مسائل وفصول حكم ما لو حلف لا يسكن دارا وهو ساكنها أو حلف لا يساكن فلانا أو لا يدخل دارا .
مسألة : قال : ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته فإن تخلف عن الخروج من وقته حنث .
وجملة ذلك أن ساكن الدار إذا حلف لا يسكنها فمتى أقام فيها بعد يمينه زمنا يمكنه فيه الخروج حنث لأن استدامة السكنى كابتدائها في وقوع اسم السكنى عليها ألا تراه يقول سكنت هذه الدار شهرا كما يقول لبست هذا الثوب شهرا ؟ وبهذا قال الشافعي وإن أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث لأن الانتقال لا يكون إلا بالأهل والمال فيحتاج أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا وحكي عن مالك أنه إن أقام دون اليوم والليلة لم يحنث لأن ذلك قليل يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به وعن زفر أنه قال يحنث وإن انتقل في الحال لأنه لا بد من أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها وليس بصحيح فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يراد باليمين ولا يقع عليه وأما إذا أقام زمنا يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به كموضع الاتفاق ألا ترى أنه لو حلف لا يدخل الدار فدخل إلى أول جزء منها حنث وإن كان قليلا ؟ .
فصل : وإن أقام لنقل متاعه وأهله لم يحنث وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي يحنث .
ولنا أن الانتقال إنما يكون بالأهل والمال على ما سنذكره ولا يمكنه التحرز من هذه الإقامة فلا يقع اليمين عليها وعلى هذا إن خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع إمكان نقلهم عنه حنث .
وقال الشافعي لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس بساكن ولأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله .
ولنا أن السكنى تكون بالأهل والمال ولهذا يقال فلان ساكن بالبلد الفلاني وهو غائب عنه بنفسه وإذا نزل بلدا بأهله وماله يقال سكنه ولو نزله بنفسه لا يقال سكنه وقولهم أنه نوى السكنى بنفسه لا يصح فإن من خرج إلى مكان لينقل أهله إليه ولم ينو السكنى بنفسه فأشبه من خرج يشتري متاعا وإن خرج عازما على السكنى بنفسه منفردا عن أهله الذي في الدار لم يحنث ويدين فيما بينه وبين الله تعالى ذكره القاضي .
وحكي عن مالك أنه اعتبر نقل عياله دون ماله والأولى إن شاء الله أنه إذا انتقل بأهله فسكن في موضع آخر فإنه لا يحنث وإن بقي متاعه في الدار لأن مسكنه حيث حل أهله به ونوى الإقامة به ولهذا لو حلف لا يسكن دارا لم يكن ساكنا لها فنزلها بأهله ناويا للسكنى بها حنث وقال القاضي : إن نقل إليها ما يتأثث به ويستعمله في منزلة فهو ساكن وإن سكنها بنفسه .
فصل : وإن أكره على المقام لم يحنث لقول النبي A : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] وكذلك إن كان في جوف الليل في وقت لا يجد منزلا يتحول إليه أو يحول بينه وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكنه أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله فأقام في طلب النقلة أو انتظار لزوال المانع منها أو خرج طالبا للنقلة فتعذرت عليه أما لكونه لم يجد مسكنا يتحول إليه لتعذر الكراء أو غيره أو لم يجد بهائم ينتقل عليها ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام ناويا للنقلة متى قدر عليها لم يحنث وإن أقام اياما وليالي لأن إقامته عن غير اختيار منه لعدم تمكينه من النقلة فإنه إذا لم يجد مسكنا لا يمكنه ترك أهله والقاء متاعه في الطريق فلم يحنث به كالمقيم للإكراه .
وإن أقام في هذا الوقت غيرناو للنقلة حنث ويكون نقله لما يحتاج إلى نقله على ماجرت به العادة فلو كان ذا متاع كثير فنقله قليلا قليلا على العادة بحيث لا يترك النقل المعتاد لم يحنث وإن أقام أياما ولا يلزمه جمع دواب البلد لنقله ولا النقل بالليل ولا وقت الاستراحة عند التعب ولا أوقات الصلوات لأن العادة لم تجر بالنقل فيها ولو ذهب رحله أو أودعه أو أعاره وخرج لم يحنث لأن يده زالت عن المتاع فإن تردد إلى الدار لنقل المتاع أو عائدا لمريض أو زائرا لصديق لم يحنث وقال القاضي إن دخلها ومن رأيه الجلوس عنده حنث وإلا فلا .
