مسألة وفصل يرجع في الأيمان إلى النية وحكم ما لو لم ينو شيئا أو اختلف السبب والنية .
مسألة : قال ابو القاسم C تعالى : ويرجع في الأيمان إلى النية .
وجملة ذلك أن مبنى اليمين على نية الحالف فإذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه إليه سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له فالموافق للظاهر أن ينوي باللفظ موضوعه الأصلي مثل أن ينوي باللفظ العام العموم وبالمطلق الإطلاق وبسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الأفهام منها والمخالف يتنوع أنواعا أحدها : أن ينوي بالعام الخاص وينوي أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة ويريد لحما بعينه وفاكهة بعينها ومنها أن يحلف على فعل شيء أو تركه مطلقا وينوي فعله أو تركه في وقت بعينه مثل أن يحلف لا أتغذى يعني اليوم أو لآكلن يعني الساعة ومنها أن ينوي بيمينه غير ما يفهمه السامع منه كما ذكرنا في المعاريض في مسألة إذا تأول في يمينه فله تأويله ومنها أن يريد بالخاص العام مثل أن يحلف لا شربت لفلان الماء من العطش ينوي قطع كل ما له فيه منة أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد جفاءها بترك اجتماعها معه في جميع الدور أو حلف لا يلبس ثوبا من غزلها يريد قطع منتها به فيتعلق يمينه بالإنتفاع به أو بثمنه مما لها فيه منة عليه .
وبهذا قال مالك و قال أبو حنيفة و الشافعي لا عبرة بالنية والسبب فيما يخالف لفظه لأن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه فلو أحنثناه على ما سواءه لأحنثنا على ما نوى لا على ما حلف ولأن النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك لا يحنث بمخالفتها .
ولنا أنه نوى بكلامه ما يحتمله ويسوغ في اللغة التعبير به عنه فنيصرف يمينه إليه كالمعاريض وبيان احتمال اللفظ أنه يسوغ في كلام العرب التعبير بالخاص عن العام قال الله تعالى : { ما يملكون من قطمير } { ولا يظلمون فتيلا } { فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } والقطمير لفافة النواة والفتيل ما في شقها والنقير النقرة التي في ظهرها ولم يرد ذلك بعينه بل نفي كل شيء وقال الحطيئة يهجو بني العجلان : .
( ولا يظلمون الناس حبة خردل ) .
ولم يرد الحبة بعينها إنما أراد لا يظلمونهم وقد يذكر العام ويراد به الخاص كقوله تعالى : { الذين قال لهم الناس } يعني رجلا واحدا : { إن الناس قد جمعوا لكم } يعني أبا سفيان وقال تعالى : { تدمر كل شيء } ولم يرد السماء والأرض ولا مساكنهم [ وإذا احتمله اللفظ وجب صرف اليمين إليه لقول النبي A : إنما لامرىء ما نوى ] ولأن كلام الشارع يحمل على مراده إذا ثبت ذلك بالدليل فكذلك كلام غيره وقولهم أن الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين قلنا وهذا كذلك فإنما انعقدت عليه اليمين على ما نواه ولفظه مصروف إليه وليست هذه نية مجردة بل لفظ منوي به ما يحتمله .
فصل : ومن شرط انصراف اللفظ إلى ما نواه احتمال اللفظ له فإن نوى ما لا يحتمله اللفظ مثل أن يحلف لا يأكل خبزا يعني به لا يدخل بيتا فإن يمينه لا تنصرف إلى المنوي لأنها نية مجردة لا يحتملها اللفظ فأشبه ما لو نوى ذلك بغير يمين .
مسألة : قال : فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها .
