في الشهادة .
مسألة : قال : وإذا شهد من الأربعة اثنان أن هذا زنى بها في هذا البيت وشهد الآخران أنه زنى بها في البيت الآخر فالأربعة قذفه وعليهم الحد .
وجملته أن من شروط صحة الشهادة على الزنا اجتماع الأربعة على فعل واحد فإن لم يجتمعوا لم تكمل الشهادة وكان الجميع قذفه عليهم الحد فإن شهد اثنان أنه زنا بها في هذا البيت وشهد اثنان أنه زنا بها في بيت آخر فما اجتمعوا على الشهادة بزنا واحد لأن الزنا في هذا البيت غير الزنا في الآخر فلم تكمل شهادتهم ويحدون حد القذف وبهذا قال مالك و الشافعي في أحد قوليه وقال أبو بكر : تكمل شهادتهم ويحد المشهود عليه واستبعده أبو الخطاب وقال : هذه سهو من الناقل لأنه يخالف الأصول والإجماع والحد يدرأ بالشبهات فكيف يجب بها ؟ .
وقال النخعي وأصحاب الرأي و أبو ثور و الشافعي في قول : لا حد على الشهود لأنهم كملوا أربعة ولا على المشهود عليه لأنهم لم يشهدوا زنا واحد يجب الحد به .
ولنا أنهم لم يشهدوا بزنا واحد فلزمهم الحد كما لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة وأنه زنى بغيرها ولأنه لا يخلو من أن تكون شهادتهم بزنا واحد أو باثنين فإن كانت بفعل واحد مثل أن يعين الجميع وقتا واحدا لا يمكن زناه فيه في الموضعين فاثنان منهم كاذبان يقينا واثنان منهما لو خلوا من المعارضة لشهادتهم لكانا قذفه فمع التعارض أولى وإن كانت شهادتهم بفعلين كانوا قذفه كما لو عينوا في شهادتهم أنه زنى مرة أخرى وما ذكروه يبطل الأصل الذي ذكرناه .
فصل : وكذلك كل شهادة على فعلين مثل أن يشهد اثنان أنه زنى بامرأة وآخران أنه زنى بأخرى أو يشهدان أنه زنى بها في يوم وآخران أنه زنى بها في آخر أو يشهدان أنه زنى بها ليلا وآخران أنه زنى بها نهارا أو يشهدان أنه زنى بها غدوة ويشهد آخران أنه زنى بها عشيا وأشباه هذا فأنهم قذفه في هذه المواضع وعليهم الحد لما ذكرناه فإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية منه أخرى وكانتا متباعدتين فالحكم فيه كما ذكرنا وقال أبو حنيفة : تقبل شهادتهم ويحد المشهود عليه استحسانا وهو قول أبي بكر .
ولنا أنهما مكانان لا يمكن وقوع الفعل الواحد فيهما ولا يصح نسبته إليهما فأشبها البيتين وأما إن كانتا متقاربتين تمكن نسبته إلى كل واحد منهما لقربه منها كملت الشهادة لإمكان صدقهم في نسبته إلى الزاويتين جميعا .
فصل : ومتى كانت الشهادة على فعل فاختلف الشاهدان في زمنه أو مكانه أو صفة له تدل على تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما مثل أن يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا يوم السبت ويشهد الآخر أنه غصبه دينارا يوم الجمعة أو يشهد أحدهما أنه غصبه بدمشق ويشهد الآخر أنه غصبه بمصر أو يشهد أحدهما أنه غصبه دينارا ويشهد الآخر أنه غصبه ثوبا فلا تكمل الشهادة لأن كل فعل لم يشهد به شاهدان وهكذا إن اختلفا في زمن القتل أو مكانه أو صفته أو في شرب الخمر أو القذف لم تكمل الشهادة لأن ما يشهد به أحد الشاهدين غير الذي شهد به الآخر فلم يشهد بكل واحد من الفعلين إلا شاهد واحد فلم يقبل إلا على قول أبي بكر فإن هذه الشهادة لم تكمل ويثبت المشهود به إذا اختلفا في الزمان والمكان فأما إن اختلفا في صفة الفعل فشهد أحدهما أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض وشهد آخر أنه سرق مع الزوال كيسا اسود أو شهد أحدهما أنه سرق هذا الكيس غدوه وشهد الآخر أنه سرق عشيا لم تكمل الشهادة ذكره ابن حامد وقال أبو بكر : تكمل : الأول أصح لأن كل فعل لم يشهد به إلا واحد على ما قدمناه .
