون وعاقل أو حاضر وغائب لم يجز للكبير العاقل الحاضر الاستيفاء لأنه حق مشترك بينهما فلم يجز لأحدهما الانفراد باستيفائه كما لو كان بين بالغين عاقلين وإن قتل من لا وارث له فالقصاص للمسلمين لأنهم يرثون ماله واستيفاؤه إلى السلطان فإن كان له من يرث بعضه كزوج أو زوجة فاستيفاؤه إلى الوارث والسلطان ليس لأحدهما الانفراد به لما ذكرنا .
فصل : .
فإن بادر بعض الورثة فقتل القاتل بغير أمر صاحبه فلا قصاص عليه لأنه مشارك في استحقاق ما استوفاه فلم تلزمه عقوبته كما لو وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة ويجب لشركائه حقهم من الدية وفيه وجهان : .
أحدهما : يجب على القاتل الثاني لأن نفس القاتل كانت مستحقة لهما فإذا أتلفها أحدهما لزمه ضمان حق الآخر كالوديعة لهما يتلفها أحدهما .
والثاني : يجب في تركة القاتل الأول لأنه قود سقط إلى مال فوجب في تركة القاتل كما لو قتله أجنبي ويرجع ورثة القاتل الأول على قاتل موروثهم بدية ماعدا نصيبه من موروثهم فلو قتلت امرأة رجلا له ابنان فقتلها أحدهما كان للآخر في تركتها نصف دية أبيه ويرجع ورثتها على قاتلها بنصف ديتها وإن عفا بعض من له القصاص ثم قتله الآخر غير عالم بالعفو أو غير عالم أن العفو يسقط القصاص لم يجب عليه قصاص لأن ذلك شبهة فدرأت القصاص كالوكيل إذا قتله بعد العفو وقبل العلم وإن قتله بعد العلم فعليه القصاص لأنه قتل معصوما مكافئا له لا حق له فيه فوجب عليه القصاص كما لو حكم بالعفو حاكم فإن اقتصوا منه فلورثته عليهم نصيبه من الدية وإن اختاروا الدية سقط عنه من الدية ما قابل حقه ولزمه باقيها وإن كان عفو شريكه على الدية فله نصيبه منها في ترك القاتل لأنه حقه انتقل من القصاص إلى ذمة القاتل في حياته فأشبه الدين بخلاف التي قبلها .
فصل : .
ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان لأنه يفتقر إلى اجتهاد ولا يؤمن منه الحيف مع قصد التشفي فإن استوفاه من غير حضرة السلطان وقع الموقع لأنه استوفى حقه ويعزر لافتئاته على السلطان ويستحب أن يكون بحضرة شاهدين لئلا ينكر المقتص الاستيفاء وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها فإن كانت كالة أو مسمومة منعه الاستيفاء بها لما روى شداد بن أوس : أن رسول الله A قال : [ إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإن قتلتم فأحسنوا القتلة وإن ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ] رواه مسلم و أبو داود ولأن المسمومة تفسد البدن وربما منعت غسله وإن طلب من له القصاص أن يتولى الاستيفاء لم يكن منه في الطرف لأنه لا يؤمن أن يجني عليه بما لا يمكن تلافيه وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد أنه يمكن منه لأنه أحد نوعي القصاص أشبه القصاص في النفس وإن كان في النفس وكان يكمل الاستيفاء بالقوة والمعرفة مكن منه لقوله تعالى : { ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل } وقول النبي A : [ من قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ] ولأن القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ وتمكينه منه أبلغ في ذلك فإن كان لجماعة فتشاحوا في المستوفى أقرع بينهم لأنه لا يجوز اجتماعهم على القتل لأن فيه تعذيبا للجاني ولا مزية لأحدهم فوجب التقديم بالقرعة ولا يجوز لمن خرجت له القرعة الاستيفاء إلا بإذن شركائه لأن الحق لهم فلا يجوز استيفاؤه بغير إذنهم وإن كان فيهم من يحسن وباقيهم لا يحسنوا أمروا بتوكيله وإن لم يكن مستحق للقصاص يحسن الاستيفاء أمر بالتوكيل فإن لم يوجد من يتوكل بغير عوض بذل العوض من بيت المال لأنه من المصالح فإن لم يمكن بذل من مال الجاني لأن الحق عليه فكان أجر الإيفاء عليه كأجر كيل الطعام على البائع وإن قال الجاني : أنا أقتص لك من نفسي لم يجب إلى ذلك لأن من وجب عليه إيفاء حق لم يجز أن يكون هو المستوفي كالبائع .
فصل : .