وجملته أنه إذا عدمت النية نظرنا في سبب اليمين وما أثارها لدلالته على النية فإذا حلف لا يأوي مع امرأته في هذه الدار نظرنا فإن كان سبب يمينه غيظا من جهة الدار لضرر لحقه منها أو منة عليه بها اختصت بيمينه بها وإن كان لغيظ لحقه من المرأة يقتضي جفاءها ولا أثر للدار فيه تعلق ذلك بإيوائه معها في كل دار وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فإن كان سببه المنة عليه منها فكيفما انتفع به أو بثمنه حنث وإن كان سبب يمينه خشونة غزلها ورداءته لم يتعد بيمنه لبسه والخلاف في هذه المسألة كالخلاف في التي قبلها قد دللنا على تعلق اليمين بما نواه والسبب دليل على النية فيتعلق اليمين به وقد ثبت أن كلام الشارع إذا كان خاصا في شيء لسبب عام تعدى إلى ما يوجد فيه السبب كتنصيصه على تحريم التفاضل في أعيان ستة أثبت الحكم في كل ما يوجد فيه معناها كذلك في كلام الآدمي مثله فأما إن كان اللفظ عاما والسبب خاصا مثل من دعي إلى غذاء فحلف لا يتغذى أو حلف لا يقعد فإن كانت له نية فيمينه على ما نوى وإن لم تكن له نية فكلام أحمد يقتضي روايتين : .
إحداهما : أن اليمين محمولة على العموم لأن أحمد سئل عن رجل حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم فقال النذر يوفي به يعني لا يدخله ووجه ذلك أن لفظ الشارع إذا كان عاما لسبب خاص وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب كذلك يمين الحالف وذكر القاضي فيمن حلف على زوجته أو عبده أن لا يخرج إلا بإذنه فعتق العبد وطلق الزوجة وخرجا بغير إذنه لا يحنث لأن قرينة الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وإنما يملك منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما فكأنه قال ما دمتما في ملكي ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته عليها في العموم ولو نوى الخصوص لاختصت يمينه به فكذلك إذا وجد ما يدل عليها ولو حلف لعامل لا يخرج إلا بإذنه فعزل أو حلف أن لا يرى منكرا إلا رفعه إلى فلان القاضي فعزل ففيه وجهان بناء على ما تقدم : .
أحدهما : لا تنحل اليمين بعزله قال القاضي هذا قياس المذهب لأن اليمين إذا تعلقت بعين موصوفة تعلقت بالعين وإن تغيرت الصفة وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي والوجه الآخر تنحل اليمين بعزله وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا يقال رفعه إليه إلا في حال ولايته فعلى هذا إن رأى المنكر في ولايته فأمكنه رفعه فلم يرفعه إليه حتى عزل لم يبر برفعه إليه حال كونه معزولا وهل يحنث بعزله ؟ فيه وجهان أحدهما : يحنث لأنه قد فات رفعه إليه فأشبه ما لو مات والثاني : لا يحنث لأنه لم يتحقق فواته لاحتمال أن يلي فيرفعه إليه بخلاف ما إذا مات فإنه يحنث قد تحقق فواته وإذا مات قبل إمكان رفعه إليه حنث أيضا لأنه قد فات فأشبه ما لو حلف ليصربن عبده في غد فمات العبد اليوم ويحتمل ان لا يحنث لأنه لم يتمكن من فعل المحلوف عليه فأشبه المكره وإن قلنا لا تنحل يمينه بعزله فرفعه إليه بعد عزله بر بذلك .
فصل : فإن اختلف السبب والنية مثل أن امتنت عليه امرأته بغزلها فحلف أنه لا يلبس ثوبا من غزلها ينوي اجتناب اللبس خاصة دون الانتفاع بثمنه وغيره قدمت النية على السبب وجها واحدا لأن النية وافقت مقتضى اللفظ وإن نوى بيمينه ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي يقدم السبب لأن اللفظ ظاهر في العموم والسبب يؤكد ذلك الظاهر ويقويه لأن السبب هو الامتنان وظاهر حالة قطع النية فلا يلتفت إلى نيته المخالفة للظاهرين والأول أصح لأن السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد فإذا خالف حقيقة القصد لم يعتبر فكان وجوده كعدمه فلم يبق إلا لفظه بعمومه والنية تخصه على ما بيناه فيما مضى