مسألة وفصول حكم ما لو حلف ألا يكلمه فكتب إليه أو أشار إليه أو كلم غيره وقصد اسماعه أو ناداه .
مسألة : قال : ولو حلف ألا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا حنث ألا أن يكون أراد أ لا يشافهه .
أكثر أصحابنا على هذا وهو مذهب مالك و الشافعي وقد روى الأثرم وغيره عن أحمد في رجل حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه كتابا قال وأي شيء كان سبب ذلك ؟ إنما ينظر إلى سبب يمينه ولم حلف أن الكتاب قد يجري مجرى الكلام والكتاب قد يكون بمنزلة الكلام في بعض الحالات وهذا يدل على أنه لا يحنث بالكتاب إلا أن تكون نيته أو سبب يمينه يقتضي هجرانه وترك صلته وإن لم يكن كذلك لم يحنث بكتاب ولا رسول لأن ذلك ليس بتكلم في الحقيقة وهذا يصح نفيه فيقال ما كلمته وإنما كاتبته أو راستله ولذلك قال الله تعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } وقال : { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } وقال : { وكلم الله موسى تكليما } ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل ولم يختص بكونه كليم الله ونجيه وقد قال أحمد حين مات بشر الحافي لقد كان فيه أنس وما كلمته قط وقد كانت بينهما مراسلة وممن قال لا يحنث بهذا الثوري و أبو حنيفة و ابن المنذر و الشافعي في الجديد واحتج اصحابنا بقوله تعالى : { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي } فاستثنى الرسول من التكلم والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ولأنه وضع لافهام الآدميين أشبه الخطاب والصحيح أن هذا ليس بتكلم وهذا الاستثناء من غير الجنس كما قال في الآية الأخرى { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } والرمز ليس بتكلم لكن أن نوى ترك مواصلته أو كان سبب يمينه يقتضي هجرانه حنث لذلك ولذلك قال أحمد أن الكتاب يجري مجرى الكلام وقد يكون بمنزلة الكلام فلم يجعله كلاما إنما قال هو بمنزلته في بعض الحالات إذا كان السبب يقتضي ذلك وإذا أطلق احتمل أن لا يحنث لأنه لم يكلمه واحتمل أن يحنث لأن الغالب من الحالف هذه اليمين قصد ترك المواصلة فتعلق يمينه بما يراد في الغالب كقولنا في المسألة قبلها والله أعلم .
فصل : وإن أشار إليه ففيه وجهان قال القاضي يحنث لأنه في معنى المكاتبة والمراسلة في الإفهام والثاني : لا يجنث ذكره أبو الخطاب لأنه ليس بكلام قال الله تعالى لمريم عليها السلام : { فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } إلى قوله { فأشارت إليه } وقال في زكريا : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } إلى قوله { فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا } [ ولأن الكلام حروف وأصوات ولا يوجد في الإشارة ولأن الكلام شيء مسموع وتبطل به الصلاة قال النبي A : إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ] والإشارة بخلاف هذ فإن قيل فقد قال الله تعالى : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } قلنا هذا استثناء من غير الجنس بدليل ما ذكرنا وصحة نفيه عنه فيقال ما كلمه وإنما أشار إليه .
فصل : فإن كلم غير المحلوف عليه بقصد اسماع المحلوف عليه فقال أحمد يحنث لأنه قد اراد تكليمه وقد روينا عن أبي بكر نفيع بن الحارث أنه كان قد حلف أن لا يكلم أخاه زيادا فلما أراد زياد الحج جاء أبو بكر إلى قصر زياد فدخل فأخذ بنيا لزياد صغيرا في حجره ثم قال يا ابن أخي إن أباك يريد الحج ولعله يمر بالمدينة فيدخل على أم حبيبة زوج رسول الله A بهذا النسب الذي ادعاه وهو يعلم أنه ليس بصحيح وإن هذا لا يحل له ثم قام فخرج وهذا يدل على أنه لم يعتقد ذلك تكليما له ووجه الأول أنه أسمعه كلامه قاصدا لاسماعه وإفهامه فأشبه مالو خاطبه وقال الشاعر : ( اياك أعني فاسمعي ياجارة ) .
فصل : فإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث نص عليه أحمد فإنه سئل عن رجل حلف أن لا يكلم فلانا فناداه والمحلوف عليه لا يسمع قال يحنث لأنه قد أراد تكليمه وهذا لكون ذلك يسمى تكليما يقال كلمته فلم يسمع وإن كان ميتا أو غائبا أو مغمى عليه أو أصم لا يعلم بتكليمه إياه لم يحنث وبهذا قال الشافعي [ وحكي عن أبي بكر أنه يحنث بنداء الميت لأن النبي A كلمهم وناداهم وقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ] .
