مسألة وفصول الشروط التي تعتبر في الرقبة المجزئة .
مسألة : قال : وإن شاء أعتق رقبة مؤمنة قد صلت وصامت لأن الأيمان قول وعمل وتكون سليمة ليس فيها نقص يضر بالعمل .
وجملته أن اعتاق الرقبة أحد خصال الكفارة بغير خلاف لنص الله تعالى عليه بقوله : { أو تحرير رقبة } ويعتبر في الرقبة ثلاثة أوصاف .
أحدها : أن تكون مؤمنة في ظاهر المذهب وهو قول مالك و الشافعي و أبي عبيد وعن أحمد رواية أخرى أن الذمية تجزىء وهو قول عطاء و أبي ثور وأصحاب الرأي لقول الله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة } وهذا مطلق فتدخل فيه الكافرة .
ولنا أنه تحرير في كفارة فلا تجزىء فيه الكافرة ككفارة القتل والجامع بينهما أن الإعتاق يتضمن تفريغ العبد المسلم لعبادة ربه وتكميل أحكامه وعبادته وجهاده ومعونة المسلم فناسب ذلك شرع اعتاقه في الكفارة تحصيلا لهذه المصالح والحكم مقرون بها في كفارة القتل المنصوص على الأيمان فيها فيعلل بها ويتعدى ذلك الحكم إلى كل تحرير في كفارة فيختص بالمؤمنة لاختصاصها بهذه الحكمة وأما المطلق الذي احتجوا به فإنه يحمل على المقيد في كفارة القتل كما حمل مطلق قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } على المقيد في قوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وإن لم يحمل عليه من جهة اللغة حمل عليه من جهة القياس .
الثاني : أن تكون قد صلت وصامت وهذا قول الشعبي و مالك و إسحاق قال القاضي لا يجزىء من له دون السبع لأنه لا تصح منه العبادات في ظاهر كلام أحمد وظاهر كلام الخرقي المعتبر الفعل دون السن فمن صلى وصام ممن له عقل يعرف الصلاة والصيام ويتحقق منه الإتيان به بنيته وأركانه فإنه يجزىء في الكفارة وإن كان صغيرا ولم يوجدا منه لم يجزىء في الكفارة وإن كان كبيرا وقال أبو بكر وغيره من أصحابنا يجوز اعتاق الطفل في الكفارة وهو قول الحسن و عطاء و الزهري و الشافعي و ابن المنذر لأن المراد بالأيمان ههنا الإسلام بدليل اعتاق الفاسق قال الثوري المسلمون كلهم مؤمنون عندنا في الأحكام ولا ندري ما هم عند الله ولهذا تعلق حكم القتل يكل مسلم بقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ } والصبي محكوم بإسلامه يرثه المسلمون ويرثهم ويدفن في مقابر ويغسل ويصلى عليه وإن سبي منفردا عن أبويه أجزأه عتقه لأنه محكوم بإسلامه وكذلك إن سبي مع أحد أبويه ولو كان أحد أبوي الطفل مسلما والآخركافرا أجزأ اعتاقه لأنه محكوم بإسلامه وقال القاضي في موضع يجزىء اعتاق الصغير في جميع الكفارات إلا كفارة القتل فإنها على روايتين .
وقال إبراهيم النخعي ما كان في القرآن من رقبة مؤمنة فلا يجزىء إلا ما صام وصلى وما كان في القرآن رقبة ليست بمؤمنة فالصبي يجزىء ونحو هذا قول الحسن ووجه قول الخرقي أن الواجب رقبة مؤمنة والأيمان قول وعمل فما لم تحصل الصلاة والصيام لم يحصل العمل .
