مسألة وفصل اقسام النذور وحكم ما لو نذر فعل طاعة وما ليس بطاعة .
كتاب النذور : الأصل في النذر الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى : { يوفون بالنذر } وقال { وليوفوا نذورهم } وأما السنة فروت عائشة قالت قال رسول الله A : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] وعن عمران بن حصين عن النبي A أنه قال : [ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم ينذرون ولا يفون ويخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون ويظهر فيهم السمن ] رواهما البخاري وأجمع المسلمون على صحة النذر في الجملة ولزوم الوفاء به .
فصل : لا يستحب ل [ أن ابن عمر روى عن النبي A أنه نهى عن النذر وأنه قال : لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل ] متفق عليه وهذا نهي كراهة لا نهي تحريم لأنه لو كان حراما لما مدح الموفين به لأن ذنبهم في ارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه ولأن النذر لو كان مستحبا لفعله النبي A وأفاضل اصحابه .
مسألة : قال : ومن نذر أن يطيع الله D لزمه الوفاء به ومن نذر أن يعصيه لم يعصه وكفر كفارة يمين .
ونذر الطاعة الصلاة والصيام والحج والعمرة والعتق والصدقة والإعتكاف والجهاد وما في هذه المعاني سواء نذره مطلقا بأن يقول لله علي أن أفعل كذا وكذا أو علقه بصفة مثل قوله إن شفاني الله من علتي أو شفى فلانا أو سلم مالي الغائب أو ما كان في هذا المعنى فادرك ما أمل بلوغه من ذلك فعليه الوفاء به ونذر المعصية أن يقول لله علي أن أشرب الخمر أو أقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا يفعل ذلك ويكفر كفارة يمين وإذا قال لله علي أن أركب دابتي أو أسكن داري أو البس أحسن ثيابي وما أشبهه لم يكن هذا نذر طاعة ولا معصية فإن لم يفعله كفر كفارة يمين لأن النذر كاليمين وإذا نذر أن يطلق زوجته استحب له أن لا يطلقها ويكفر كفارة يمين وجملته أن النذر سببه أقسام : .
أحدها : نذر اللجاج والغضب وهو الذي يخرجه مخرج اليمين للحث على فعل شيء أو المنع منه غير قاصد به للنذر ولا القربة فهذا حكمه حكم اليمين وقد ذكرناه في باب الأيمان .
والقسم الثاني : فنذر طاعة وتبرر مثل الذي ذكر الخرقي فهذا يلزم الوفاء به للآيتين والخبرين وهو ثلاثة أنواع : .
أحدها : التزام طاعة في مقابلة نعمة استجلبها أو نقمة استدفعها كقوله إن شفاني الله فلله علي صوم شهر فتكون الطاعة الملتزمة مما له أصل في الوجوب بالشرع كالصوم والصلاة والصدقة والحج فهذا يلزم الوفاء به بإجماع أهل العلم .
النوع الثاني : التزام طاعة من غير شرط كقوله ابتداء لله علي صوم شهر فيلزمه الوفاء به في قول أكثر أهل العلم وهو قول أهل العراق وظاهر مذهب الشافعي وقال بعض أصحابه لا يلزم الوفاء به لأن أبا عمر غلام ثعلب قال : النذر عند العرب وعد بشرط ولأن ما التزمه الآدمي بعوض يلزمه بالعقد كالمبيع والمستأجر وما التزمه بغير عوض لا يلزمه بمجرد العقد كالهبة .
النوع الثالث : نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض فيلزم الوفاء به لأن النذر فرع على المشروع فلا يجب به ما لا يجب له نظير بأصل الشرع .
ولنا قول النبي A : [ من نذر أن يطيع الله فليطعه ] وذمه الذين ينذرون ولا يوفون وقول الله تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون } .
وقد صح [ أن عمر قال للنبي A إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ فقال له النبي A : أوف بنذرك ] ولأنه ألزم نفسه قربة على وجه التبرر فتلزمه كموضع الإجماع وكما لو ألزم نفسه أضحية أو أوجب هديا وكالاعتكاف وكالعمرة فإنهم قد سلموها وليست واجبة عندهم وما ذكروه يبطل بهذين الأصلين وما حكوه عن أبي عمر لا يصح فإن العرب تسمي الملتزم نذرا وإن لم يكن بشرط قال جميل : .