ولنا قوله تعالى : { وما أنت بمسمع من في القبور } ولأنه قد بطلت حواسه وذهبت نفسه فكان أبعد من السماع من الغائب البعيد لبقاء الحواس في حقه وإنما كان ذلك من النبي A كرامة له وأمرا اختص به فلا يقاس عليه غيره .
فصل : وإن سلم على المحلوف عليه حنث لأن الإسلام كلام تبطل الصلاة به وإن سلم على جماعة هو فيهم أو كلمهم فإن قصد المحلوف عليه مع الجماعة حنث لأنه كلمه وإن قصدهم دونه لم يحنث قال القاضي لا يحنث رواية واحدة وهو مذهب الشافعي لأن اللفظ العام يحتمل التخصيص فإذا نواه به فهو على ما نواه وإن أطلق حنث وبه قال الحسن و أبو عبيد و مالك و أبو حنيفة لأنه مكلم لجميعهم لأن مقتضى اللفظ العموم فيحمل على مقتضاه عند الإطلاق وقال القاضي فيه روايتان ولـ لشافعي قولان .
أحدهما : لا يحنث لأن العام يصلح للخصوص فلا يحنث بالإحتمال والأول أولى لأن هذا الإحتمال مرجوح فيتعين العمل بالراجح كما احتمل اللفظ المجاز الذي ليس بمشتهر فإنه يمنع حمله على الحقيقة عند إطلاقه فإن لم يعلم أن المحلوف عليه فيهم ففيه روايتان إحداهما : لا يحنث لأنه لم يرده فأشبه ما لو استثناه والثانية : يحنث لأنه قد أرادهم بسلامة وهو منهم وهذا بمنزلة الناسي وإن كان وحده فسلم عليه ولا يعرفه فقال أحمد يحنث ويحتمل أن لا يحنث بناء على الناسي والجاهل .
فصل : فإن حلف لا يكلمه ثم وصل يمينه بكلامه مثل أن قال فتحقق ذلك أو فاذهب فقال أصحابنا يحنث وقال أصحاب أبي حنيفة لا يحنث بالقليل لأن هذا تمام الكلام الأول والذي يقتضيه يمينه أن لا يكلمه كلاما مستأنفا واحتج أصحابنا بأن هذا القليل كلام منه له حقيقة وقد وجد بعد يمينه فيحنث به كما لو فصله ولأن ما يحنث به إذا فصله يحنث به إذا وصله كالكثير وقولهم أن اليمين يقتضي خطابا مستأنفا قلنا وهذا الخطاب مستأنف غير الأول بدليل أننه لو قطعه حنث به وقياس المذهب أنه لا يحنث لأن قرينة صلته هذا الكلام بيمينه تدل على إرادة كلام يستأنفه بعد انقضاء هذا الكلام المتصل فلا يحنث به كما لو وجدت النية حقيقة وإن نوى كلاما غير هذا لم يحنث بهذا في المذهبين .
فصل : وإن صلى بالمحلوف عليه إماما ثم سلم من الصلاة لم يحنث نص عليه أحمد وبه قال أبو حنيفة وقال أصحاب الشافعي يحنث لأنه شرع له أن ينوي السلام على الحاضرين ولنا أنه قول مشروع في الصلاة فلم يحنث به كتكبيرها وليست نية الحاضرين بسلامه واجبة في السلام وإن أرتج عليه في الصلاة ففتح عليه الحالف لم يحنث لأن ذلك كلام الله وليس بكلام الآدميين .
فصل : وإن حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن قرأ في الصلاة لم يحنث وإن قرأ خارجا منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله وإن ذكر الله تعالى لم يحنث ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنه يحنث لأنه كلام قال الله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } وقال النبي A : [ أفضل الكلام أربع : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ] وقال : [ كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم ] .
ولنا أن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين ولهذا لما قال النبي A : [ إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنه قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة ] لم يتناول المختلف فيه وقال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وقال الله تعالى : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار } فأمره بالتسبيح مع قطع الكلام عنه ولأن ما لا يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجا منها كالإشارة وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة وذكر الله المشروع فيها وإن استأذن عليه إنسان فقال : { ادخلوها بسلام آمنين } يقصد القرآن لم يحنث وإلا حنث .
فصل : وإن حلف لا يتكلم ثلاث ليال أو ثلاثة أيام لم يكن له أن يتكلم في الأيام التي بين الليالي ولا في الليالي التي بين الأيام إلا أن ينوي لأن الله تعالى قال : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } وفي موضع آخر { ثلاث ليال سويا } فكان كل واحد من اللفظين عبارة عن الزمانين جميعا وقال الله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر } فدخل فيه الليل والنهار .
