مسألتان وفصول حكم ما لو حلف أن لا يفعل شيئا وفعله أو أن يفعل شيئا ولم يفعله .
مسألة : قال : ولو حلف أن لا ينكح فلانة أو لا اشتريت فلانة فنكحها نكاحا فاسدا أو اشتراها شراء فاسدا لم يحنث .
وبهذا قال الشافعي وقال ابو حنيفة : إذا قال لعبده إن زوجتك أو بعتك فأنت حر فزوجه تزويجا فاسدا لم يعتق وإن باعه بيعا فاسدا يملك به حنث لأن البيع الفاسد عنده يثبت به الملك إذا اتصل به القبض ولنا أن اسم البيع ينصرف إلى الصحيح بدليل أن قول الله تعالى : { وأحل الله البيع } وأكثر ألفاظه في البيع إنما ينصرف إلى الصحيح فلا يحنث بما دونه كما في النكاح وكالصلاة وغيرها وما ذكروه من ثبوت الملك به لا نسلمه .
وقال ابن أبي موسى لا يحنث بالنكاح الفاسد وهل يحنث بالبيع الفاسد ؟ على روايتين وقال أبو الخطاب إن نكحها نكاحا مختلفا فيه مثل أن يتزوجها بلا ولي ولا شهود أو باع في وقت النداء فعلى وجهين وقال ابن أبي موسى إن تزوجها تزويجا مختلفا فيه أو ملك ملكا مختلفا فيه حنث فيهما جميعا ولنا أنه نكاح فاسد وبيع فاسد فلم يحنث بهما كالمتفق على فسادهما .
فصل : والماضي والمستقبل سواء في هذا وقال محمد بن الحسن ما صليت ولا تزوجت ولا بعت وكان قد فعله فاسدا حنث لأن الماضي لا يقصد منه إلا الاسم والإسم يتناوله والمستقبل بخلافه فإنه يراد بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة .
ولنا أن ما لا يتناوله الإسم في المستقبل لا يتناوله في الماضي كالإيجاب وكغير المسمى وما ذكروه ولا يصح لأن الإسم لا يتناول إلا الشرعي ولا يحصل .
فصل : : وإن حلف لا يبيع فباع بيعا فيه الخيار حنث وقال أبو حنيفة : لا يحنث لأن الملك لا يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع الفاسد .
ولنا أنه بيع صحيح شرعي فيحنث به كالبيع اللازم وما ذكروه لا يصح فإن بيع الخيار يثبت ذلك به بعد انقضاء الخيار بالإتفاق وهو سبب له ولا نسلم أن الملك لا يثبت في مدة الخيار .
فصل : وإن حلف لا يبيع أو لا يزوج فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل المتزوج والمشتري لم يحنث وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا لأن البيع والنكاح عقدان لا يتمان إلا بالقبول فلم يقع الإسم على الإيجاب بدونه فلم يحنث به وإن حلف لا يهب ولا يعير فأوجب ذلك ولم يقبل الآخر فقال القاضي يحنث وهو قول أبي حنيفة و ابن سريج لأن الهبة والعارية لا عوض فيهما فكان مسماهما الإيجاب والقبول شرط لنقل الملك وليس هو من السبب فيحنث بمجرد الإيجاب فيهما كالوصية .
وقال الشافعي لا يحنث بمجرد الإيجاب لأنه عقد لا يتم إلا بالقبول فلم يحنث فيه بمجرد الإيجاب كالنكاح والبيع فأما الوصية والهدية والصدقة فقال أبو الخطاب يحنث فيها بمجرد الإيجاب ولا أعلم قول الشافعي فيها إلا أن الظاهر أنه لا يخالف في الوصية والهدية لأن الإسم يقع عليهما بدون القبول ولهذا لما قال الله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين } إنما أراد الإيجاب دون القبول ولأن الوصية صحيحة قبل موت الموصي ولا قبول لها حينئذ .
فصل : وإن حلف لا يتزوج حنث بمجرد الإيجاب والقبول الصحيح لا نعلم فيه خلافا لأن ذلك يحصل به المسمى الشعري فتناولته يمينه وإن حلف ليتزوجن بر بذلك سواء كانت له امرأة أو لم يكن وسواء تزوج نظيرتها أو دونها أو أعلى منها إلا أن يحتال على حل يمينه بتزويج لا يحصل مقصودها مثل أن يواطىء امرأته على نكاح لا يغيطها به ليبر في يمينه فلا يبر بهذا وقال أصحابنا : إذا حلف ليتزوجن على امرأته لا يبر حتى يتزوج نظيرتها ويدخل بها وهو قول مالك لأنه قصد غيظ زوجته ولا يحصل إلا بذلك .
