إذا تاب القاذف قبلت شهادته وتوبته إن يكذب نفسه .
مسألة : قال : وإذا تاب القاذف قبلت شهادته .
جملته أن القاذف إن كان زوجا فحقق بينة أو لعان أو كان أجنبيا فحققه بالبينة أو بإقرار المقذوف لم يتعلق بقذفه فسق ولا حد ولا رد شهادة وإن لم يحقق قذفه بشيء من ذلك المتعلق به وجب الحد عليه والحكم بفسقه ورد شهادته لقول الله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } فإن تاب لم يسقط عنه الحد وزال الفسق بلا خوف وتقبل شهادته عندنا وروي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وابن عباس وبه قال عطاء و طاووس و مجاهد و الشعبي و الزهري و عبد الله بن عتبة و جعفر بن أبي ثابت و أبو الزناد و مالك و الشافعي و البتي و إسحاق و أبو عبيد و ابن المنذر وذكره ابن عبد البر عن يحي بن سعيد وربيعه وقال ضريح و الحسن و النخعي و سعيد بن جبير و الثوري و أصحاب الرأي : لا تقبل شهادته إذا جلد وإن تاب وعن أبي حنيفة ترد شهادته قبل الجلد وإن لم يتب فالخلاف معه في فصلين : .
أحدهما : أنه عندنا تسقط شهادته بالقذف إذا لم يحققه وعند أبي حنيفة و مالك لا تسقط إلا بالجلد .
والثاني : أنه إذا تاب قبلت شهادته وإن جلد وعند أبي حنيفة لا تقبل وتعلق بقول الله تعالى : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } وروي ابن ماجة بإسناده عن عمروبن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله A : [ لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود في الإسلام ] واحتج في الفصل الآخر بأن القذف قبل حصول الجلد يجوز أن تقوم به البينة فلا يجب به التفسيق .
ولنا في الفصل الأول إجماع الصحابة Bهم فإنه يروى عن عمر Bه أنه كان يقول لأبي بكر حين يشهد على المغيرة بن شعبة : تب أقبل شهادتك ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعا قال سعيد ابن المسيب : شهد على المغيرة ثلاثة رجال : أبو بكرة ونافع بن الحارث وشبل بن معبد ونكل زياد فجلد عمر الثلاثة وقال لهم : توبوا تقبل شهادتكم وتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما وأبى أبو بكرة فلم يقبل شهادته وكان قد عاد مثل النصل من العبادة ولأنه تائب من ذنبه فقبلت شهادته كالتائب من الزنا يحققه أن الزنا أعظم من القذف به وكذلك قتل النفس التي حرم الله وسائر الذنوب إذا تاب فاعلها قبلت شهادته فهذا أولى و أما الآية فهي حجة لنا فأنه استثنى التائبين بقوله تعالى : { إلا الذين تابوا } والاستثناء من النفي إثبات فيكون تقديره { إلا الذين تابوا } فاقبلوا شهادتهم وليسوا بفاسقين فإن قالوا : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة التي تليه بدليل أنه لا يعود إلى الجلد قلنا : بل يعود إليه أيضا لأن هذه الجمل معطوف بعضها على بعض بالواو وهي للجمع تجعل الجمل كلها كالجملة الوحدة فيعود الاستثناء إلى جميعها إلا ما منع منه مانع ولهذا قال النبي A : [ لا يؤمن الرجل الرجل في بيته ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ] عاد الاستثناء إلى الجملتين جميعا ولأن الاستثناء يغاير ما قبله فعاد إلى الجمل المعطوف بعضها على بعض بالواو كالشرط فإنه لو قال : امرأته طالق وعبده حر إن لم يقم عاد الشرط إليهما كذا الاستثناء بل عود الاستثناء إلى رد الشهادة أولى لأن رد الشهادة هو المأمور به فيكون هو الحكم والتفسيق خرج مخرج الخبر والتعليل لرد الشهادة فعود الاستثناء إلى الحكم المقصود أولى من رده إلى التعليل وحديثهم ضعيف يرويه حجاج بن أرطاة وهو ضعيف قال ابن عبد البر : لم يرفعه من روايته حجة وقد روي من غير طريقه ولم تذكر فيه هذه الزيادة فدل ذلك على أنها من غلطة ويدل على خطئه قبول شهادة كل محدود في غير القذف بعد توبته ثم لو قدر صحته المراد به من لم يتب بدليل كل محدود تائب سوى هذا .