وإن اختلفا في صفة المشهود به اختلافا يوجب تغايرهما مثل أن يشهد أحدهما بثوب والآخر بدينار فلا خلاف في أن الشهادة لا تكمل لأنه لا يمكن إيجابهما جميعا لأنه يكون إيجابا بالحق عليه بشهادة واحد ولا إيجاب أحدهما بعينه لأن الآخر لم يشهد به وليس أحدهما أولى من الآخر فأما إن شهد بكل فعل شاهدان واختلفا في الزمان والمكان أو الصفة ثبتا جميعا لأن كل واحد منهما قد شهدت به بينة عادله لو انفردت أثبت الحق وشهادة الأخرى لا تعارضها لإمكان الجمع بينهما إلا أن يكون الفعل مما لا يمكن تكرره كقتل رجل بعينه فتتعارض البينتان لعلمنا أن إحداهما كاذبة ولا نعلم أيتهما هي بخلاف ما تكرر ويمكن صدق البينتين فيه فإنهما جميعا يثبتان إن ادعاهما وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما دعاه دون ما لم يدعه .
وإن شهد اثنان أنه سرق مع الزوال كيسا أسود وشهد آخران أنه سرق مع الزوال كيسا أبيض أو شهد اثنان أنه سرق هذا الكيس غدوة وشهد آخران أنه سرقه عشيا فقال القاضي : يتعارضان : وهو مذهب الشافعي كما لو كان المشهود به قتلا والصحيح أن هذا لا تعارض فيه لأنه يمكن صدق البينتين بأن يسرق عند الزوال كيسين أبيض وأسود فتشهد كل بينة بأحدهما ويمكن أن يسرق كيسا غدوة ثم يعود إلى صاحبه أو غيره فيسرقه عشيا ومع إمكان الجمع لا تعارض فعلى هذا إن ادعاهما المشهود له ثبت له في الصورة الأولى وأما في الصورة الثانية فيثبت له الكيس المشهود به حسب فإن المشهود به وإن كان فعلين لكنهما في محل واحد فلا يجب أكثر من ضمانة وإن لم يدع المشهود له إلا أحد الكيسين ثبت له ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه وإن شهد له شاهد بسرقة كيس في يوم وشهد آخر بسرقة كيس في يوم آخر أو شهد أحدهما في مكان وشهد آخر بسرقته في مكان آخر أو شهد أحدهما بغصب كيس أبيض وشهد آخر بغصب كيس أسود فادعاهما المشهود له فله أن يحلف مع كل واحد منهما ويحكم له به لأنه مال قد شهد له به شاهد وإن لم يدع إلا أحدهما ثبت له ما ادعاه ولم يثبت له الآخر لعدم دعواه إياه .
فصل : فأما الشهادة على الإقرار مثل أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي يوم الخميس بدمشق أنه قتله أو قذفه أو غصبه كذا أوأن له في ذمته كذا و يشهد آخر أنه أقر عندي بهذا يوم السبت بحمص كملت شهادتهما وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وقال زفر : لا تكمل شهادتهما لأن كل إقرار لم يشهد به إلا واحد فلم تكمل الشهادة فأشبه الشهادة على الفعل .