ولنا أنه تزوج تزويجا صحيحا فبر به كما لو تزوج نظيرتها ودخل بها وقولهم أن الغيظ لا يحصل إلا بتزويج نظيرتها والدخول غير مسلم فإن الغيظ يحصل بمجرد الخطبة وإن حصل بما ذكروه زيادة في الغيظ فلا تلزمه الزيادة على الغيظ الذي يحصل بما تناولته يمينه كما أنه يلزمه نكاح اثنتين ولا ثلاث ولا أعلى من نظيرتها والذي تناولته يمينه مجرد التزويج ولذلك لو حلف لا يتزوج على امرأته حنث بهذا فكذلك يحصل البر به لأن المسمى واحد فما تناوله النفي تناوله في الإثبات وإنما لا يبر إذا تزوج تزويجا لا يحصل به الغيظ كما ذكرناه من الصورة ونظائرها لأن مبنى الأيمان على المقاصد والنيات ولم يحصل مقصوده ولأن التزويج ههنا يحصل حيلة على التخلص من يمينه بما لا يحصل مقصودها فلم تقبل منه حيلته وقد نص أحمد على هذا فقال إذا حلف ليتزوجن على امرأته فتزوج بعجوز أو زنجية لا يبر لأنه أراد أن يغمها ويغيرها وبهذا لا تغار ولا تغتم فعلله أحمد بما لا يغيظ بها والزوجة ولم يعتبر أن تكون نظيرتها لأن الغيظ لا يتوقف على ذلك ولو قدر أن تزوج العجوز يغيظها والزنجية لبر به وإنما ذكره أحمد لأن الغالب أنه لا يغيظها لأنها تعلم أنه إنما فعل ذلك حيلة لئلا يغيظها ويبر به .
فصل : إذا حلف لا تسريب فوطىء جاريته حنث ذكره أبو الخطاب وقال القاضي لا يحنث حتى يطأ فينزل فحلا كان أو خصيا وقال أبو حنيفة لا يحنث حتى يحصنها ويحجبها عن الناس لأن التسري مأخوذ من السر ولأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه كهذه .
ولنا أن التسري مأخوذ من السر وهو الوطء لأنه يكون في السر قال الله تعالى : { ولكن لا تواعدوهن سرا } وقال الشاعر : .
( فلن تتطلبوا سرها للغنى ... ولن تسلموها لازهادها ) .
وقال آخر : .
( إلا زعمت بسباسة القوم أنني ... كبرت وإن لا يحسن السر أمثالي ) .
ولأن كل حكم تعلق بالوطء لم يعتبر فيه الإنزال ولا التحصين كسائر الأحكام .
فصل : إذا حلف لا يهب له فأهدى إليه أو أعمره حنث لأن ذلك من أنواع الهبة وإن أعطاه من الصدقة الواجبة أو نذر أو كفارة لم يحنث لأن ذلك حق لله تعالى عليه يجب اخراجه فليس هو بهبة منه وإن تصدق عليه تطوعا فقال القاضي يحنث وهو مذهب الشافعي وقال أبو الخطاب لا يحنث وهو قول اصحاب الرأي لأنهما يختلفان اسما وحكما بدليل أن النبي A قال : [ هو عليها صدقة ولنا هدية ] وكانت الصدقة محرمة عليه والهدية حلال له وكان يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة ومع هذا الاختلاف لا يحنث في إحداهما بفعل الآخر .
ووجه الأول أنه تبرع بعين في الحياة فحنث به كالهدية ولأن الصدقة تسمى هبة فلو تصدق بدرهم قيل وهب درهما وتبرع بدرهم واختلاف التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة فيختص بإسم دونها كاختصاص الهدية والعمري باسمين ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة وكذلك اختلاف الأحكام فإنه قد يثبت للنوع ما لا يثبت للجنس كما يثبت للآدمي من الأحكام ما لا يثبت لمطلق الحيوان فإن وصى له لم يحنث لأن الهبة تمليك في الحياة والوصية إنما تملك بالقبول بعد الموت فإن أعاره لم يحنث لأن الهبة تمليك الأعيان وليس في العارية تمليك عين ولأن المستعير لا يملك المنفعة وإنما يستبيحها ولهذا يملك المعير الرجوع فيها ولا يملك المستعير إجارتها ولا إعارتها هذا قول القاضي ومذهب الشافعي وقال أبو الخطاب يحنث لأن العارية هبة المنفعة والأول أصح وإن أضافه لم يحنث لأنه لم يملكه شيئا وإنما أباحه ولهذا لا يملك التصرف بغير الأكل وإن باعه وحاباه لم يحنث لأنه معاوضة يملك الشفيع أخذ جميع المبيع ولو كان هبة أو بعضه هبة لم يملك أخذه كله .