وإذا وجب القتل على حامل لم تقتل حتى تضع لما روى معاذ بن جبل : أن رسول الله A قال : [ إذا قتلت المرأة عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا وحتى تكفل ولدها وإن زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها ] رواه ابن ماجة ولأن قتلها يفضي إلى قتل ولدها ولا يجوز قتله فإذا وضعت لم تقتل حتى تسقيه اللبأ لأنه لا يعيش إلا به وإن لم يكن له من يرضعه لم تقتل حتى ترضعه مدة الرضاع لقوله عليه السلام : [ حتى تكفل ولدها ] ولأنه إذا وجب حفظه وهو حمل وحفظه وهو مولود أولى وإن وجدت مرضعة راتبة قتلت لأنه يستغنى بها عن أمه وإن وجدت مرضعات غير رواتب أو لبن بهيمة يسقي منه راتب جاز قتلها لأن له ما يقوم به ويستحب للولي تأخيره إلى الفطام لأن عليه ضررا في اختلاف اللبن عليه وفي شرب لبن البهيمة فإن ادعت الحمل حبست حتى تتبين حالها لأن صدقها محتمل وللحمل أمارات خفية تعلمها من نفسها وفيه وجه آخر أنها ترى القوابل فإن شهدن بحملها أخرت وإلا قتلت لأن الحق حال عليها فلا يؤخر بدعواها من غير بينة فإن أشكل على القوابل أو لم يوجد من يعرف ذلك أخرت حتى يتبين لأننا إذا أسقطنا القصاص خوف الزيادة فتأخيره أولى .
فصل : .
ولا يجوز استيفاء القصاص في الطرف إلا بعد الاندمال لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : طعن رجل رجلا بقرن في رجله فجاء النبي A فقال : أقدني قال : [ دعه حتى يبرأ ] فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا والنبي A يقول : [ دعه حتى يبرأ ] فأبى فأقاده منه ثم عرج المستقيد فجاء النبي A فقال : برأ صاحبي وعرجت رجلي فقال النبي A : [ لا حق لك ] فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه رواه الدارقطني ولأنه قد يسري إلى النفس فيصير قتلا وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص .
فصل : .
وإذا اقتص من الطرف على الوجه الشرعي فسرى لم يجب ضمان السراية سواء سرى إلى النفس أو عضو آخر لما روي أن عمر وعليا Bهما قالا : من مات من حد أو قصاص لا دية له الحق قتله رواه سعيد في سننه ولأنه قطع مقدر مستحق فلم تضمن سرايته كقطع السارق وإن تعدى في القطع أو قطع بآلة كالة أو مسمومة فسرى ضمن السراية لأنه سراية قطع غير مأذون فيه أشبه سراية الجناية وسراية الجناية مضمونة لأنها سراية قطع مضمون فإن اقتص في الطواف قبل الاندمال ثم سرت الجناية كانت سرايتها هدرا لخبر عمر بن شعيب ولأنه استعجل ما ليس له استعجال فبطل حقه كقاتل موروثه وإن سرى القطعان جميعا فهما هدر كذلك وإن اقتص بعد الاندمال ثم انتقض جرح الجناية فسرى إلى النفس وجب القصاص به لأنه اقتص بعد جواز الاقتصاص فإن اختار الدية فله دية إلا دية الطرف المأخوذ في القصاص فإن كانت دية الطرف كدية النفس فليس له العفو على مال كذلك وإن كان الجاني ذميا قطع أنف مسلم فاقتص منه بعد البرء ثم سرى إلى نفس المسلم فلوليه قتل الذمي وهل له أن يعفو على نصف دية المسلم ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : له ذلك لأن دية أنف اليهودي نصف دية المسلم فيبقى له النصف .
والثاني : ليس له ذلك لأنه استوفى بدل أنفه أشبه ما لو كان الجاني مسلما .
فصل : .
ولا يجوز الاقتصاص فيما دون النفس بالسيف ولا يجوز إلا بحديدة ماضية تصلح لذلك سواء كانت الجناية بمثلها أو بغيرها لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم أو يتعدى إلى المحل بما يفضي إلى الزيادة أو تلف النفس أو قلع عينه بأصبع لم يجز الاستيفاء منه بالإصبع كذلك .
فصل : .
فأما النفس فإن كان القتل بالسيف لم يجز قتله إلا بالسيف لأنه آلة القتل وأوجاه فإن ضربه مثل ضربته فلم يمت كرر عليه حتى يموت لأن قتله مستحق ولا يمكن إلا بتكرار الضرب وإن قتله بحجر أو تغريق أو حبس حتى يموت أو خنق ففيه روايتان : .
إحداهما : يقتل بمثل ذلك لقول الله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ولأن النبي A رضخ رأس يهودي رضخ رأس جارية بين حجرين متفق على معناه وروي عنه عليه السلام : أنه قال : [ من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ] ولأن القصاص مشعر بالمماثلة فيجب أن يعمل بمقتضاه .