ولنا أن المقر به واحد وقد شهد اثنان بالإقرار به فكملت شهادتهما كما لو كان الإقرار بهما واحدا وفارق الشهادة على الفعل فإن الشهادة فيها على فعلين مختلفين فنظيرة من الإقرار أن يشهد أحدهما أنه أقر عندي أنه قتله في يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قتله يوم الجمعة فإن شهادتهما لا تقبل ههنا ويحقق ما ذكرنا أنه لا يمكن جمع الشهود لسماع الشهادة في حق كل واحد والعادة جارية بطلب الشهود في أماكنهم لا في جمعهم إلى المشهود له فيمضي إليهم في أوقات متفرقة وأماكن مختلفة فيشهدهم على إقراره وإن كان الإقرار على فعلين مختلفين مثل أن يقول أحدهم أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الخميس وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي أنه قتله يوم الجمعة أو قال أحدهما : أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعربية وقال الآخر أشهد أنه أقر عندي أنه قذفه بالعجمية لم تكمل الشهادة لأن الذي شهد به أحدهما غير الذي شهد به صاحبه فلم تكمل الشهادة كما لو شهد أحدهما أنه اقر أنه غصبه دينار وشهد الآخر أنه أقر أنه غصبه دراهم لم تكمل الشهادة وعلى قول أبي بكر تكمل الشهادة في القتل والقذف لأن القذف بالعربية أو العجمية والقتل بالبصرة أو الكوفة ليس من المقتضى فلا يعتبر في الشهادة ولم يؤثر والأول أصح .
فصل : فإن شهد أحدهما أنه باع أمس وشهد الآخر أنه باع اليوم أو شهد أحدهما أنه طلقها أمس وشهد الآخر أنه طلقها اليوم فقال أصحابنا : تكمل الشهادة وقال الشافعي : لا تكمل الشهادة لأن كل واحد من البيع والطلاق لم يشهد به إلا واحد أشبه ما لو شهد بالغصب في وقتين .
ووجه قول أصحابنا بأن المشهود به شيء واحد يجوز أن يعاد مرة بعد أخرى ويكون واحدا فاختلافهما في الوقت ليس باختلاف فيه فلم يؤثر كما لو شهد أحدهما بالعربية والآخر بالفارسية .
فصل : وكذلك الحكم في كل شهادة على قول فالحكم فيه كالحكم في البيع إلا النكاح فإنه كالفعل الواحد فإن شهد أحدهما أنه تزوجها أمس وشهد الآخر أنه تزوجها اليوم لم تكمل الشهادة في قولهم جميعا لأن النكاح الأمس غير النكاح اليوم فلم يشهد بكل واحد من العقدين إلا شاهد واحد فلم يثبت كما لو كانت الشهادة على فعل وكذلك القذف فإنه لا تكمل إلا الشهادة أن يشهد على قذف واحد .
فصل : فإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد وشهد آخر أنه أقر بغصبه منه كملت الشهادة وحكم به لأنه لا يجوز أن يكون الغصب الذي أقر به هو الذي شهد به الشاهد فلم يختلف الفعل وكملت الشهادة كما لو شهدا في وقتين على إقرار بالغصب قال القاضي : لا تكمل الشهادة بها وهو قول الشافعي لأنه يجوز أن يكون ما أقر به غير ما شهد به الشاهد وهذا يبطل بالشهادة على إقرارين فأنه يجوز أن يكون ما أقر به عند أحدالشاهدين غير ما أقر به عند الآخر إذا كانا في وقتين مختلفين و لأنه إذا أمكن جعل الشهادة على واحد لم تحمل على اثنين كالإقرارين وكما لو شهد بالغصب اثنان وشهدعلى الإقرار به اثنان وإن شهد أحدهما أنه غصب هذا العبد من زيد أو أنه أقر بغصبه منه وشهد الآخر أنه ملك زيد لم تكمل شهادتهما لأنهما لم يشهدا على شيء واحد وإن شهد أنه أخذ من يديه ألزمه الحاكم رده إلى يديه لأن اليد دليل الملك فترد إلى يده لتكون دلالتها ثابتة له قال مهنا : سألت أبا عبد الله عن رجل ادعى دارا في يد رجل وأقام شاهدين شهد أحدهما أن هذه الدار لفلان وقال الآخر أشهد أن هذه الدار دار فلان قال : شهادتهما جائزة .