وأما الفصل الثاني : فدليلنا فيه الآية فإنه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء : إيجاب الجلد ورد الشهادة والفسق فيجب أن يثبت رد الشهادة بوجود الرمي الذي لم يمكنه تحقيقه كالجلد ولأن الرمي هو المعصية والذنب الذي يستحق به العقوبة وتثبت به المعصية الموجبة لرد الشهادة والحد كفارة وتطهير فلا يجوز تعليق رد الشهادة به وإنما الجلد ورد الشهادة حكمان للقذف فيثبتان جميعا به وتخلف استيفاء أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر وقولهم : إنما يتحقق بالجلد لا يصح لأن الجلد حكم القذف الذي تعذر تحقيقه فلا يستوفى قبل تحقيق القذف وكيف يجوز أن يستوفى حد قبل تحقيق سببه ويصير متحققا بعده ؟ هذا باطل .
فصل : والقاذف في الشتم ترد شهادته وروايته حتى يتوب والشاهد بالزنا إذا لم تكمل البينة تقبل روايته دون شهادته وحكي عن الشافعي أن شهادته لا ترد .
ولنا أن عمر لم يقبل شهادة أبي بكرة وقال له : تب أقبل شهادتك وروايته مقبولة ولا نعلم خلافا في قبول رواية أبي بكرة و مع رد عمر شهادته .
مسألة : قال : وتوبته أن يكذب نفسه .
ظاهر كلام أحمد الخرقي أن توبة القاذف إكذاب نفسه فيقول : كنت : كذبت فيما قلت وهذا منصوص الشافعي واختيار الاصطخري من أصحابه قال ابن عبد البر : ومن قال هذا سعيد بن المسيب و عطاء و طاوس و الشعبي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب [ عن عمر عن النبي A أنه قال في قوله تعالى : { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } قال توبته إكذاب نفسه ] ولأن عرض المقذوف تلوث بقذفه فإكذابه نفسه يزيل التلوث فتكون التوبة به وذكر القاضي أن القذف إن كان سبا فالتوبة منه إكذاب نفسه وإن كان شهادة فالتوبة منه أن يقول القذف حرام باطل ولن أعود إلى ما قلت وهذا قول بعض أصحاب الشافعي قال : وهو المذهب لأنه قد يكون صادقا فلا يؤمر بالكذب والخبر محمول على الإقرار بالبطلان لأنه نوع إكذاب .
والأولى أنه متى علم من نفسه الصدق فيما قذف به فتوبته الاستغفار والإقرار ببطلان ما قاله وتحريمه وأنه لا يعود وإن لم يعلم صدق نفسه فتوبته إكذاب نفسه سواء كان القذف بشهادة أو سب لأنه قد يكون كاذبا في الشهادة صادقا في السب .
ووجه الأول أن الله تعالى سمى القاذف كاذبا إذا لم يأت بأربعة شهداء على الإطلاق بقوله سبحانه { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } فتكذيب الصادق نفسه يرجع إلى أنه كاذب في حكم الله وإن كان في نفس الأمر صادقا .
فصل : وكل ذنب تلزم فاعله التوبة منه متى تاب منه قبل الله توبته بدليل قوله تعالى { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم } الآية وقال : { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما } ولأن النبي A قال : [ من تاب من الذنب كمن لا ذنب له ] وقال عمر Bه : بقية عمر المؤمن لا قيمة له يدرك فيه ما فات ويحيى فيه ما أمات ويبدل الله سيئاته حسنات .