فصل : ومن حلف أن لا يتكفل بمال فكفل ببدن إنسان فقال أصحابنا يحنث لأن المال يلزمه بكفالته إذا تعذر تسليم المكفول به والقياس أنه لا يحنث لأنه لم يكفل بمال وإنما يلزمه المال بتعذر إحضار المكفول به وأما قبل ذلك فلا يلزمه ولأن هذا لا يسمى كفالة بالمال ولا يصح نفيها عنه فيقال ما تكفل بمال وإنما تكفل بالبدن وهذا مذهب أبي حنيفة و الشافعي .
فصل : وإن حلف لا يستخدم عبدا فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه فقال القاضي أن كان عبده حنث وإن كان عبد غيره لم يحنث وهذا قول أبي حنيفة لأن عبده يخدمه عبادة بحكم استحقاقه ذلك عليه فيكون معنى يمينه لامنعتك خدمتي فإذا لم ينهه لم يمنعه فيحنث وعبد غيره بخلافه وقال أبو الخطاب يحنث في الحالين لأن إقراره على الخدمة استخدام ولهذا يقال فلان يستخدم عبده إذا خدمه وإن لم يأمره ولأن ما حنث به في عبده حنث به في غيره كسائر الأشياء وقال الشافعي لا يحنث في الحالين لأنه حلف على فعل نفسه ولا يحنث بفعل غيره كسائر الأفعال .
فصل : وإذا حلف رجل بالله لا يفعل شيئا فقال له آخر يميني في يمينك لم يلزمه شيء لأن يمين الأول ليست ظرفا ليمين الثاني وإن نوى أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك لم يلزمه حكمها قاله القاضي وهو مذهب الشافعي لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية لأن تعلق الكفارة بها لحرمة اللفظ باسم الله المحترم أو صفة من صفاته ولا يوجد ذلك في الكناية وإن حلف بطلاق فقال آخر يميني في يمينك ينوي أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك انعقدت يمينه نص عليه أحمد وسئل عن رجل حلف بالطلاق لا يكلم رجلا فقال رجل وأنا على مثل يمينك فقال عليه مثل ما قال الذي حلف لأن الكناية تدخل في الطلاق وكذلك يمين العتاق والظهار وإن لم ينو شيئا لم تنعقد يمينه لأن الكناية لا تعمل بغير نية وليس هذا بصريح وإن كان المقول له لم يحلف بعد وإنما أراد أنه يلزمه الآخر من يمين يحلف بها فحلف المقول له لم تنعقد يمين القائل وإن كان في الطلاق والعتاق لأنه لا بد أن يكون هناك ما يكنى عنه وليس ههنا ما يكنى عنه وذكر القاضي في موضع آخر فيمن قال أيمان البيعة تلزمني أنه أن عرفها ونوى جميع ما فيها انعقدت يمينه بجميع ما فيها وهذا خلاف ما قاله في هذه المسألة فيكون فيها وجهان .
فصل : فان قال ايمان البيعة تلزمني فقال ابو عبد الله بن بطة كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن ايمان البيعة فقال لست افتي فيها بشيء ولا رأيت أحدا من شيوخنا يفتي في هذه اليمين قال : وكان أبي C يعني ابا علي يهاب الكلام فيها ثم قال ابو القاسم : الا ان يلتزم الحالف بها جميع مافيها من الايمان فقال له السائل عرفها أو لم يعرفها ؟ فقال نعم وايمان البيعة هي التي رتبها الحجاج يستحلف بها عند البيعة والامر المهم للسلطان وكانت البيعة على عهد رسول الله A وخلفائه الراشدين بالمصافحة فلما ولي الحجاج رتبها أيمانا تشتمل على اليمين بالله والطلاق والعتاق وصدقة المال فمن لم يعرفها لم تنعقد يمينه بشيء منها فيها لان هذا ليس بصريح في القسم والكناية لا تصح إلا بالنية ومن لم يعرف شيئا لم يصح أن ينويه وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم يصح أيضا لما ذكرناه ومن عرفها ونوى اليمين بما فيها صح في الطلاق والعتاق لأن اليمين بها تنعقد بالكناية وما عدا ذلك من اليمين بالله وما عدا الطلاق والعتاقة فقال القاضي ههنا تنعقد يمينه أيضا لأنها يمين فتنعقد بالكناية المنوية كيمين الطلاق والعتاق وقال في موضع آخر لا تنعقد اليمين بالله بالكناية وهو مذهب الشافعي لأن الكفارة وجبت فيها لما ذكر فيها من اسم الله العظيم المحرم ولا يوجد ذلك في الكناية والله أعلم