ولنا أن هذا ليس بسكنى ولذلك لو حلف ليسكنن دارا لم يبر بالجلوس فيها لأنه على هذا الوجه لا يسمى ساكنا به بهذا العذر فلم يحنث به كما لو لم ينو الجلوس وإن كان له في الدار امرأة أو عائلة فارادهم على الخروج معه والانتقال عنها فأبوا ولم يمكنه إخراجهم فخرج وتركهم لم يحنث لأن هذا مما لا يمكنه فأشبه ما لم يمكنه نقله من رحله .
فصل : وإن حلف لا يساكن فلانا فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا في الحلف على السكنى وإن انتقل أحدهما وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة وإن سكنا في دار واحدة وكل واحد في بيت ذي باب وغلق رجع إلى بيته بيمينه أو إلى سببها وما دلت عليه قرائن أحواله في المحلوف على المساكنة فيه فإن عدم ذلك كله حنث وهذا قول مالك .
وقال الشافعي إن كانت الدار صغيرة فهما متساكنان لأن الصغيرة مسكن واحد وإن كانت كبيرة إلا أن أحدهما في البيت والآخر في الصفة أو كانا في صفتين أو بيتين ليس على أحدهما غلق دون صاحبه فهما متساكنان وإن كانا في بيتين كل واحد منهما له غلق أو كانا في خان فليسا متساكنين لأن كل واحد منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فأشبها المتجاورين كل واحد منهما بنفرد بمسكنه .
ولنا أنهما في دار واحدة فكانا متساكنين كالصغيرة وفارق المتجاورين في الدارين فإنهما ليسا متساكنين ويمينه على نفي المساكنة لا على المجاورة ولو كانا في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين وفتحا لكل واحدة منهما بابا وبينهما حاجز ثم سكن كل واحد منهما في حجرة لم يحنث لأنهما غير متساكنين وإن تشاغلا ببناء الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث لأنهما تساكنا قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى وهذا قول الشافعي ولا نعلم فيه خلافا .
فصل : فإن حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار قسماها حجرتين وبينا بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما لنفسه بابا ثم سكنا فيهما لم يحنث لما ذكرنا في التي قبلها وهذا قول الشافعي و ابن المنذر و أبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك لا يعجبني ذلك ويحتمله قياس المذهب لكونه عين الدار ولا ينحل بتغيرها كما لو حلف لا يدخلها فصارت نصا والأول أصح لأنه لم يساكنه فيها لكون المساكنة في الدار لا تحصل مع كونهما دارين وفارق الدخول فإنه دخلها متغيرة .
فصل : وإن حلف ليخرجن من هذه الدار اقتضت يمينه الخروج بنفسه وأهله كما لو حلف لا يسكنها وإن حلف ليخرجن من هذه البلدة تناولت يمينه الخروج بنفسه لأن الدار يخرج منها صاحبهما في اليوم مرات عادة فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد وإنما أراد الخروج الذي هو النقلة والخروج من البلد بخلاف ذلك وإذا خرج الحالف فهل له العود فيه ؟ عن أحمد روايتان .
إحداهما : لا شيء عليه في العود ولا يحنث به لأن يمينه على الخروج وقد خرج فانحلت يمينه لفعل ما حلف عليه فلم يحنث فيما بعد .
والثانية : يحنث بالعود لأن ظاهر حاله قصد هجران ما حلف على الرحيل منه ولا يحصل ذلك بالعود ويمكن حمل هذه الرواية على أن للمحلوف عليه سببا هيج يمينه أو دلت قرينة حاله على إرادته هجرانه أو نوى ذلك بيمينه فاقتضت يمينه دوام اجتنابها وإن لم يكن كذلك لم يحنث بالعود لأن اليمين تحمل عند عدم ذلك على مقتضى اللفظ ومقتضاه ههنا الحروج وقد فعله فانحلت يمينه وكذلك الحكم إذا حلف على الرحيل منها إلا أنه إذا حلف على الرحيل من بلد لم يبر إلا بالرحيل بأهله .
مسألة : قال : ولو حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث .
نص عليه أحمد هذا في رواية أبي طالب وهو قول الشافعي و أبي ثور وأصحاب الرأي ولا نسلم فيه خلافا وذلك لأن الفعل غير موجود منه ولا منسوب إليه وإن حمل بأمره فأدخلها حنث لأنه دخل مختارا فأشبه ما لو دخل راكبا وإن حمل بغير أمره ولكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع حنث أيضا لأنه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حمل بأمره وقال أبو الخطاب في الحنث وجهان : .