( فليت رجالا فيك قد نذروا دمي ... وهموا بقتلي يا بثين لقوني ) .
والجعالة وعد بشرط وليست بنذر .
القسم الثالث : النذر المبهم وهو أن يقول لله علي نذر فهذا تجب به الكفارة في قول أكثر أهل العلم وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعائشة وبه قال الحسن و عطاء و طاوس و القاسم و سالم و الشعبي و النخعي و عكرمة وسعيد بن جبير و مالك و الثوري ومحمد بن الحسن ولا أعلم فيه مخالفا إلا الشافعي قال لا ينعقد نذره ولا كفارة فيه لأن من النذر ما لا كفارة فيه .
ولنا ما روى عقبة بن عامر قال : قال رسول الله A : [ كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة اليمين ] رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب ولأنه نص وهذا قول من سمينا من الصحابة والتابعين ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا فيكون إجماعا .
القسم الرابع : [ نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعا ولأن النبي A قال : من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] ولأن معصية الله لا تحل في حال ويجب على الناذر كفارة يمين روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن جندب وبه قال الثوري و أبو حنيفة وأصحابه وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه فإنه قال فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة لبنة لا كفارة عليه وهذا في معناه وروي هذا عن مسروق و الشعبي وهو مذهب مالك و الشافعي لقول رسول الله A : [ لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد ] رواه مسلم وقال ليس على الرجل نذر فيما لا يملك متفق عليه وقال : [ لا نذر إلا ما ابتغي به وجه الله ] رواه أبو داود وقال : [ من نذر أن يعصي الله فلا يعصه ] ولم يأمر بكفارة [ ولما نذرت المرأة التي كانت مع الكفار ـ فنجت على ناقة رسول الله A أن تنحرها قالت يا رسول الله إني نذرت إن أنجاني الله عليها أن أنحرها ؟ قال : بئس ما جزيتها لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد ] رواه مسلم ولم يأمرها بكفارة [ وقال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم : مروه فليتكلم وليجلس وليستظل وليتم صومه ] رواه البخاري ولم يأمره بكفارة لأن النذر التزام الطاعة وهذا التزام معصية ولأنه نذر غير منعقد فلم يوجب شيئا كاليمين غير المنعقدة ووجه الأول ما [ روت عائشة أن رسول الله A قال : لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ] رواه الإمام أحمد في مسنده و أبو داود في سننه وقال الترمذي هو حديث غريب .
وعن أبي هريرة وعمران بن حصين عن النبي A مثله روى الجوزجاني بإسناده عن عمران بن حصين قال سممعت رسول الله A يقول : [ النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله فذلك لله وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله فلا وفاء فيه وبكفره ما يكفر اليمين ] وهذا نص [ ولأن النذر يمين ما روي عن النبي A أنه قال : النذر حلفة ] [ وقال النبي A لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى بيت الله الحرام فلم تطقه : تكفر يمينها ] صحيح أخرجه أبو داود وفي رواية : [ ولتصم ثلاثة أيام ] قال أحمد إليه اذهب .
وقال ابن عباس في التي نذرت ذبح ابنها كفري يمينك ولو حلف على فعل معصية لزمته الكفارة فكذلك إذا نذرها فأما أحاديثهم فمعناها لا وفاء بالنذر في معصية الله وهذا لا خلاف فيه وقد جاء مصرحا به هكذا في رواية مسلم ويدل على هذا أيضا أن في سياق الحديث : [ ولا يمين في قطيعة رحم ] يعني لا يبر فيها ولو لم يبين الكفارة في أحاديثهم فقد بينها في أحاديثنا فإن فعل ما نذره من المعصية فلا كفارة عليه كما لو حلف ليفعلن معصية ففعلها ويحتمل أن تلزمه الكفارة حتما لأن النبي A عين فيه الكفارة ونهى عن فعل المعصية .