وقال أبو الخطاب يحنث في أحد الوجهين لأنه يترك له بعض المبيع بغير ثمن أو وهبه بعض الثمن وإن وقف عليه فقال أبو الخطاب يحنث لأنه تبرع له بعين في الحياة ويحتمل أن لا يحنث لأن الوقف لا يملك في رواية وإن حلف لا يتصدق عليه فوهب له لم يحنث لأن الصدقة نوع من الهبة ولا يحنث الحالف على نوع بفعل نوع آخر ولا يثبت للجنس حكم النوع ولهذا حرمت الصدقة على النبي A ولم تحرم الهبة ولا الهدية وإن حلف لا يهب له شيئا فاسط عنه دينا لم يحنث إلا أن ينوي لأن الهبة تمليك عين وليس له إلا دين في ذمته .
مسألة : قال : ولو حلف أن لا يشتري فلانا أو لا يضربه فوكل في الشراء والضرب حنث .
وجملته أن من حلف لا يفعل شيئا فوكل من فعله حنث إلا أن ينوي مباشرته بنفسه ونحو هذا قول مالك و أبي ثور وقال الشافعي لا يحنث إلا أن ينوي بيمينه أن لا يستنيب في فعله أو يكون ممن لم تجر عادته بمباشرته لأن إطلاق إضافة الفعل يقتضي مباشرته بدليل أنه لو وكله في البيع لم يجز للوكيل توكيل غيره وإن حلف لا يبيع ولا يضرب فأمر من فعله فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه لم يحنث وإن كان ممن لا يتولاه كالسلطان ففيه قولان وإن حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه فقيل فيه قولان وقيل يحنث قولا واحدا وقال أصحاب الرأي إن حلف لا يبيع فوكل من باع لم يحنث وإن حلف لا يضرب ولا يتزوج فوكل من فعله حنث .
ولنا أن الفعل يطلق على من وكل فيه وأمر به فيحنث به كما لو كان ممن لا يتولاه بنفسه وكما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه أو لا يضرب فوكل من ضرب عند أبي حنيفة وقد قال الله تعالى : { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وقال : { محلقين رؤوسكم ومقصرين } وكان هذا متناولا للاستنابة فيه ولأن المحلوف عليه وجد من نائبه فحنث به كما لو حلف لا يدخل دارا فأمر من حمله إليها وقولهم إن اضافة الفعل إليه تقتضي المباشرة نمنعه ولا نسلم إنه إذا وكل في فعل يمتنع على الوكيل التوكيل فيه ولئن سلمنا فلأن التوكيل يقصد به الأمانة والحذق والناس يختلفون فيهما فإذا عين واحدا لم تجز مخالفة تعيينه بخلاف اليمين فأما أن نوى بيمينه المباشرة للمحلوف عليه أو كان سبب يمينه يقتضيها أو قرينة حاله تخصص بها لأن إطلاقه يقيد بنيته أو بما دل عليها فأشبه ما لو صرح به بلفظه وإن حلف ليشترين أو ليبيعن أو ليضربن فوكل من فعل ذلك بر لما ذكرنا في طرف النفي وذلك لما قال رسول الله A : [ رحم الله المحلقين ] تناول من حلق رأسه بأمره .
فصل : وإن حلف ليطلقن زوجته أو لا يطلقها فوكل من طلقها أو قال لها طلقي نفسك فطلقتها أو قال لها اختاري أوامرك بيدك فطلقت نفسها بر وحنث والخلاف فيه على ما تقدم وإن قال أنت طالق إن شئت أو أن قمت فشاءت او قامت حنث بغير خلاف لأن الطلاق منه وإنما حققت شرطه .
فصل : فإن حلف لا يضرب امرأته فلطمها أو لكمها أو ضربها بعصا أو غيرها حنث بغير خلاف وإن عضها أو خنقها أو جز شعرها هاجزا يؤلمها قاصدا للاضرار بها حنث وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا يحنث لأن ذلك لا يسمى ضربا فلا يحنث به كما لو شتمها شتما آلمها وقد نقل عن أحمد ما يدل على هذا فإن مهنا نقل عنه فيمن قال لامرأته : إن لم أضربك اليوم فأنت طالق فعضها أو قرصها أو أمسك شعرها فهو على ما نوى من ذلك قال القاضي فظاهر هذا أنه لم يدخله في إطلاق إسم الضرب .
ولنا أن هذا في العرف يستعمل لكف الأذى المؤلم للجسم فيدخل فيه كل ما اختلفنا فيه ولهذا يقال تضاربا إذا فعل كل واحد منهما هذا بصاحبه وإن لم يكن معهما آلة وفارق الشتم فإنه لا يؤلم الجسم وإنما يؤلم القلب .
مسألة : قال : ومن حلف بعتق أو طلاق أن لا يفعل شيئا ففعله ناسيا حنث .
وبهذا قال مجاهد و سعيد بن جبير و الزهري و قتادة و ربيعة و مالك و أبو عبيد وأصحاب الرأي وهو المشهور عن الشافعي وقال عطاء وعمرو بن دينار وابن أبي نجيح و إسحاق و ابن المنذر لا يحنث وهو رواية عن أحمد لأن الناسي لا يكلف حال نسيانه فلا يلزمه الحنث كالحلف بالله تعالى