وقال مجاهد و عطاء في قوله : { فتحرير رقبة مؤمنة } قال قد صلت ونحو هذا قول الحسن و إبراهيم وقال مكحول إذا ولد المولد فهو نسمة فإذا تقلب ظهرا لبطن فهو رقبة فإذا صلى فهو مؤمنة ولأن الطفل لا تصح منه عبادة لفقد التكليف فلم يجزىء في الكفارة كالمجنون ولأن الصبا نقص يستحق به النفقة على القريب أشبه الزمانة والقول الآخر أقرب إلى الصحة إن شاء الله لأن الأيمان الإسلام وهو حاصل في حق الصغير [ ويدل على هذا أن معاوية بن الحكم السلمي أتى النبي A بجارية فقال لها : أين الله ؟ قالت في السماء قال : من أنا ؟ قالت أنت رسول الله قال : أعتقها فإنها مؤمنة ] رواه مسلم وفي حديث عن أبي هريرة [ أن رجلا أتى النبي A بجارية أعجمية فقال يا رسول الله أن علي رقبة فقلا لها رسول الله A : أين الله ؟ فأشارت برأسها إلى السماء قال : من أنا ؟ فأشارت إلى رسول الله وإلى السماء أي أنت رسول الله قال : أعتقها ] فحكم لها بالإيمان بهذا القول .
فصل : ولا يجزىء اعتاق الجنين في قول أكثر أهل العلم وبه قال ابو حنيفة و الشافعي وقال أبو ثور يجزىء لأنه آدمي مملوك فصح اعتاقه عن الرقبة كالمولود .
ولنا أنه لم تثبت له أحكام الدنيا بعد فإنه لا يملك بالإرث والوصية ولا يشترط لهما كونه آدميا لكونه ثبت له ذلك وهو نطفة أو علقة وليس بآدمي في تلك الحال .
الثالث : أن لا يكون بها نقص يضر بالعمل وقد شرحنا ذلك في الظهار ويجزىء الصبي وإن كان عاجزا عن العمل لأن ذلك ماض إلى زوال وصاحبه سائر إلى الكمال ولا يجزىء المجنون لأن نقصه لا غاية لزواله معلومة فأشبه الزمن .
فصل : وإن أعتق غائبا تعلم حياته وتجيء أخباره صح وأجزأه عن الكفارة كالحاضر وإن شك في حياته وانقطع خبره لم يحكم بالأجزاء فيه لأن الأصل شغل ذمته ولا تبرأ بالشك وهذا العبد مشكوك فيه وفي وجوده فشك في إعتاقه فإن قيل الأصل حياته قلنا إلا أنه قد علم أن الموت لا بد منه وقد وجدت دلالة عليه وهو انقطاع أخباره فإن تبين بعد هذا كونه حيا تبينا صحة عتقه وبراءة الذمة من الكفارة وإلا فلا .
فصل : وإن أعتق غيره عنه بغير أمره لم يقع عن المعتق عنه إذا كان حيا وولاؤه للمعتق ولا يجزىء عن كفارته وإن نوى ذلك وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي وحكي عن مالك أنه إذا أعتق عن واجب على غيره بغير أمره صح لأنه قضى عنه واجبا فصح كما لو قضى عنه دينا .
ولنا أنه عبادة من شرطها النية فلم يصح أداؤها عمن وجبت عليه بغير أمره مع كونه من أهل الأمر كالحج ولأنه أحد خصال الكفارة فلم يصح عن المكفر بغيره أمره كالصيام وهكذا الخلاف فيما إذا كفر عنه بإطعام أو كسوة ولا يجوز أن ينوب عنه في الصيام بإذنه ولا بغير إذنه لأنه عبادة بدنية فلا تدخلها النيابة فأما إن أعتق عنه بأمره نظرت فإن جعل له عوضا صح العتق عن العتق عنه وله ولاؤه وأجزأ عن كفارته بغير خلاف علمناه وبه يقول أبو حنيفة و مالك و الشافعي وغيرهم لأنه حصل العتق عنه بماله فأشبه ما لو اشتراه ووكل البائع في إعتاقه عنه وإن لم يشترط عوضا ففيه روايتان .
