مسائل وفصول ألفاظ الحلف وأحكامها .
مسألة : قال : أو يقول أقسم بالله أو أشهد بالله أو أعزم بالله .
هذا قول عامة الفقهاء لا نعلم فيه خلافا وسواء نوى اليمين أو أطلق لأنه لو قال بالله ولم يقل أقسم ولا أشهد ولم يذكر الفعل كان يمينا وإنما كان يمينا بتقدير الفعل قبله لأن الباء تتعلق بفعل مقدر على ما ذكرناه فإذا أظهر الفعل ونطق بالمقدر كان أولى بثبوت حكمه وقد ثبت له عرف الإستعمال قال الله تعالى : { فيقسمان بالله } وقال تعالى : { وأقسموا بالله } ـ وقال { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } ويقول الملاعن في لعانه أشهد بالله إني لمن الصادقين وتقول المرأة أشهد بالله أنه لمن الكاذبين وأنشد أعرابي عمر .
( أقسم بالله لتفعلنه ) .
وكذلك الحكم إن ذكر الفعل بلفظ الماضي فقال أقسمت بالله أو شهدت بالله قال عبد الله بن رواحة ( أقسمت بالله لتنزلنه ) وإن أراد بقوله أقسمت بالله الخبر عن قسم ماض أو بقوله أقسم بالله عن قسم يأتي به فلا كفارة عليه وإن ادعى إرادة ذلك قبل منه وقال القاضي لا يقبل في الحكم وهو قول بعض أصحاب الشافعي لأنه خلاف الظاهر .
ولنا أن هذا حكم فيما بينه وبين الله تعالى فإذا علم من نفسه أنه نوى شيئا أو أراده مع احتمال اللفظ إياه لم تلزمه كفارة وإن قال شهدت بالله إني آمنت بالله فليس بيمين وإن قال أعزم بالله يقصد اليمين فهو يمين وإن أطلق فظاهر كلام الخرقي أنه يمين وهو قول ابن حامد وقال أبو بكر ليس بيمين وهو قول الشافعي لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الإستعمال وظاهره غيراليمين لأنه معناه أقصد بالله لأفعلن ووجه الأول أنه يحتمل اليمين وقد اقترن به ما يدل عليه وهو جوابه بجواب القسم فيكون يمينا فأما إن نوى بقوله غير اليمين لم يكن يمينا .
فصل : وإن قال أحلف بالله أو أولي أو حلفت بالله أو آليت بالله أو ألية بالله أو حلفا بالله أو قسما بالله فهو يمين سواء نوى به اليمين أو أطلق لما ذكرناه في أقسم بالله وحكمه حكمه في تفصيله لأن الإيلاء والحلف والقسم واحد قال الله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } وقال سعد ين معاذ أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به وقال الشاعر .
( أولي برب الراقصات إلى منى ... ومطارح الأكوار حيث تبيت ) .
وقال ابن دريد : ( الية باليعملات ترتمي ... بها النجاء بين أجواز الفلا ) .
وقال : ( بل قسما بالشم من يعرب هل ... لمقسم من بعد هذا منتهى ؟ ) .
فصل : وإن قال أقسمت أو آليت لأو حلفت أو شهدت لأفعلن ولم يذكر بالله فعن أحمد روايتان إحداهما : أنها يمين وسواء نوى اليمين أو أطلق وروي نحو ذلك عن عمر وابن عباس و النخعي و الثوري و أبي حنيفة وأصحابه .
وعن أحمد أن نوى اليمين بالله كان يمينا وإلا فلا وهو قول مالك و إسحاق و ابن المنذر لأنه يحتمل القسم بالله وبغيره فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة وقال الشافعي ليس بيمين وإن نوى وروي نحو ذلك عن عطاء و الحسن و الزهري و قتادة و أبي عبيد لأنها عريت عن اسم الله وصفته فلم تكن يمينا كما لو قال أقسمت بالبيت .
ولنا أنه قد ثبت لها عرف الشرع والإستعمال ف [ إن أبا بكر قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرنيبما أصبت مما أخطأت فقال النبي A : لا تقسم يا أبا بكر ] رواه أبو داود [ وقال العباس للنبي A أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنه فبايعه النبي A وقال : أبررت قسم عمي ولا هجرة ] وفي كتاب الله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } ـ إلى قوله ـ { اتخذوا أيمانهم جنة } فسماها يمينا وسماها رسول الله A قسما وقالت عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله A : .
( حلفت لئن عادوا لنصطلمنهم ... لجاؤ وا ترى حجرتيها المقانب ) .
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل : .
( فآليت ... تنفك عيني حزينة عليك و ينفك جلدي أغبرا ) .