والتوبة على ضربين : باطنه وحكميه فأما الباطنة فهي بين العبد وربه تعالى فإن كانت المعصية لا توجب حقا عليه في الحكم كقبلة أجنبية أو الخلوة بها وشرب مسكر أو كذب فالتوبة منه ندم والعزم على أن لا يعود وقد روي عن النبي A أنه قال [ الندم توبة ] وقيل : التوبة النصوح تجمع أربعة أشياء الندم في القلب والاستغفار باللسان وإضمار أن لا يعود ومجانبة خلطاء السوء وإن كانت توجب عليه حقا لله تعالى أو لآدمي كمنع الزكاة والغصب فالتوبة منه بما ذكرنا وترك المظلمة حسب إمكانه بأن يؤدي الزكاة ويرد المغصوب أو مثله إن كان مثليا وإلا قيمته وإن عجز عن ذلك نوى رده متى قدر عليه فإن كان عليه فيها حق البدن فإن كان حقا لآدمي كالقصاص وحد القذف اشترط في التوبة التمكين من نفسه وبذلها للمستحق وإن كان حقا لله تعالى كحد الزنا وشرب الخمر فتوبته أيضا بالندم والعزم على ترك العود ولا يشترط الإقرار به فإن كان لم يشتهر عنه فالأولى له ستر نفسه والتوبة فيما بينه وبين الله تعالى لأن النبي A قال [ من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله تعالى فإنه من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد ] فإن الغامدية حين أقرت بالزنا لم ينكر عليها النبي A ذلك وإن كانت معصية مشهورة فذكر القاضي أن الأولى الإقرار به ليقام عليه الحد لأنه إذا كان مشهورا فلا فائدة في ترك إقامة الحد عليه والصحيح أن ترك الإقرار أولى لأن النبي A عرض للمقر عنده بالرجوع عن الإقرار فعرض لماعز وللمقر عنده بالسرقة بالرجوع مع اشتهاره عنه بإقراره وكره الإقرار حتى أنه قيل : لما قطع السارق : كأنما أسف وجهه رمادا ولم يرد الأمر بالإقرار ولا الحث عليه في كتاب ولا سنة ولا يصح له قياس إنما ورد الشرع بالستر والاستتار والتعريض للمقر بالرجوع عن الإقرار [ وقال لهزال وكان هو الذي أمر ماعزا بالإقرار : هزال لو سترته بثوبك كان خيرا لك ] .
وقال أصحاب الشافعي : توبة هذا إقرار لقيام الحد عليه وليس بصحيح لما ذكرنا ولأن التوبة توجد حقيقتها بدون الإقرار وهي تجب ما قبلها كما ورد في الإخبار مع ما دلت عليه الآيات في مغفرة الذنوب بالاستغفار وترك الإصرار وأما البدعة فالتوبة منها بالاعتراف بها والرجوع عنها واعتقاد ضد ما كان يعتقد منها .
فصل : ظاهر كلام أحمد و الخرقي أنه لا يعتبر في ثبوت أحكام التوبة من قبول الشهادة وصحة ولايته في النكاح إصلاح العمل وهو أحد القولين للشافعي وفي القول الآخر يعتبر إصلاح العمل إلا أن يكون ذنبه الشهادة بالزنا ولم يكمل عدد الشهود فإنه يكفي مجرد التوبة من غير اعتبار إصلاح وما عداه فلا تكفي التوبة حتى تمضي عليه سنة تظهر فيها توبة و يتبين فيها صلاحه وذكر أبو الخطاب هذا رواية ل أحمد لأن الله تعالى قال { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } وهذا نص فإنه نهى عنة قبول شهادتهم ثم استثنى التائب المصلح ولأن عمر Bه لما ضرب صبيغا أمر بهجرانه حتى بلغه توبته فأمر أن لا يكلم إلا بعد سنة .
ولنا قوله عليه السلام : [ التوبة تجب ما قبلها ] وقوله [ التائب من الذنب كمن لا ذنب له ] ولأن المغفرة تحصل بمجرد التوبة فكذلك الأحكام ولأن التوبة من الشرك بالإسلام لا تحتاج إلى اعتبار ما بعده وهو أعظم الذنوب كلها فما دونه أولى فأما الآية فيحتمل أن يكون الإصلاح هو التوبة وعطفه عليها لاختلاف اللفظين ودليل ذلك قول عمر لأبي بكرة : تب أقبل شهادتك ولم يعتبر أمرا آخر ولأن من كان غاضبا فرد ما في يديه أو مانعا للزكاة فأداها وتاب إلى الله تعالى قد حصل منه الإصلاح وعلم منه نزوعه عن المعصية بأداء ما عليه ولو لم يرد التوبة ما أدى ما في يديه ولأن تقييده بالسنة تحكم لم يرد الشرع به والتقدير إنما يثبت بالتوقيف وما ورد عن عمر في حق صبيغ إنما كان لأنه تائب من بدعة وكانت توبته بسبب الضرب والهجران فيحتمل أنه أظهر التوبة تسترا بخلاف مسألتنا .
وقد ذكر القاضي أن التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال : ومن علامة توبته أن يتجنب من كان يواليه من أهل البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنة والصحيح أن التوبة من البدعة كغيرها إلا أن تكون التوبة بفعل يشبه الإكراه كتوبة صبيغ فيعتبر له مدة تظهر أن توبته على إخلاص لا على إكراه وللحاكم أن يقول للمتظاهر بالمعصية : تب اقبل شهادتك قال مالك : لا أعرف هذا قال الشافعي : كيف لا يعرفه وقد أمر النبي A بالتوبة وقاله عمر لأبي بكرة