إحداهما : يقع العتق عن المعتق عنه ويجزىء في كفارته وهو قول مالك و الشافعي لأنه أعتق بأمره فصح كما لو شرط عوضا .
والأخرى : لا يجزىء وولاؤه للمعتق وهو قول أبي حنيفة لأن العتق بعوض كالبيع وبغير عوض كالهبة ومن شرط الهبة القبض ولم يحصل فلم يقع عن الموهوب له وفارق البيع فإنه لا يشترط فيه القبض فإن كان المعتق عنه ميتا نظرت فإن وصى بالعتق صح لأنه بأمره وإن لم يوص به فأعتق عنه أجنبي لم يصح لأنه ليس بنائب عنه وإن أعتق عنه وارثه فإن لم يكن عليه واجب لم يصح العتق عنه ووقع عن المعتق وإن كان عليه عتق واجب صح العتق عنه لأنه نائب له في ماله وأداء واجباته فإن كانت عليه كفارة يمين فكسا عنه أو اطعم عنه جاز وإن أعتق عنه ففيه وجهان : .
أحدهما : ليس له ذلك لأنه غير متعين فجرى مجرى التطوع والثاني : يجزىء لأن العتق يقع واجبا لأن الوجوب يتعين فيه بالفعل فأشبهه المعين من العتق ولأنه أحد خصال كفارة اليمين فجاز أن يفعله عنه كالإطعام والكسوة ولو قال من عليه الكفارة أطعم عن كفارتي أو أكس ففعل صح رواية واحدة سواء ضمن له عوضا أو لم يضمن له عوضا .
مسألة : قال : ولو اشتراها بشرط العتق فأعتقها في الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة .
وهذا مذهب الشافعي روري عن معقل بن يسار ما يدل عليه وذلك لأنه إذا اشتراها بشرط العتق فالظاهر إن البائع نقصه من الثمن لأجل هذا الشرط فكأنه أخذ عن العتق عوضا فلم تجزئه عن الكفارة قال أحمد إن كانت رقبة واجبة لم تجزئه لأنها ليست رقبة سليمة ولأن عتقها يستحق بسبب آخر وهو الشرط فلم تجزئه كما لو اشترى قريبه فنوى بشرائه العتق عن الكفارة أو قال إن دخلت الدار فأنت حر ثم نوى عند دخوله أنه عن كفارته .
فصل : ولو قال له رجل أعتق عبدك من كفارتك ولك عشرة دنانير ففعل لم يجزئه عن الكفارة لأن الرقبة لم تقع خالصة عن الكفارة وقال القاضي العتق كله يقع عن باذل العوض وله ولاؤه وهذا فيه نظر فإن المعتق لم يعتقه عن باذل العوض ولا رضي بإعتاقه عنه ولا بذال العوض طلب ذلك والصحيح ان اعتاقه من المعتق والولاء له وقد ذكر الخرقي أنه إذا قال أعتقه والثمن علي فالثمن عليه والولاء للمعتق فإن رد العشرة على باذلها ليكون العتق عن الكفارة وحدها أو عزم على رد العشرة أو رد العشرة قبل العتق فأعتقه عن كفارته أجزأه .
فصل : وإذا اشترى عبدا ينوي إعتاقه عن كفارته فوجد به عيبا لا يمنع من الإجراء في الكفارة فأخذ أرشه ثم أعتق العبد عن كفارته أجزأه وكان الأرش له لأن العتق إنما وقع على العبد المعيب دون الأرش وإن أعتقه قبل العلم بالعيب ثم ظهر على العيب فأخذ أرشه فهو له أيضا كما لو أخذه قبل اعتاقه وعنه أنه يصرف ذلك الأرش وفي الرقاب لأنه أعتقه معتقدا أنه سليم فكان بمنزلة العوض عن حق الله تعالى وكفارة الأرش مصروفة في حق الله تعالى كما لو باعه كان الأرش للمشتري وإن علم العيب ولم يأخذ أرشه حتى أعتقه كان الأرش للمعتق لأنه أعتقه معيبا عالما بعيبه فلم يلزمه أرش كما لو باعه ولم يعلم عيبه .