القسم الخامس : المباح كلبس الثوب وركوب الدابة وطلاق المرأة على وجه مباح فهذا يتخير الناذر فيه بين فعله فيبر بذلك لما [ روي أن امرأة أتت النبي A فقالت إني نذرت أن اضرب على رأسك بالدف فقال رسول الله A : أوفي بنذرك ] رواه أبو داود ولأنه لو حلف على فعل مباح بر بفعله فكذلك إذا نذره لأن النذر كاليمين وإن شاء تركه وعليه كفارة يمين ويتخرج أن لا كفارة ومن نذر فيه فإن أصحابنا قالوا فيمن نذر أن يعتكف أو يصلي في مسجد معين كان له أن يصلي ويعتكف في غيره ولا كفارة ومن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأته الصدقة بثلثه بلا كفارة وهذا مثله وقال مالك و الشافعي لا ينعقد نذره لقول النبي A : [ لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ] وقد روى ابن عباس قال : [ بينا النبي A يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا أبو اسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي A : مروه فليستظل وليجلس وليتكلم وليتم صومه ] رواه البخاري [ وعن أنس قال نذرت امرأة أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسئل نبي الله A عن ذلك فقال : إن الله لغني عن مشيها مروها فلتركب ] قال الترمذي هذا حديث صحيح ولم يأمر بكفارة [ وروي أن النبي A رأي رجلا يهادي بين اثنين فسأل عنه فقالوا نذر أن يحج ماشيا فقال : إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه مروه فليركب ] متفق عليه ولم يأمره بكفارة ولأنه نذر غير موجب لفعل ما نذره فلم يوجب كفارة كنذر المستحيل .
ولنا ما تقدم في القسم الذي قبله فأما حديث التي نذرت المشي فقد أمر فيه بالكفارة في حديث آخر [ وروى عقبة بن عامر أن أخته نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فسئل رسول الله A عن ذلك فقال : مروها فلتركب ولتكفر عن يمينها ] صحيح أخرجه أبو داود وهذه زيادة يجب الأخذ بها ويجوز أن يكون الرواي للحديث روى البعض وترك البعض أو يكون النبي A ترك ذكر الكفارة في بعض الحديث إحالة على ما علم من حديثه في موضع آخر ومن هذا القسم إذا نذر فعل مكروه كطلاق امرأته فإنه مكروه بدليل [ قول النبي A : أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] فالمستحب أن لا يفي ويكفر فإن وفى بنذره فلا كفارة عليه والخلاف فيه كالذي قبله .
القسم السادس : نذر الواجب كالصلاة المكتوبة فقال أصحابنا لا ينعقد نذره وهو قول أصحاب الشافعي لأن النذر التزام ولا يصح التزام ما هو لازم له ويحتمل أن ينعقد نذره موجبا كفارة يمين إن تركه كما لو حلف على فعله فإن النذر كاليمين وقد سماه النبي A يمينا وكذلك لو نذر معصية أو مباحا لم يلزمه ويكفر إذا لم يفعله .
القسم السابع : نذر المستحيل كصوم أمس فهذا لا ينعقد ولا يوجب شيئا لأنه لا يتصور انعقاده ولا الوفاء به ولو حلف على فعله لم تلزمه كفارة فالنذر أولى وعقد الباب في صحيح المذهب أن النذر كاليمين وموجبه موجبها إلا في لزوم الوفاء به إذا كان قربة وأمكنه فعله ودليل هذا الأصل [ قول النبي A لأخت عقبة لما نذرت المشي فلم تطقه : ولتكفر يمينها ] وفي رواية : [ فلتصم ثلاثة أيام ] قال أحمد إليه أذهب وعن عقبة أن النبي A قال : [ كفارة النذر كفارة اليمين ] أخرجه مسلم وقول ابن عباس للتي نذرت ذبح ولدها كفري يمينك ولأنه قد ثبت أن حكمه حكم اليمين في أحد أقسامه وهو نذر اللجاج فكذلك سائره في سوى ما استثناه الشرع .
فصل : وإن نذر فعل طاعة وما ليس بطاعة لزمه فعل الطاعة كما في خبر أبي اسرائيل فإن النبي A أمره بإتمام الصوم وترك ما سواه لكونه ليس بطاعة وفي وجبو الكفارة لما تركه الاختلاف الذي ذكرناه [ وقد روى عقبة بن عامر قال نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية غير مختمرة فذكر ذلك عقبة لرسول الله A فقال : مر أختك فلتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام ] رواه الجوزجاني و الترمذي فإن كان المتروك خصالا كثيرة أجزأته كفارة واحدة لأنه نذر واحد فتكون كفارته واحدة كاليمين الواحدة على أفعال ولهذا لم يأمر النبي A أخت عقبة بن عامر في ترك التحفي والاختمار بأكثر من كفارة