والثانية : لا يقتل إلا بالسيف في العنق لما روي عن النبي A أنه قال : [ لا قود إلا بالسيف ] رواه ابن ماجة ونهى النبي A عن المثلة وقال : [ إذا قتلتم فأحسنوا القتلة ] ولأنه زيادة تعذيب في القتل فلم تجز المماثلة فيه كما لو قتله بسيف كال .
وإن قتله بمحرم لعينه كالسحر وتجريع الخمر واللواط قتل بالسيف رواية واحدة لأن ذلك محرم لعينه فسقط وبقي القتل وإن قتله بسيف كال لم يقتل بمثله لأن المماثلة فيه لا تتحقق وإن حرقه فقال القاضي : فيه روايتين كالتغريق وقال بعض أصحابنا : لا يحرق بحال لقول النبي A : [ لا يحرق بالنار إلا رب النار ] رواه ابن ماجة وإن قطع يده من المفصل أو أوضحه ثم ضرب عنقه فهل يفعل به كما فعل أو يقتصر على ضرب عنقه ؟ على روايتين ذكرهما الخرقي وإن لم يضرب عنقه بل سرت الجناية إلى نفسه ففيه أيضا روايتان : .
إحداهما : لا يقتل إلا بالسيف في العنق لئلا يفضي إلى الزيادة على ما أتى به .
والثانية : يفعل به كما فعل فإن مات وإلا ضربت عنقه لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضو آخر والزيادة لضرورة استيفاء الحق محتملة بدليل تكرار الضرب في حق من قتل بضربة واحدة وإن جرحه جرحا لا قصاص فيه كقطع الساعد والجائفة فمات أو ضرب عنقه بعده فقال أبو الخطاب : لا يقتل إلا بالسيف في العنق رواية واحدة لأنها جناية لا قصاص فيها فلا يستوفي بها القصاص كتجريع الخمر وذكر القاضي فيها روايتين كالتي قبلها لأن النبي A رض رأس اليهودي بين حجرين ولأن المنع من القصاص فيها منفردة لخوف سرايتها إلى النفس وليس بمحذور هاهنا .
فصل : .
وكل موضع قلنا : ليس له أن يفعل مثل فعل الجاني إذا خالف وفعل فلا شيء عليه لأنه حقه وإنما منع منه لتوهم الزيادة ولو أجافه أو أمه أو قطع ساعده فاقتص منه مثل ذلك ولم يسر فلا شيء عليه كذلك وإن سرى ضمن سرايته لأنها سراية قطع غير مأذون فيه .
فصل : .
وإن جنى عليه جناية ذهب بها ضوء عينيه فكانت مما يجب به القصاص كالموضحة اقتص منها فإن ذهب ضوء عينيه فقد استوفي حقه وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء ولا يذهب بالحدقة مثل أن يحمي حديدة ويقربها منها وإن ذهب ضوء إحداهما غطيت العين الأخرى وقربت الحديدة إلى التي يقتص منها لما روى يحيى بن جعدة : أن أعرابيا قدم بحلوبة له المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان Bه فنازعه فلطمه ففقأ عينه فقال له عثمان : هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه ؟ فأبى فرفعهما إلى علي Bه فدعا علي بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه الأخرى ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه فإن لم يمكن إلا بالجناية على العضو سقط القصاص وإن أذهب بصره بجناية لا قصاص فيها كالهاشمة واللطمة عولج بصره بما ذكرنا ولم يقتص منه للأثر ولأنه تعذر القصاص في محل الجناية فعدل إلى أسهل ما يمكن كالقتل بالسحر وله أرش الجرح وذكر القاضي في اللطمة : أنه يفعل به كما فعل والصحيح : الأول لأن اللطمة لا يقتص منها منفردة فكذلك إذا أذهب العين كالهاشمة .
فصل : .
ومن وجب له القصاص في النفس فضرب في غير موضع الضرب عمدا أساء ويعزر فإن ادعى أنه أخطأ في شيء يجوز الخطأ فيه قبل قبوله مع يمينه لأنه يدعي محتملا وهو أعلم بنفسه وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ لم قبل قوله لعدم الاحتمال فإن أراد العود إلى الاستيفاء لم يمكنه منه لأنه لا يؤمن منه التعدي ثانيا وقال القاضي : يمكن لأن الحق له والظاهر أنه لا يعود إلى مثله وإن كان له القصاص في النفس فقطع طرفه فلا قصاص عليه لأنه قطع طرفا يستحق إتلافه ضمنا فكان شبهة مسقطة للقصاص ويضمنه بديته لأنه طرف له قيمة حين القطع قطعه بغير حق فوجب ضمانه كما لو قطعه بعد العفو عنه .
فصل : .