مسألة : قال : وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه ينوي بشرائه الكفارة عتق ولم يجزئه .
وبهذا قال مالك و الشافعي و أبو ثور وقال أصحاب الرأي يجزئه استحسانا لأنه يجزىء عن كفارة البائع فأجزأ عن كفارة المشتري كغيره .
ولنا قوله تعالى : { فتحرير رقبة } والتحرير فعل العتق ولم يحصل العتق ههنا بتحرير منه ولا إعتاق فلم يكن ممتثلا للأمر ولأن عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه كما لو ورثه ينوي به العتق عن كفارته وكأم الولد ويخالف المشتري البائع من وجهين : .
أحدهما : أن البائع يعتقه والمشتري لم يعتقه أنما يعتق بإعتاق الشرع وهذا عن غير اختيار منه .
والثاني : أن البائع لا يستحق عليه اعتاقه والمشتري بخلافه .
فصل : إذا ملك نصف عبد فأعتقه من كفارته عتق وسرى إلى باقيه إن كان موسرا بقيمة باقية ولم يجزئه عن كفارته في قول أبي بكر الخلال وصاحبه وحكاه عن أحمد وهو قول أبي حنيفة لأن عتق نصيب شريكه لم يحصل بإعتاقه إنما حصل بالسراية وهي غير فعله وإنما هي من آثار فعله فأشبه ما لو اشترى من يعتق عليه ينوي به الكفارة يحقق هذا أنه لم يباشر بالإعتاق إلا نصيبه فسرى إلى غيره ولو خص نصيب غيره بالإعتاق لم يعتق منه شيء ولأنه إنما يملك إعتاق نصيبه لا نصيب غيره وقال القاضي : قال غيرهما من أصحابنا يجزئه إذا نوى إعتاق جميعه عن كفارته وهو مذهب الشافعي لأنه أعتق عبدا كامل الرق سليم الخلق غير مستحق العتق ناويا به الكفارة فأجزأه كما لو كان الجميع ملكه والأول أصح إن شاء الله ولا نسلم أنه أعتق العبد كله وإنما أعتق نصفه وعتق الباقي عليه فأشبه شراء قريبه ولأن إعتاق باقيه مستحق بالسراية فهو كالقريب فعلى هذا هل يجزئه عتق نصفه الذي هو ملكه ويعتق نصفا آخر فتكمل الكفارة ؟ ينبني على ما إذا أعتق نصفي عبدين وسنذكره إن شاء الله وإن نوى عتق نصيبه عن الكفارة ولم ينو ذلك في نصيب شريكه لم يجزئه نصيب شريكه وفي نصيبه نفسه ما سنذكره إن شاء الله ولو كان معسرا فأعتق نصيبه عن كفارته فكذلك فإن ملك باقيه فأعتقه عن الكفارة أجزأه ذلك وإن أراد صيام شهر وإطعام ثلاثين مسكينا لم يجزئه كما لو أعتق نصف عبد في كفارة اليمين وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه .
فصل : وإن كان العبد كله له فأعتق جزءا منه معينا أو مشاعا عتق جميعه وإن كان نوى به الكفارة أجزأ عنه لأن إعتاق بعض العبد إعتاق لجميعه وإن نوى إعتاق الجزء الذي باشره بالإعتاق عن الكفارة دون غيره لم يجزئه عتق غيره وهل يحتسب لما نوى به الكفارة ؟ على وجهين .
فصل : وإن قال إن ملكت فلانا فهو حر وقلنا يصح هذا التعليق فاشتراه ينوي العتق عن كفارته عتق ولم يجزئه عن الكفارة ويخرج فيه من الخلاف مثل ما في شراء قريبه والله أعلم