مسألة وفصول حكم ما لو حلف واستثنى .
مسألة : قال : وإذا حلف فقال إن شاء الله تعالى فإن شاء فعل وإن شاء ترك ولا كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام .
وجملة ذلك أن الحالف إذا قال إن شاء الله مع يمينه فهذا يسمى استثناء فإن ابن عمر روى عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال : [ من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى ] رواه أبو داود وأجمع العلماء على تسمية استثناء وأنه متى استثنى في يمينه لم يحنث فيها والأصل في ذلك قول النبي A : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] رواه الترمذي .
وروى أبو داود : [ من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك ] ولأنه وما قال لأفعلن إن شاء الله فقد علمنا أنه متى شاء الله فعل ومتى لم يفعل لم يشأ الله ذلك فإن ما شاء الله كان ومتى لم يشأ لم يكن إذا ثبت هذا فإنه يشترط أن يكون الاستثناء متصلا باليمين بحيث لا يفصل بينهما كلام أجنبي ولا يسكت بينهما سكوتا يمكنه الكلام فيه فأما السكوت لانقطاع نفسه أو صوته أو عي أو عارض من عطشه أو شيء غيرها فلا يمنع صحة الاستثناء وثبوت حكمه وبهذا قال مالك و الشافعي و الثوري و أبو عبيد وأصحاب الرأي و إسحاق لأن النبي A قال [ من حلف فاستثنى ] وهذا يقتضي كونه عقيبه ولأن الاستثناء من تمام الكلام فاعتبر اتصاله به كالشرط وجوابه وخبر المبتدأ والاستثناء بالا ولأن الحالف إذا سكت ثبت الحكم يمينه وانعقدت موجبة لحكمها وبعد ثبوته لا يمكن دفعه ولا تغييره قال أحمد حديث النبي A لعبد الرحمن بن سمرة : [ إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك ] ولم يقل فاستثن ولو جاز الاستثناء في كل حال لم يحنث حانث به .
وعن احمد رواية أخرى أنه يجوز الاستثناء إذا لم يطل الفصل بينهما قال في رواية المروذي حديث ابن عباس أن النبي A قال : [ لأغزون قريشا ـ ثم سكت ثم قال ـ إن شاء الله ] إنما هو استثناء بالقرب ولم يخلط كلامه بغيره .
ونقل عنه إسماعيل بن سعيد مثل هذا وزاد قال ولا أقول فيه بقول هؤلاء من لم يرد ذلك إلامتصلا ويحتمل كلام الخرقي هذا لأنه قال إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام ولم يشترط اتصال الكلام وعدم السكوت وهذا قول الأوزاعي قال في رجل حلف لا أفعل كذا وكذا ثم سكت ساعة لا يتكلم ولا يحدث نفسه بالاستثناء فقال له إنسان قل إن شاء الله فقال إن شاء الله أيكفر يمينه ؟ فال أراه قد استثنى وقال قتاة له أن يستثني قبل أن يقوم أو يتكلم ووجه ذلك أن النبي A استثنى بعد سكوته إذ قال : [ والله لأغزون قريشا ـ ثم سكت ثم قال ـ إن شاء الله ] واحتج به أحمد ورواه أبو داود وزاد قال الوليد بن مسلم ثم لم يغزهم ويشترط على هذه الرواية أن لا يطيل الفصل بينهما ولا يتكلم بينهما بكلام أجنبي .
وحكى ابن أبي موسى عن بعض أصحابنا أنه قال يصح الاستثناء ما دام في المجلس وحكي ذلك عن الحسن و عطاء وعن عطاء أنه قال قدر حلب الناقة العزوزة وعن ابن عباس أنه له أن يستثني بعد حين وهو قول مجاهد وهذا القول لا يصح لما ذكرناه وتقديره بمجلس أو غيره لا يصح لأن التقديرات بابها التوقيف فلا يصار إليها بالتحكم .
فصل : ويشترط أن يستثني بلسانه ولا ينفعه الاستثناء بالقلب في قول عامة أهل العلم منهم الحسن و النخعي و مالك و الثوري و الأوزاعي و الليث و الشافعي و إسحاق و أبو ثور و أبو حنيفة و ابن المنذر ولا نعلم لهم خالفا لأن النبي A قال : [ من حلف فقال إن شاء الله ] والقول هو النطق ولأن اليمين لا تنعقد بالنية فكذلك الاستثناء وقد روي عن أحمد إن كان مظلوما فاستثنى في نفسه رجوت أن يجوز إذا خاف على نفسه فهذا في حق الخائف على نفسه لأن يمينه غير منعقد أو لأنه بمنزلة المتأول وأما في حق غيره فلا .