وإن وجب له القصاص في الطرف فاستوفى أكثر منه عمدا وكان الزائد موجبا للقصاص مثل أن وجب له قطع أنملة فقطع اثنتين فعليه القود وإن كان خطأ أو لا يجب في مثله القود مثل من وجبت له موضحة فاستوفى هاشمة فعليه أرش الزائد كما لو فعله في غير قصاص فغن كانت الزيادة لاضطراب الجاني فلا شيء فيها لأنها حصلت بفعله في نفسه فهدرت وإن استوفى من الطرف بحديدة مسمومة فمات لم يجب القصاص لأنه تلف من جائز وغيره ويجب نصف الدية لأنه تلف من فعل مضمون وغير مضمون فقسم ضمانه بينهما .
فصل : .
وإن وجب له قصاص في يد فقطع الأخرى فقال أبو بكر : يقع الموقع ويسقط القصاص سواء قطعها بتراضيهما أو بغيره لأن ديتها واحدة وألمهما واحد واسمهما ومعناهما واحد فأجزأت إحداهما عن الأخرى كالمتماثلتين ولأن إيجاب القصاص في الثانية يفضي إلى قطع يدين بيد واحدة وتفويت منفعة الجنس في حق من لم يفوتها وقال ابن حامد : لا يجزئ لأن ما لا يجوز أخذه قصاصا لا يجزئ بدلا كاليد عن الرجل فعلى هذا إن أخذها بتراضيهما فلا قصاص على قاطعها لأنه قطعها بإذن صاحبها ويسقط القصاص في الأخرى وفي أحد الوجهين لأن عدوله عن التي يستحقها رضي بترك القصاص فيها ولكل واحد على الآخر دية يده .
والثاني : لا يسقط لأنه أخذ الثانية بدلا عن الأولى ولم يسلم البدل فبقي حقه في المبدل فيقتص من اليد الأخرى ويعطيه دية التي قطعها وإن قطعها كرها عالما بالحال فعليه القصاص فيها وله القصاص في الأخرى وإن قال : أخرج يمينك لأقتص منها فأخرج يساره فقطعها يظنها اليمين وقال المخرج : عمدت إخراجها عالما أنها لا تجزئ فلا ضمان فيها لأن صاحبها بذلها راضيا بقطعها بغير بدل وإن قال : ظننتها اليمنى أو أنها والواجب قطع اليسرى أو أنها تجزئ أو أخرجتها دهشة فعلى قاطعها ديتها لأنه بذلها لتكون عوضا فلم تكن عوضا فوجب بدلها كما لو اشترى سلعة بعوض فاسد فتلفت عنده وإن علم المستوفي حال المخرج وحال اليد ففيها القود في أحد الوجهين لأنه تعمد قطع يد معصومة وفي الثاني : لا قود عليه لأنه قطعها ببذل صاحبها ورضاه وعليه ديتها وإن جهل الحال فلا قصاص عليه وعليه ديتها وإن كان القصاص على مجنون فقال له المقتص : أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها عمدا فعليه القصاص وإن كان جاهلا فعليه الدية لأن بذل المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه وإن كان القصاص للمجنون فأخرج إليه يساره فقطعها ذهبت هدرا لأنه ليس من أجل الاستيفاء فإذا سلطه على إتلاف عضوه لم يضمنه كما لو أذن له في إتلاف ماله .
فصل : .
ومن وجب عليه القصاص في نفسه أو طرف فمات عن تركة وجبت دية جنايته في تركته لأنه تعذر استيفاء القصاص من غير إسقاط فوجبت الدية كقتل غير المكافئ وإن لم يخلف تركة سقط الحق لتعذر استيفائه .
فصل : .
ومن قتل أو أتى حدا خارج الحرم ثم لجأ إليه لم يجز الاستيفاء منه في الحرم لقول الله تعالى : { ومن دخله كان آمنا } ولما روى أبو شريح الكعبي : أن رسول الله A قال : [ إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله A فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولن يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب ] متفق عليه ولا يبايع ولا يشاري ولا يطعم ولا يؤوي ويقال له : اتق الله واخرج إلى الحل فإذا خرج استوفي منه لأن ابن عباس قال ذلك ولأن في إطعامه تمكينا في تضييع الحق الذي عليه ولا فرق بين القتل وغيره من العقوبات وروى حنبل عنه : أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل لأن حرمة النفس أعظم والمذهب : الأول قال أبو بكر : انفرد حنبل عن عمه في هذه الرواية ولأن ما حرم النفس حرم الطرف كالعاصم فإن خالف واستوفى في الحرم أساء ووقع الموقع كما لو استوفى من غير حضرة السلطان ومن جنى في الحرم جاز الاستيفاء منه في الحرم لأنه انتهك حرمته فلم ينتهض عاصما له ولأن أهل الحرم يحتاجون إلى الزجر عن الجنايات رعاية لحفظ مصالحهم كحاجة غيرهم فوجب أن تشرع الزواجر في حقهم