أحدهما : لا يحنث لأنه لم يفعل الدخول ولم يأمر به فأشبه ما لو يمكنه الامتناع ومتى دخل بإختياره حنث سواء كان ماشيا أو راكبا أو محمولا أو ألقى نفسه في ماء فجره إليها أو سبح فيه فدخلها سواء دخلها من بابها أو تسور حائطها أو دخل من طاقة فيها أو نقب حائطا ودخل من ظهرها أو غير ذلك .
فصل : فإن أكره بالضرب ونحوه على دخولها فدخلها لم يحنث في أحد الوجهين وهو أحد قولي الشافعي وفي الآخر يحنث وهو قول أصحاب الرأي ونحوه قول النخعي لأنه فعل ما حلف على تركه ودخلها .
ولنا قول النبي A : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه دخلها مكرها فأشبه ما لو حمل مكرها .
فصل : وإن رقي فوق سطحها حنث وبهذا قال مالك و أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث ولأصحابه فيما إذا كان السطح محجرا وجهان واحتجوا بأن السطح يقيها الحر والبرد ويحرزها فهو كحيطانها .
ولنا أن سطح الدار منها وحكمه حكمها سواء فحنث بدخلوه كالمحجر أو كما لو دخل بين حيطانها ودليل ذلك أنه يصح الاعتكاف في سطح المسجد ويمنع الجنب من اللبث فيه ولو حلف ليخرجن من الدار فصعد سطحها لم يبر ولو حلف أن لا يخرج منها فصعد سطحها لم يحنث ولأنه داخل في حدود الدار ومملوك لصاحبها ويملك بشرائها ويخرج من ملك صاحبها ببيعها والبائت عليه يقال بات في داره وبهذا يفارق ما وراء حائطها فإن كان في اليمين قرينة لفظية أو حالية تقتضي اختصاص الإرادة بداخل الدار مثل أن يكون سطح الدار طريقا وسبب يمينه يقتضي ترك وصلة أهل الدار لم يحنث بالمرور على سطحها وكذلك إن نوى بيمينه باطن الدار تقيدت يمينه بما نواه لأنه ليس للمرء إلا ما نواه .
فصل : فإن تعلق بغصن شجرة في الدار لم يحنث وإن صعد حتى صار في مقابلة سطحها بين حيطانها حنث وإن لم ينزل بين حيطانها احتمل أن يحنث لأنه في هوائها وهواؤها ملك لصاحبها فأشبه ما لو قام على سطحها واحتمل أن لا يحنث لأنه داخلا ولا هو على شيء من أجزائها وكذلك إن كانت الشجرة في غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة سطحها فإن قام على سطحها فإن قام على حائط الدار احتمل وجهين أحدهما : أنه يحنث وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي لأنه داخل في حدها فأشبه القائم على سطحها والثاني : لا يحنث لأنه لا يسمى دخولا وإن قام في طبق الباب فكذلك لأنه بمنزلة حائطها وقال القاضي إذا قام على العتبة لم يحنث لأن الباب إذا غلق حصل خارجا منها ولا يسمى داخلا فيها .
فصل : وإن حلف أن لا يضع قدمه في الدار فدخلها راكبا أو ماشيا منقولا أو حافيا حنث كما لو حلف أن لا يدخلها وبهذا قال أصحاب الرأي وقال أبو ثور إن دخلها راكبا لم يحنث لأنه لم يضع قدمه فيها .
ولنا أنه قد دخل الدار فحنث كما لو دخلها ماشيا ولا نسلم أنه لم يضع قدمه فيها فإن قدمه موضوعة على الدابة فيها فأشبه ما لو دخلها منتعلا وعلى أن هذا في العرف عبارة عن اجتناب الدخول فتحمل اليمين عليه فإن قيل هذا مجاز لا يحمل اليمين عليه قلنا المجاز إذا اشتهر صار من الأسماء العرفية فينصرف اللفظ بإطلاقه إليه كلفظ الرواية والدابة وغيرهما .
فصل : وإن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها فدخلها من غير الباب لم يحنث لأن يمينه لم تتناول غير الباب ويتخرج أنه يحنث إذا أراد بيمينه اجتناب الدار ولم يكن للباب سبب هيج يمينه كما لو حلف لا يأوي مع زوجته في دار فأوى معها في غيرها وإن حول بابها في مكان آخر فدخل فيه حنث لأنه دخلها من بابها وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وإن حلف لأدخلت من باب هذه الدار فكذلك وإن جعل لها باب آخر مع بقاء الأول فدخل منه حنث لأنه دخل من باب الدار وإن قلع الباب ونصف في دار أخرى وبقي الممر حنث بدخوله ولم يحنث بالدخول من الموضع الذي نصب فيه الباب لأن الدخول في الممر لا من المصراع .
