في شهادة الزور .
مسألة : قال : ومن شهد بشهادة زور أدب وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر أنه شاهد زور إذا تحقق تعمده لذلك .
وجملته ذلك أن شهادة الزور من أكبر الكبائر قد نهى الله عنها في كتابه مع نهيه عن الأوثان فقال تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } وقد [ روي عن خريم بن فاتك أن النبي A قال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ثلاث مرات ثم تلا قوله تعالى { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور } ] رواه أبو داود وروي عن ابن مسعود من قوله وروي عن النبي A أنه قال [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ] متفق عليه ورو أبو حنيفة عن محارب بن دثار عن عمر عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال [ شاهد الزور لا تزول قدماه حتى تجب له النار ] فمتى ثبت عند الحاكم عن رجل أنه شهد بزور عمدا عزره وشهره في قول أكثر أهل العلم روي ذلك عن عمر Bه وبه يقول شريح و القاسم بن محمد و سالم بن عبد الله و الأوزاعي و ابن أبي ليلى و مالك و الشافعي و عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة وقال أبو حنيفة : لا يعزر ولا يشهر لأنه قول منكر وزور فلا يعزر به كالظهار وروى عنه الطحاوي أنه يشهر وأنكره المتأخرون .
ولنا أنه قول محرم يضر به الناس فأوجب العقوبة على قائله كالسب والقذف ويخالف الظهار من وجهين أحدهما : أنه يختص بضرره والثاني : أنه أوجب كفارة شاقة هي أشد من التعزير ولأنه قول عمر Bه ولم نعرف له في الصحابة مخالفا وإذا ثبت هذا فإن تأديبه غير مقدور وإنما هو مفوض إلى رأي الحاكم إن رأى ذلك بالجلد جلده وإن رآه بحبس أو كشف رأسه وإهانته وتوبيخه فعل ذلك ولا يزيد في جلده على عشر جلدات وقال الشافعي : لا يزيد على تسع وثلاثين لئلا يبلغ به أدنى الحدود وقال ابن أبي ليلى : يجلد خمسة وسبعين سوطا وهو أحد قولي أبي يوسف وقال الأوزاعي في شاهدي الطلاق : يجلدان مائة مائة ويغرمان الصداق .
ولنا قول النبي A [ لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله تعالى ] متفق عليه وقال القاسم و سالم يخفق سبع خفقات وقال شريح يجلد أسواطا فأما شهرته بين الناس فإنه يوقف في سوقه إن كان من أهل السوق أو قبيلته إن كان من أهل القبائل أو في مسجده إن كان من أهل المسجد ويقول الموكل به : إن الحاكم يقرأ عليكم السلام ويقول : هذا شاهد زور فاعرفوه وهذا مذهب الشافعي وأتى الوليد بن عبد الملك بشاهد زور فأمر بقطع لسانه وعنده القاسم وسالم فقالا : سبحان الله بحسبه أن يخفق سبع خفقات ويقام بعد العصر فيقال هذا أبو قبيس وجدناه شاهد زور ففعل ذلك به ولا يسخم وجهه ولا يركب ولا يكلف أن ينادي على نفسه وقد روي عن عمر Bه أنه يجلد أربعين جلدة ويسخم وجهه ويطال حبسه رواه الإمام أحمد وقال سوار : يلبب ويدار به على حلق المسجد فيقول : من رآني فلا يشهد بزور وروي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة أنه أمر بحلق رؤوسهم وتسخيم وجوههم ويطاف بهم في الأسواق والذي شهدوا له معهم .
ولنا أن هذا مثله وقد نهى النبي A عن المثلة وما روي عن عمر فقد روي عنه خلافه وأنه حبسه يوما وخلى سبيله وفي الجملة ليس في هذا تقدير شرعي فما فعل الحاكم مما يراه ما لم يخرج إلى مخالفة نص أو معنى نص فله ذلك ولا يفعل به شيء من ذلك حتى يحقق أنه شاهد زور وتعمد ذلك إما بإقراره أو يشهد على رجل بفعل في الشام في وقت ويعلم أن المشهود عليه في ذلك الوقت في العراق أو يشهد بقتل رجل وهو حي أو أن هذه البهيمة في يد هذا منذ ثلاثة أعوام وسنها أقل من ذلك أو يشهد على رجل أنه فعل شيئا في وقت وقد مات قبل ذلك الوقت أو لم يولد إلا بعده وأشباه هذا مما يتقين به كذبه ويعلم تعمده لذلك فأما تعارض البينتين أو ظهور فسقه أو غلطه في شهادته فلا يؤدب به لأن الفسق لا يمنع الصدق والتعارض لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها والغلط قد يعرض للصادق العدل ولا يتعمده فيعفى عنه وقد قال الله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال النبي A [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] .
فصل : ومتى علم أن الشاهدين شهدا زور تبين أن الحكم كان باطلا ولزم نقضه لأنا تبينا كذبهما فيما شهدا به بطلان ما حكم به فإن كان المحكوم به مالا رد إلى صاحبه وإن كان إتلافا فعلى الشاهدين ضمانه لأنهما سبب إتلافه إلا أن يثبت ذلك بإقرارهما على أنفسهم من غير موافقة المحكوم له فيكون ذلك رجوعا منهما عن شهادتهما وقد بينا حكم ذلك .
فصل فإذا تاب شاهد الزور وأتت على ذلك مدة تظهر فيها توبته وتبين صدقه فيها وعدالته قبلت شهادته وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور وقال مالك لا تقبل شهادته أبدا لأن ذلك لا يؤمن منه .
ولنا أنه تائب من ذنبه فقبلت توبته كسائر التائبين وقوله : لا يؤمن منه ذلك قلنا مجرد الاحتمال لا يمنع قبول الشهادة بدليل سائر التائبين فإنه لا يؤمن منهم معاودة ذنوبهم ولا غيرها وشهادتهم مقبولة والله أعلم