فصل : ومن شهد بالنكاح فلا بد من ذكر شروطه لأن الناس يختلفون في شروطه فيجب ذكرها لئلا يكون الشاهد يعتقد أن النكاح صحيح وهو فاسد وإن شهد بعقد سواه كالبيع والإجارة فهل يشترط ذكر شروطه ؟ على روايتين أحدهما : يشترط ذكرها لأن الناس يختلفون في شروطه فاشترط ذكرها كالنكاح والثاني : لا يشترط ذكر شروطه لأنه لا يشترط ذكرها في الدعوى فكذلك في الشهادة به بخلاف النكاح وإن شهد بالرضاع فلا بد من ذكر أنه شرب من ثديها أو من لبن حلب منه وعدد الرضعات لأن الناس يختلفون في عدد الرضعات وفي الرضاع المحرم وإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم يكف لاختلاف الناس فيما يصير به ابنها ولا بد من ذكر أن ذلك كان في الحولين وإن شهد بالقتل فلا بد من وصف القتل فيقول جرحه فقتله أو ضربه بكذا فقتله ولو قال : ضربه فمات لم يحكم بذلك لجواز أن يكون مات بغير هذا وقد روي عن شريح أنه شهد عنده رجل فقال : أشهد أنه اتكأ عليه بمرفقه فمات فقال له شريح : فمات منه أو فقتله ؟ فأعاد القول الأول وأعاد شريح سؤاله فلم يقل فقتله ولا فمات منه فقال له شريح : قم فلا شهادة لك رواه سعيد ومن شهد بالزنا فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها ومكان الزنا وصفته لأن اسم الزنا يطلق على ما لا يوجب الحد وقد يعتقد الشاهد ما ليس بزنا زنا فاعتبر ذكر صفته ليزول الاحتمال واعتبر ذكر المرأة لئلا تكون ممن تحل له أو له في وطئها شبهة وذكر المكان لئلا تكون الشهادة منهم على فعلين ومن أصحابنا من قال : لا يحتاج إلى ذكر المزني بها ولا ذكر المكان لأنه محل للفعل فلم يعتبر ذكره كالزمان وإن شهد بالسرقة فلا بد من ذكر سرقة نصاب من الحرز وذكر المسروق منه وصفة السرقة وإن شهد بالقذف فلا بد من ذكر المقذوف وصفة القذف وإن شهد بمال احتاج إلى تحريزه بمثل ما ذكرنا في الدعوى وإن ترك الشاهد شيء يحتاج إلى ذكره سأله الحاكم عنه كما سأل شريح الشاهد الذي شهد عنده أنه اتكأ عليه بمرفقه حتى مات وإن حرر المدعي دعواه أو حرر أحد الشاهدين شهادته وشهد بها وقال الآخر : أشهد بمثل ذلك أو قال حين حرر المدعي دعواه أشهد بذلك أو بهذا أجزأه .
مسألة : قال : ولو جاء أربعة متفرقون والحاكم جالس في مجلس حكمه لو يقم قبل شهادتهم وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد .
هذه مسألة قد ذكرناها في كتاب الحدود بما أغنى عن إعادتها هنا .
مسألة : قال : ومن حكم بشهادتهما بجرح أو قتل ثم رجعا وقالا عمدنا اقتص منهما وإن قالا أخطأنا غرما الدية أو أرش الجرح .
وجملته الأمر أن الشهود إذا رجعوا عن شهادتهم بعد أدائها لم يخل من ثلاثة أحوال : أحدها : أن يرجعوا قبل الحكم بها فلا يجوز الحكم بها في قول عامة أهل العلم وحكى عن أبي ثور أنه شذ عن أهل العلم وقال : يحكم بها لأن الشهادة قد أديت فلا تبطل برجوع من شهد بها كما لو رجعا بعد الحكم وهذا فاسد لأن الشهادة شرط الحكم فإذا زالت قبله لم يجز كما لو فسقا ولأن رجوعهما يظهر به كذبهما فلم يجز الحكم بها كما لو شهد بقتل رجل ثم علم حياته ولأنه زال ظنه في أن ما شهد به حق فلم يجز الحكم به كما لو تغير اجتهاده وفارق ما بعد الحكم فإنه تم بشرطه ولأن الشك لا يزيل ما حكم به كما لو تغير اجتهاده .