وقولهم يحتمل القسم بغير الله قلنا إنما يحمل على القسم المشروع ولهذا لم يكن هذا مكروها ولو حمل على القسم بغير الله كان مكروها ولو كان مكروها لم يفعله أبو بكر بين يدي النبي A و أبر النبي A قسم العباس حين أقسم عليه .
فصل : وإن قال أعزم أو عزمت لم يكن قسما نوى به القسم أو لم ينو لأنه لم يثبت لهذا اللفظ عرف في شرع و إستعمال و هو موضع للقسم و فيه دلالة عليه وكذلك لو قال استعين بالله أو أعتصم بالله أو أتوكل على الله أو علم الله أو عز الله أو تبارك الله ونحو هذا لم يكن يمينا نوى أو لم ينو لأنه ليس بموضوع للقسم لغة ولا ثبت له عرف في شرع ولا إستعمال فلم يجب به شيء كما لو قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
مسألة : قال : أو بأمانة الله .
قال القاضي لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي لا تنعقد اليمين بها إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى لأن الأمانة تطلق على الفرائض والودائع والحقوق قال الله تعالى : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } وقال تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } يعني الودائع والحقوق وقال النبي A : [ أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ] وإذا كان اللفظ محتملا لم يصرف إلى أحد محتملاته إلا بنية أو دليل صارف إليه .
ولنا أن أمانة الله صفة له بدليل وجوب الكفارة على من حلف بها إذا نوى ويجب حملها على ذلك عند الاطلاق لوجوه : .
أحدها : أن حملها على غير ذلك صرف ليمين المسلم إلى المعصية أو المكروه لكونه قسما بمخلوق والظاهر من حال المسلم خلافه .
والثاني : أن القسم في العادة يكون بالمعظم المحترم دون غيره وصفة الله تعالى أعظم حرمة وقدرا .
والثالث : أن ما ذكروه من الفرائض والودائع لم يعهد القسم بها ولا يستحسن ذلك لو صرح به فذلك لا يقسم بما هو عبارة عنه .
الرابع : أن أمانة الله المضافة إليه هي صفته وغيرها يذكر غير مضاف إليه كما ذكر في الآيات والخبر .
الخامس : أن اللفظ عام في كل أمانة الله لأن إسم الجنس إذا أضيف إلى معرفة أفاد الإستغراق فيدخل فيه أمانة الله التي هي صفته فتنعقد اليمين بها موجبة للكفارة كما لو نواها .
فصل : فإن قال والأمانة لافعلت ونوى الحلف بأمانة الله فهو يمين مكفرة موجبة للكفارة وإن أطلق فعلى روايتين : .
إحداهما : يكون يمينا لما ذكرنا من الوجوه والثانية : لا يكون يمينا لأنه لم يضفها إلى الله تعالى فيحتمل غير ذلك قال أبو الخطاب : وكذلك إذا قال والعهد والميثاق والجبروت والعظمة والأمانات فإن نوى يمينا كان يمينا وإلا فلا وقد ذكرنا في الأمانة روايتين فيخرج في سائر ما ذكروه وجهان قياسا عليها .
فصل : ويكره الحلف بالأمانة لما [ روي عن النبي A أنه قال : من حلف بالأمانة فليس منا ] رواه أبو داود وروي عن زياد بن خدير أن رجلا حلف عنده بالأمانة فجعل يبكي بكاء شديدا فقال له الرجل : هل كان هذا يكره ؟ قال نعم كان عمر ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي .
فصل : ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء وسائر المخلوقات ولا تجب الكفارة بالحنث فيها هذا ظاهر كلام الخرقي وهو قول أكثر الفقهاء وقال أصحابنا الحلف برسول الله A يمين موجبة للكفارة وروي عن أحمد أنه قال إذا حلف بحق رسول الله A فحنث فعليه الكفارة قال أصحابنا لأنه أحد شرطي الشهادة فالحلف به موجب للكفارة كالحلف بإسم الله تعالى ووجه الأول قول النبي A : [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] ولأنه حلف بغير الله فلم يوجب الكفارة كسائر الأنبياء ولأنه مخلوق فلم تجب الكفارة بالحلف به كإبراهيم عليه السلام ولأنه ليس بمنصوص عليه ولا في معنى المنصوص ولا يصح قياس اسم غير الله على اسمه لعدم الشبه وانتفاء المماثلة وكلام أحمد في هذا يحمل على الاستحباب دون الإيجاب .
مسألة : قال : ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شيء واحد فحنث فعليه كفارة واحدة .
