مسألتان وفصول في الحالف وأحكام اليمين .
مسألة : قال : ومن حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله أولا يفعل شيئا ففعله فعليه الكفارة .
لا خلاف في هذا عند فقهاء الأمصار قال ابن عبد البر اليمين التي فيها الكفارة بإجماع المسلمين هي التي على المستقبل من الأفعال وذهبت طائفة إلى أن الحنث متى كان طاعة لم يوجب كفارة وقال قوم من حلف على فعل معصية فكفارتها تركها وقال سعيد بن جبير : اللغو أن يحلف الرجل فيما لا ينبغي له يعني فلا كفارة عليه في الحنث وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله A : [ لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله تعالى ولا في قطعية رحم ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارة ] رواه أبو داود ولأن الكفارة إنما تجب لرفع الإثم ولا إثم في الطاعة ولأن اليمين كالنذر ولا نذر في معصية الله تعالى .
ولنا قول النبي A : [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمنيه ] وقال : [ إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ] أخرجه البخاري وحديثهم لا يعارض حديثنا لأن حديثنا أصح منه وأثبت ثم أنه يحتمل أن تركها كفارة لاثم الحلف والكفارة المختلف فيها كفارة المخالفة وقولهم أن الحنث طاعة قلنا فاليمين غير طاعة فتلزمه كفارة للمخالفة ولتعظيم اسم الله تعالى إذا حلف به ولم يبر يمينه .
إذا ثبت هذا نظرنا في يمينه فإن كانت على ترك شيء ففعله حنث ووجبت الكفارة وإن كانت على فعل شيء فلم يفعله وكانت يمينه مؤقتة بلفظه أو نيته أو قرينة حاله ففات حنث وكفر فإن كانت مطلقة لم يحنث إلا بفوات وقت الإمكان لأنه كا دام في الوقت والفعل ممكن فيحتمل أن يفعل فلا يحنث ولهذا [ قال عمر للنبي A ألم تخبرنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ قال : فاخبرتك أنك تاتيه العام ؟ قال لا قال : فإنك آتية ومطوف به ] وقد قال الله تعالى : { قل بلى وربي لتبعثن } وهو حق ولم يأت بعد .
مسألة : قال : وإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق .
وجملة ذلك أن من حلف ان لا يفعل شيئا ففعله ناسيا فلا كفارة عليه نقله عن أحمد الجماعة إلا في الطلاق والعتاق فإنه يحنث هذا ظاهر المذهب واختاره الخلال وصاحبه وهو قول أبي عبيدة وعن أحمد رواية أخرى أنه لا يحنث في الطلاق والعتاق أيضا وهذا قول عطاء و عمرو دينار وابن أبي نجيح و إسحاق قالوا لا حنث على الناسي في طلاق ولا غيره وهو ظاهر مذهب الشافعي لقوله تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } وقال النبي A : [ إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه غير قاصد للمخالفة فلم يحنث كالنائم والمجنون ولأنه أحد طرفي اليمين فاعتبر فيه القصد كحالة الابتداء بها وعن أحمد رواية أخرى أنه يحنث في الجميع وتلزمه الكفارة في اليمين المكفرة وهو قول سعيد بن جبير و مجاهد و الزهري و قتادة و ربيعة و مالك وأصحاب الرأي والقول الثاني لـ لشافعي لأنه فعل ما حلف عليه قاصدا لفعله فلزمه الحنث كالذاكر وكما لو كانت اليمين بالطلاق والعتاق .
ولنا على أن الكفارة لا تجب في اليمين المكفرة ما تقدم ولأنها تجب لرفع الإثم ولا إثم على الناسي وأما الطلاق والعتاق فهو متعلق بشرط فيقع بوجود شرطه من غير قصد كما لو قال أنت طالق إن طلعت الشمس أو قدم الحاج .
فصل : وإن فعله غير عالم بالمحلوف عليه كرجل حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه يحسبه أجنبيا أو حلف أنه لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه فأعطاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه ردئيا أو حلف لا بعت لزيد ثوبا فوكل زيد من يدفعه إلى من يبيعه فدفعه إلى الحالف فباعه من غير علمه فهو كالناسي لأنه غير قاصد للمخالفة أشبه الناسي .
فصل : والمكره على الفعل ينقسم قسمين أحدهما : أن يلجأ إليه مثل من يحلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها أو لا يخرج منها فأخرج محمولا أو مدفوعا بغير اختياره ولم يمكنه الامتناع فهذا لا يحنث في قول أكثرهم وبه قال أصحاب الرأي وقال مالك إن دخل مربوطا لم يحنث وذلك لأنه لم يفعل الدخول والخروج فلم يحنث كما لو لم يوجد ذلك الثاني : أن يكره بالضرب والتهديد بالقتل ونحوه فقال أبو الخطاب فيه روايتان كالناسي ولـ لشافعي قولان وقال مالك و أبو حنيفة يحنث لأن الكفارة لا تسقط بالشبهة فوجبت مع الإكراه والنسيان ككفارة الصيد .
ولنا قول النبي A : [ عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] ولأنه نوع إكراه فلم يحنث به كما لو حمل ولم يمكنه الامتناع ولأن الفعل لا ينسب إليه فأشبه من لم يفعله ولا نسلم الكفارة في الصيد بل إنما تجب على المكره والله أعلم .
مسألة : قال : ومن حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة .
هذا ظاهر المذهب نقله الجماعة عن أحمد وهو قول أكثر أهل العلم منهم ابن مسعود و سعيد بن المسيب و الحسن و الأوزاعي و الثوري و الليث و أبو عبيد و أبو ثور و أصحاب الرأي من أهل الكوفة وهذه اليمين تسمى يمين الغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم قال ابن مسعود كنا بعد من اليمين التي لا كفارة لها اليمين الغموس وعن سعيد بن المسيب قال : هي من الكبائر وهي أعظم من أن تكفر وروي عن أحمد أن فيها الكفارة وروي ذلك عن عطاء و الزهري و الحكم و البتي هو قول الشافعي لأنه وجدت منه اليمين بالله تعالى والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة .
ولنا أنها يمين غير منعقدة فلا توجب الكفارة كاللغو أو يمين على ماض فأشبهت اللغو وبيان كونها غير منعقدة أنها لا توجب برا ولا يمكن فيها ولأنه قارنها وهو الحنث فلم تنعقد كالنكاح الذي قارنه الرضاع ولأن الكفارة لا ترفع إثمها فلا تشرع فيها ودليل ذلك أنها كبيرة فإنه يروى عن النبي A أنه قال : [ من الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس ] رواه البخاري وروى فيه : [ خمس من الكبائر لا كفارة لهن : الإشراك بالله والفرار من الزحف وبهت المؤمن وقتل المسلم بغير حق والحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرىء مسلم ] ولا يصح القياس على المستقبلة لأنها يمين منعقدة يمكن حلها والبر فيها وهذه غير منعقدة فلا حل لها وقول النبي A : [ فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير ] يدل على أن الكفارة إنما تجب بالحلف على فعل يفعله فيما يستقبله قاله ابن المنذر