الحال الثاني : أن يرجع بعد الحكم وقبل الاستيفاء فينظر فإن كان المحكوم به عقوبة كالحد والقصاص لم يجز استيفاؤه لأن الحدود تدرأ بالشبهات ورجوعهما من أعظم الشبهات ولأن المحكوم به عقوبة ولم يتعين استحقاقها ولا سبيل إلى جبرها فلم يجز استيفاؤها كما لو رجعا قبل الحكم وفارق المال فإنه يمكن جبره بإلزام الشاهدين عوضه والحد والقصاص لا ينجبر بإيجاب مثله على الشاهدين لأن ذلك ليس بجبر ولا يحصل لمن وجب منه عوض وإنما شرع للزجر والتشفي والانتقام لا للجبر فإن قيل : فقد قلتم أنه إذا حكم بالقصاص ثم فسق الشاهدان استوفي في أحد الوجهين قلنا : الرجوع أعظم في الشبهة من طريان الفسق لأنهما يقران أن شهادتهما زور وأنهما كانا فاسقين حين شهدا وحين حكم الحاكم بشهادتهما وهذا الذي طرأ فسقه لا يتحقق كون شهادته كذبا ولا أنه كان فاسقا حين أدى الشهادة ولا حين الحكم بها ولهذا لو فسق بعد الاستيفاء لم يلزمه شيء والراجعان تلزمهما غرامة ما شهدا به فافترقا وإن كان المشهود به مالا استوفى ولم ينقص حكمه في قول أهل الفتيا من علماء الأمصار وحكى سعيد بن المسيب و الأوزاعي أنهما قالا : ينقض الحكم وإن استوفى الحق ثبت بشهادتهما فإذا رجعا زال ما ثبت به فينقض الحكم كما لو تبين أنهما كانا كافرين .
ولنا أن حق المشهود له وجب له فلا يسقط بقولهما كما لو ادعياه لأنفسهما يحقق هذا أن حق الإنسان لا يزول إلا ببينة أوإقرار ورجوعهما ليس بشهادة ولهذا لا يفتقر إلى لفظ الشهادة ولا هو إقرار من صاحب الحق وفارق ما إذا تبين أنهما كانا كافرين لأننا تبينا أنه لم يوجد شرط الحكم وهو شهادة العدول وفي مسألتنا لن يتبين ذلك بجواز أن يكونا عدلين صادقين في شهادتهما وإنما كذبا في رجوعهما ويفارق العقوبات حيث لا تستوفى فإنها تدرأ بالشبهات .
الحال الثالث : أن يرجعا بعد الاستيفاء فإنه لا يبطل الحكم ولا يلزم المشهود له شيء سواء كان المشهود به مالا أو عقوبة لأن الحكم قد تم باستيفاء المحكوم به ووصول الحق إلى مستحقه ويرجع به على الشاهدين ثم ينظر فإن كان المشهود به إتلافا في مثله القصاص كالقتل والجرح نظرنا في رجوعهما فإن قالا : عمدنا الشهادة عليه بالزور ليقتل أو يقطع فعليهما القصاص وبهذا قال ابن شبرمة و ابن أبي ليلى و الأوزاعي و الشافعي و أبو عبيد .
وقال أصحاب الرأي : لا قود عليهما لأنهما لم يباشرا الإتلاف فأشبها حافر البئر وناصب السكين إذا تلف بهما شيء .
ولنا أن عليا Bه شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه ثم عادا فقالا : أخطأنا ليس هذا هو السارق فقال علي لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما ولا مخالف له في الصحابة فيكون إجماعا ولأنهما تسببا إلى قتله أو قطعه بما يفضي إليه غالبا فلزمهما القصاص كالمكره وفارق الحفر ونصب السكين فإنه لا يفضي إلى القتل غالبا .
وقد ذكرنا هذه المسألة في القصاص فأما إن قالا : عمدنا الشهادة عليه ولا نعلم أنه يقتل بهذا وكانا ممن يجوز أن يجهلا ذلك وجبت الدية في أموالهما مغلظة لأنه شبه عمد ولم تحمله العاقلة لأنه ثبت باعترافهما والعاقلة لا تحمل اعترافا وإن قال أحدهما : عمدت قتله وقال الآخر أخطأت فعلى العامد نصف دية مغلظة وعلى الآخر نصف دية مخففة ولا قصاص في الصحيح من المذهب لأنه قتل عمد وخطأ .
وإن قال كل واحد منهما : عمدت وأخطأ صاحبي احتمل أن يجب القصاص عليهما لاعتراف كل واحد منهما بعمد نفسه واحتمل وجوب الدية لأن كل واحد منهما إنما اعترف بعمد شارك فيه مخطئا وهذا لا يوجب القصاص والإنسان إنما يؤاخذ بإقراره لا باقرار غيره فعلى هذا تجب عليهم دية مغلظة وإن قال أحدهما عمدنا جميعا وقال الآخر : عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القصاص وفي الثاني وجهان كالتي قبلها .