فصل : واشترط القاضي أن يقصد الاستثناء فلو أراد الجزم فسبق لسانه إلى الاستثناء من غير قصد أو كانت عادته جارية بالاستثناء فجرى لسانه على العادة من غير قصد لم يصح لأن اليمين لما لم ينعقد من غير قصد فكذلك الاستثناء وهذا مذهب الشافعي وذكر بعضهم أنه لا يصح الاستثناء حتى يقصده مع ابتداء يمينه فلو حلف غير قاصد للاستثناء ثم عرض له بعد فراغه من اليمين فاستثنى لم ينفعه ولا يصح لأن هذا يخالف عموم الخبر فإنه قال : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] ولأن لفظ الاستثناء يكون عقيب يمينه فكذلك نيته .
فصل : يصح الاستثناء في كل يمين مكفرة كاليمين بالله والظهار والنذر وقال ابن أبي موسى : من استثنى في يمين تدخلها كفارة فله ثنياه لأنها أيمان مكفرة فدخلها الاستثناء كاليمين بالله تعالى فلو قال : أنت علي كظهر أمي إن شاء الله أو لله علي أن أتصدق بمائة درهم إن شاء الله لم يلزمه شيء لأنها أيمان فتدخل في عموم قوله [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] .
فصل : وإن قال : والله لأشربن اليوم إلا أن يشاء الله أو لا أشرب إلا أن يشاء الله لم يحنث بالشرب ولا بتركه لما ذكرنا في الإثبات ولا فرق بين تقديم الاستثناء وتأخيره في هذا كله فماذا قال والله إن شاء الله لا أشرب اليوم أو لأشربن ففعل أو ترك لم يحنث لأن تقديم الشرط وتأخيره سواء قال الله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } .
فصل : وإن قال والله لأشربن اليوم إن شاء زيد فشاء زيد لزمه الشرب فإن تركه حتى مضى اليوم حنث وإن لم يشأ زيد لم يلزمه يمين فإن لم تعلم مشيئته لغيبة أو جنون أو موت انحلت اليمين لأنه لم يوجد الشرط وإن قال والله لا أشرب إلا أن يشاء زيد فقد منع نفسه الشرب إلا أن توجد مشيئة زيد فإن شاء فله الشرب وإن لم يشأ لم يشرب وإن خفيت مشيئته لغيبه أو موت أو جنون لم يشرب وإن شرب حنث لأنه منع نفسه إلا أن توجد المشيئة فلم يكن له أن يشرب قبل وجودها وإن قال والله لأشربن إلا أن يشاء زيد فقد ألزم نفسه الشرب إلا أن يشاء زيد أن لا يشرب لأن الاستثاناء ضد المستثنى منه والمستثنى إيجاب لشربه بيمينه فإن شرب قبل مشيئة زيد بر وإن قال زيد قد شئت أن لا يشرب انحلت اليمين لأنها معلقة بعدم مشيئته لترك الشرب ولم تتقدم فلم يوجد شرطها وإن قال قد شئت أن يشرب أو ما شئت أن لا يشرب لم تنحل اليمين لأن هذه المشئية غير المستثناة فإن خفيت مشيئته لزمه الشرب لأنه علق وجوب الشرب بعدم المشيئة وهي معدومة بحكم الأصل وإن قال والله لا أشرب اليوم إن شاء زيد فقال زيد قد شئت أن لا تشرب فشرب حنث وإن شرب قبل مشئيته لم يحنث لأن الامتناع من الشرب معلق بمشيئته ولم تثبت مشيئته فلم يثبت الامتناع بخلاف التي قبلها وإن خفيت مشيئته فهي في حكم المعدومة والمشيئة في هذه المواضع أن يقول بلسانه .
مسألة : قال : وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله C أنه توقف عن الجواب وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء .
يعني إذا قال لزوجته أنت طالق إن شاء الله أولعبده أنت حر إن شاء الله فقد توقف أحمد في الجواب لاختلاف الناس فيها وتعارض الأدلة وفي موضع قطع أنه لا ينفعه الاستثناء فيهما ال في رواية إسحاق بن منصور و حنبل من حلف فال إن شاء الله لم يحنث وليس له استثناء في الطلاق والعتاق قال حنبل لأنهما ليسا من الإيمان وبه قال مالك و الأوزاعي و الحسن و قتادة وقال طاوس و حماد و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي يجوز الاستثناء فيهما لقول النبي A : [ من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث ] ولأنه علق الطلاق والعتاق بشرط لم يتحقق وجوده فلم يقعا كما لو علقه بمشيئة زيد ولم تتحقق مشيئته .
ولنا أنه أوقع الطلاق والعتاق في محل قابل فوقع كما لو لم يستثن والحديث إنما تناول الأيمان وليس هذا بيمين إنما هو تعليق على شرط قال ابن عبد البر إنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله تعالى وقول المتقدمين الأيمان بالطلاق والعتاق إنما جاز على التقريب والاتساع ولا يمين في الحقيقة إلا بالله وهذا طلاق وعتاق وقد ذكرنا هذه المسألة في الطلاق بأبسط من هذا .
مسألة : قال : وإذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لم تطلق إن تزوج بها وإن قال إذا ملكت فلانا فهو حر فملكه صار حرا .
اختلفت الرواية عن أحمد في هاتين المسألتين فعنه لا يقع طلاق ولا عتق روي هذا عن ابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن و عروة وجابر بن زيد و سوار والقاضي و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر ورواه الترمذي عن علي وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين وشريح وغير واحد من فقهاء التابعين قال وهو قول أكثر أهل العلم لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله A : [ لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق فيما لا يملك ولا طلاق لابن أدم فيما لا يملك ] قال الترمذي وهذا حديث حسن وهو أحسن ما روي في هذا الباب وعن عائشة Bها أن رسول الله A قال : [ لا طلاق ولا عتاق فيما لا يملك ابن آدم وإن عينها ] رواه الدار قطني وروى أبو بكر في الشافي عن الخلال عن الرمادي عن عبد الرزاق عن معمر عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب عن النبي A قال : [ لا طلاق قبل نكاح ] قال أحمد هذا عن النبي A وعدة من الصحابة ولأن من لا يقع طلاقه وعتقه بالمباشرة لم تنعقد له صفة كالمجنون ولأنه قول من سمينا من الصحابة ولم نعرف مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا والرواية الثانية : عن احمد أنه يصح في العتق ولا يصح في الطلاق قال في رواية أبي طالب إذا قال إن اشتريت هذا الغلام فهو حر فاشتراه عتق وأن قال أن تزوجت فلانة فهي طالق فهذا غير الطلاق هذا حق لله تعالى والطلاق يمين ليس هو لله تعالى ولا فيه قربة إلى الله تعالى قال أبو بكر في كتاب الشافي لا يختلف قول أبي عبد الله أن الطلاق إذا وقع قبل النكاح لا يقع وإن العتاق يقع إلا ما روى محمد بن الحسن بن هارون في العتق أنه لا يقع وما أراه إلا غلطا كذلك سمعت الخلال يقول فإن كان حفظ فهو قول آخر والفرق بينهما إن ناذر الطلاق لا يلزمه الوفاء به فكما افترقا في النذر جاز أن يفترقا في اليمين ولأنه لو قال لأمته : أول ولد تلدينه فهو حر لإنه يصح وهو تعليق للحرية على الملك .
وعن أحمد C ما يدل على وقوع الطلاق والعتق وهو قول الثوري وأصحاب الرأي لأنه يصح تعليقه على الأخطار فصح تعليقه على حدوث الملك كالوصية والنذر واليمين وقال مالك : إن خص جنسا من الأجناس أو عبدا بعينه عتق إذا ملكه وإن قال : كل عبد أملكه فهو حر لم يصح والأول أصح إن شاء الله تعالى لأنه تعليق للطلاق والعتاق قبل الملك فأشبه ما لو قال لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق أو لأمة غيره إن دخلت الدار فأنت حرة ثم تزوج الأجنبية وملك الأمة ودخلتا الدار فإن الطلاق لا يقع ولا تعتق الأمة بغير خلاف نعلمه