فصل : فإن حلف لا يدخل دار فلان دارا مملوكة له أو دارا يسكنها بأجرة أو عارية أو غصب حنث وبذلك قال أبو ثور وأصحاب الرأي وقال الشافعي لا يحنث إلا بدخول دار يمكلها لأن الإضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال هذه الدار لفلان كان مقرا له بمكلها ولو قال أردت أن يسكنها لم يقبل .
ولنا أن الدار تضاف إلى ساكنها كافاضتها إلى مالكها قال الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } أراد بيوت أزواجهن التي يسكنها وقال تعالى : { وقرن في بيوتكن } ولأن الإضافة للإختصاص وكذلك يضاف إضافتها إلى أخيه بالأخوة وإلى أبيه بالبنوة وإلى ولده بالأبوة وإلى امرأته بالزوجية وساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة وهي مستعملة في العرف فوجب أن يحنث بدخولها كالمملوكة له وقولهم أن هذه الإضافة مجاز ممنوع بل هي حقيقة لما ذكرناه ولو كانت مجازا لكنه مشهور فيتناوله اللفظ كما لو حلف لا شربت من رواية فلان فإنه يحنث بالشرب من مزادته وأما الإقرار فإنه لو قال هذه دار زيد وفسر إقراره بسكناها احتمل أن نقول يقبل تفسيره وإن سلمنا فإن قرينه الإقرار تصرفه إلى الملك وكذلك لو حلف لا دخلت مسكن زيد حنث بدخوله الدار التي يسكنها ولو قال هذا المسكن لزيد كان مقرا له بها ولا خلاف في هذه المسألة وهي نظيره مسألتنا .
فصل : ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة استأجرها فلان حنث وإن ركب دابة استعارها لم يحنث ذكره أبو الخطاب وكذلك لو ركب دابة غصبها فلان وفارق مسألة الدار فإنه لم يحنث في الدار لكونه استعارها ولا غصبها وإنما حنث لسكناه بها فأضيفت الدار إليه لذلك ولو غصبها أو استعاها من غير ان يسكنها لم تصح إضافتها إليه ولا يحنث الحالف فيكون كمستعير الدابة وغاصبها سواء .
فصل : وإن حلف لا يدخل دار هذه العبد ولا يركب دابته ولا يلبس ثوبه فدخل دارا جعلت برسمه أو ركب دابة جعلت برسمه أو لبس ثوبا جعل برسمه حنث وعند الشافعي لا يحنث لأنه لا يملك شيئا والإضافة تقتضي الملك وقد قدمنا الكلام معه في الفصل الذي قبل هذا ويختص هذا الفصل بإن الملكية لا تمكن ههنا ولا تصح الإضافة بمعناها فتعين حمل الإضافة ههنا على إضافة الإختصاص دون الملك وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل دار عبده حنث وبه قال أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن دار العبد ملك لسيده وإن حلف لا يلبس ثوب السيد ولا يركب دابته فلبس ثوب عبده وركب دابته حنث وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يحنث لأن العبد بهما خص .
ولنا أنهما مملوكان للسيد فتناولتهما يمين الحالف كالدار وما ذكروه يبطل بالدار .
مسألة : قال : ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه حنث ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل بجميعه أما إذا حلف ليدخلن أو يفعل شيئا لم يبر إلا يفعل جميعه والدخول إليها بجملته .
لا يختلف المذهب في شيء من ذلك ولا نعلم بين أهل العلم فيه إختلافا لأن اليمين تناولت فعل الجميع كما لو أمره الله تعالى بفعل شيء لم يخرج من عهدة الأمر إلا بفعل الجميع ولأن اليمين على فعل شيء اخبار بفعله في المستقبل مؤكد بالقسم والخبر بفعل شيء يقتضي فعله كله فأما إن حلف لا يدخل فأدخل بعضه ولا يفعل شيئا ففعل بعضه ففيه روايتان .
احداهما : لا يحنث وحكي عن مالك لأن اليمين يقتضي المنع من فعل المحلوف عليه فاقتضت المنع من فعل شيء منه كالنهي فنظير الحالف على الدخول قوله تعالى : { وادخلوا الباب سجدا } و { ادخلوا عليهم الباب } فلا يكون المأمور ممتثلا إلا بدخلو جملته ونظير الحلف على ترك الدخول قوله سبحانه : { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم } .
وقوله : { لا تدخلوا بيوت النبي } لا يكون المنهي ممتثلا إلا بترك الدخول كله فكذلك الحالف على ترك الدخول لا يبرأ إلا بتركه فمتى أدخل بعضه لم يكن تاركا لما حلف عليه فكان مخالفا كالمنهي عن الدخول ووجه الجمع بينهما أن الآمر والناهي يقصد الحمل على فعل الشيءأو المنع منه والحالف يقصد بيمينه ذلك فكانا سواء يحققه أن الآمر بالفعل أو الحالف عليه يقصد فعل الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بفعله كله والناهي والحالف على الترك يقصد ترك الجميع فلا يكون ممتثلا ولا بارا إلا بترك الجميع وفاعل البعض ما فعل الجميع ولا ترك الجميع فلا يكون ممتثلا للأمر ولا النهي ولا بارا بالحلف على الفعل ولا الترك .
والرواية الثانية : لا يحنث إلا بأن يدخل كله قال أحمد في رواية صالح و حنبل فيمن حلف على امرأته لا تدخل بيت أخيها لم تطلق حتى تدخل كلها ألا ترى أن عوف بن مالك قال كلي أو بعضي لأن الكل لا يكون بعضا والبعض لا يكون كلا وهذا اختيار أبي الخطاب ومذهب أبي حنيفة و الشافعي وهكذا كل شيء حلف أن لا يفعله ففعل بعضه لا يحنث حتى يفعله كله لأن النبي A كان يخرج رأسه على عائشة وهو معكتف فترجله وهي حائض والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد والحائض ممنوعة من اللبث فيه .
[ وروي عن النبي A انه قال لأبي بن كعب : إني لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها ] ولأن يمينه تعلقت بالجميع فلم تنحل بالبعض كالإثبات وهذا الخلاف في اليمين المطلقة فأما إن نوى الجميع أو البعض فيمينه على ما نوى وكذلك إن اقترنت به قرينة تقتضي أحد الأمرين تعلقت يمينه به فلو قال والله لأشربت هذا النهر أو هذه البركة تعلقت يمينه ببعضه وجها واحدا لأن فعل الجميع ممتنع فلا ينصرف يمينه إليه وكذلك لو قال والله لا آكل الخبز ولا أشرب الماء وما أشبهه مما علق على اسم جنس أو علقه على اسم جمع كالمسلمين والمشركين والفقراء والمساكين فإنما يحنث بالبعض وبهذا قال أبو حنيفة وسلمه أصحاب الشافعي في اسم الجنس دون الجمع وإن علقه على إسم جنس مضاف كماء النهر حنث أيضا بفعل البعض إذا كان مما لا يمكن شربه كله وهو قول أبي حنيفة وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي والآخر لا يحنث لأن لفظه يقتضي جميعه فلم يتعلق ببعضه كماء الأدواة .
ولنا أنه لا يمكن شرب جميعه فتعلقت اليمين كما لو حلف لا يكلم الناس فكلم بعضهم وبهذا فارق ماء الأداوة وإن نوى بيمينه فعل الجميع أو كان في لفظه ما يقتضي ذلك لم يحنث إلا بفعل الجميع وإن قال والله لا صمت يوما لم يحنث حتى يكمله وإن حلف لا صليت صلاة ولا أكلت أكلة لم يحنث حتى يكمل الصلاة والأكلة وإن قال لامرأته إن حضت حيضة فأنت طالق حتى تطهر من حيضة مستقبلة وإن قال لامرأتيه إن حضتما فأنتما طالقتان لم تطلق واحدة منهما حتى تحيضا كلتاهما فهذا وأشباهه مما يدل على إرادته فعل الجميع فوجب تعلق اليمين به .
وقال أحمد في رجل قال لامرأته إذا صمت يوما فأنت طالق إذا غابت الشمس من ذلك طلقت وقال القاضي إذا حلف لا صليت صلاة لم يحنث حتى يفرغ مما يسمى صلاة ولو حلف لا يصلي ولا يصوم حنث في الصلاة بتكبيرة الإحرام وفي الصيام بطلوع الفجر إذا نوى الصيام وبهذا قال الشافعي ووافق أبو حنيفة في الصيام وقال في الصلاة لا يحنث حتى يسجد سجدة .
ولنا أنه يسمى مصليا بدخوله في الصلاة فحنث به كما لو سجد سجدة ولأنه شرع فيما حلف عليه أشبه الصيام يشرع فيه واختار أبو الخطاب أن لا يحنث حتى يصلي ركعة بسجدتيها ولا يحنث في الصيام حتى يصوم يوما كاملا لأن ما دون ذلك لا يكون بمفرده صوما ولا صلاة والأول أولى فإن كل جزء من ذلك صلاة وصيام لكن يشترط لصحته إتمامه وكذلك يقال لمن أفسد ذلك بطل صومه وصلاته