وإن قالا جميعا : أخطأنا فعليهما الدية مخففة في أموالهما لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف وإن قال أحدهما : عمدنا معا وقال الآخر : أخطأنا معا فعلى الأول القصاص وعلى الثاني نصف دية مخففة لأن كلا منهما يؤاخذ بحكم إقراره وإن قال كل واحد منهما : عمدت ولا أدري ما فعل صاحبي ؟ فعليهما القصاص لإقرار كل واحد منهما بالعمد ويحتمل أن لا يجب عليهما القصاص لأن إقرار كل واحد منهما لو انفرد لم يجب عليه قصاص وإنما يؤاخذ الإنسان بإقرار صاحبه وإن قال أحدهما : عمدت ولا أدري ما قصد صاحبي سئل صاحبه فإذا قال عمدت ولا أدري ما قصد صاحبي فهي كالتي قبلها وإن قال : عمدنا فعليه القصاص وفي الأول وجهان وإن قال : أخطأنا فلا قصاص على واحدا منهما وإن جهل حال الآخر بأن يجن أو يموت أو لا يقدر عليه فلا قصاص على المقر وعليه نصيبه من الدية المغلظة .
فصل : وإن رجع أحد الشاهدين وحده فالحكم فيه كالحكم في رجوعهما في أن الحاكم لا يحكم بشهادتهما إذا كان رجوعه قبل الحكم وفي أنه لا يستوفي العقوبة إذا رجع قبل استيفائها لأن الشرط يختل برجوعه كاختلاله برجوعهما وإن كان رجوعه بعد الاستيفاء لومه حكم إقراره فإن أقر بما يوجب القصاص وجب عليه وإن أقر بما يوجب دية مغلظة وجب عليه قسطه منها وإن اقر بالخطأ وجب عليه نصيبه من الدية المخففة وإن كان الشهود أكثر من اثنين في الحقوق المالية أو القصاص ونحوه فما ثبت بشاهدين أو أكثر من أربعة فرجع الزائد منهم قبل الحكم والاستيفاء لم يمنع ذلك الحكم ولا الاستيفاء لأن ما بقي من البينة كاف في إثبات الحكم واستيفائه وإن رجع بعد الاستيفاء فعليه القصاص إن أقر بما يوجبه أو قسطه من الدية أو من المفوت بشهادتهما إن كان غير ذلك وفي ذلك اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى .
مسألة : قال : وإن كانت شهادتهما بمال غرماه ولم يرجع به على المحكوم له به سواء كان المال قائما أو تالفا .
أما كونه لا يرجع به على المحكوم له به فلا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا سواء ما حكيناه عن سعيد بن المسيب و الأوزاعي وقد ذكرنا الكلام معهما فيما مضى فأما الرجوع به على الشاهدين فهو قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأصحاب الرأي وهو قول الشافعي القديم وقال في الجديد : لا يرجع عليهما بشيء إلا أن يشهدا بعتق عبد فيضمنا قيمته لأنه لم يوجد منهما إتلاف للمال ولا يد عادية عليه فلم يضمنا كما لو ردت شهادتهما .
ولنا أنهما أخرجا ماله من يده بغير حق وحالا بينه وبينه فلزمهما الضمان كما لو شهدا بعتقه ولأنهما أزالا يد السيد عن عبده بشهادتهما المرجوع عنها فأشبه ما لو شهدا بحريته ولأنهما تسببا إلى إتلاف حقه بشهادتهما بالزور عليه فلزمهما الضمان كشاهدي القصاص ويحقق هذا أنه إذا ألزمهما القصاص الذي يدرأ بالشبهات فوجوب المال أولى وقولهم إنهما أتلفا المال يبطل بما إذا شهدا بعتقه فإن الرق في الحقيقة لا يزول بشهادة الزور وإنما حالا بين سيده وبينه وفي موضع إتلاف المال فهما تسببا إلى تلفه فيلزمهما ضمان ما تلف بسببهما كشاهدي القصاص وشهود الزنا وحافر البئر وناصب السكين