وجملته أنه إذا حلف بجيمع هذه الأشياء التي ذكرها الخرقي وما يقوم مقامها أو كرر اليمين على شيء واحد مثل أن قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا فحنث فليس عليه إلا كفارة واحدة روي نحو هذا عن ابن عمر وبه قال الحسن و عروة و إسحاق وروي أيضا عن عطاء و عكرمة و النخعي و حماد و الأوزاعي وقال أبو عبيد فيمن قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته ثم حنث فعليه ثلاث كفارات وقال أصحاب الرأي عليه بكل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد والتفهيم ونحوه عن الثوري و أبي ثور وعن الشافعي قولان المذهبين وعن عمرو بن دينار أن كان في مجلس واحد كقولنا وإن كان في مجالس كقولهم واحتجوا بأن أسباب الكفارات تكررت فتكرر الكفارات كالقتل لآدمي وصيد حرمي ولأن اليمين الثانية مثل الأولى فتقتضي ما تقتضيه .
ولنا أنه حنث واحد أوجب جنسا واحدا من الكفارات فلم يجب به أكثر من كفارة كما لو قصد التأكيد والتفهيم وقولهم أنها أسباب تكررت لا نسلمه فإن السبب الحنث وهو واحد وإن سلمنا فينتقض بما إذا تكرر الوطء في رمضان في أيام وبالحدود إذا تكررت أسبابها فإنها كفارات وبما إذا قصد التأكيد ولا يصح القياس على الصيد الحرمي لأن الكفارة بدل ولذلك تزداد بكبر الصيد وتتقدر بقدره فهي كدية القتيل ولا على كفارة قتل الآدمي لأنها أجريت مجرى البدل أيضا لحق الله تعالى لأنه لما أتلف آدميا عابدا لله تعالى ناسب أن يوجد عبدا يقوم مقامه في العبادة فلما عجز عن الإيجاب لزمه اعتاق رقبة لأن العتق إيجاد للعبد بتخليصه من رق العبودية وشغلها إلى فراغ البال للعبادة بالحرية التي حصلت بالإعتاق ثم الفرق ظاهر وهو أن السبب ههنا تكرر بكماله وشروطه وفي محل النزاع لم يوجد ذلك لأن الحنث إما أن يكون هو السبب أو جزءا منه أو شرطا له بدليل توقف الحكم على وجوده وأياما كان فلم يجز الإلحاق ثم وإن صح القياس فقياس كفارة اليمين على مثلها أولى من قياسها على القتل لبعد ما بينهما .
فصل : وإذا حلف يمينا واحدة على أجناس مختلفة فقال والله لا أكلت ولا شربت ولا لبست فحنث في الجميع فكفارة واحدة لا أعلم فيه خلافا لأن اليمين واحدة والحنث واحد فإنه بفعل واحد من المحلوف عليه يحنث وتنحل اليمين وإن حلف أيمانا على أجناس فقال والله لا أكلت ولا شربت والله لا لبست فحنث في واحدة منها فعليه كفارة فإن أخرجها ثم حنث في يمين أخرى لزمته كفارة أخرى لا نعلم في هذا أيضا خلافا لأن الحنث في الثانية تجب به الكفارة بعد أن كفر عن الأولى فأشبه ما لو وطىء في رمضان فكفر ثم وطىء مرة أخرى فإن حنث في الجميع قبل التكفير فعليه في كل يمين كفارة وهذا ظاهر كلام الخرقي ورواه المروذي عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم .
وقال أبو بكر تجزئه كفارة واحدة ورواها ابن منصور عن أحمد قال القاضي وهي الصحيحة وقال أبو بكر ما نقله المروذي عن أحمد قول لأبي عبد الله ومذهبه إن كفارة واحدة تجزئه وهو قول إسحاق لأنها كفارات من جنس فتداخلت كالحدود من جنس وإن اختلفت محالها بأن يسرق من جماعة أو يزني بنساء .
ولنا أنهن أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى فلم تتكفر أحداهما بكفارة الأخرى ما لو كفر عن أحداهما قبل الحنث في الأخرى وكالأيمان المختلفة للكفارة وبهذا فارق الأيمان على شيء واحد فإنه متى حنث في أحداهما كان حانثا في الأخرى فإن كان الحنث واحدا كانت الكفارة واحدة وههنا تعدد الحنث فتعددت الكفارات وفارق الحدود فإنها وجبت للزجر وتندرىء بالشبهات بخلاف مسألتنا ولأن الحدود عقوبةبدنية فالموالاة بينها ربما أفضت إلى التلف فاجتزىء بأحدها وههنا الواجب إخراج مال يسير أو صيام ثلاثة أيام فلا يلزم الضرر الكثير بالموالاة فيه و يخشى منه التلف