مسألة و فصول في حكم الأكل من الميتة .
مسألة : قال : ومن اضطر إلى الميتة فلا يأكل منها إلا ما يأمن منه الموت .
أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الإختيار وعلى إباحة الأكل منها في الإضطرار وكذلك سائر المحرمات والأصل في هذا قول الله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ويباح له أكل ما يسد الرمق معه ويأمن الموت بالإجماع ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع أيضا وفي الشبع روايتان : .
أظهرهما : لا يباح وهو قول ابي حنيفة واحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين لـ لشافعي قال الحسن يأكل قدر ما يقيمه لأن الآية دلت على تحريم الميتة واستثنى ما اضطر إليه فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل كحالة الإبتداء ولأنه بعد سد الرمق غير مضطر فلم يحل له الأكل للآية يحققه أنه بعد سد رمقه كهو قبل أن يضطر وثم لم يبح له الأكل كذا ههنا .
والثانية : يباح له الشبع اختارها أبو بكر لما [ روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرة فنفقت عنده نافة فقالت له امرأته اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله فقال حتى اسأل رسول الله A فسأله فقال : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال لا قال : فكلوها ] ولم يفرق رواه أبو داود ولأن ما جاز سد الرمق منه جاز الشبع منه كالمباح ويحتمل أن يفرق بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة كحالة الإعرابي الذي سأل رسول الله A جاز الشبع لأنه إذا اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ولا يتمكن من البعد عن الميتة مخافة الضرورة والمستقبلة ويفضي إلى ضعف بدنه وربما أدى ذلك إلى تلفه بخلاف التي ليست مستمرة فإنه يرجو الغنى عنها بما يحل له والله أعلم إذا ثبت هذا اذا فإن الضرورة المبيحة هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل قال أحمد : إذا كان يخشى على نفسه سواء كان من جوع أو يخاف أن ترك الأكل عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فهلك أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمن محصور .
فصل : وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر ؟ فيه وجهان : .
أحدهما : يجب وهو قول مسروق وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي قال الأثرم : سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل فذكر قول مسروق من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار وهذا اختيار ابن حامد وذلك لقول الله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وترك الأكل مع إمكانه في هذا الحال إلقاء بيده إلى التهلكة وقال الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله له فلزمه كما لو كام معه طعام حلال .
والثاني : لا يلزمه لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله A أن طاغية الروم حبسه في بيت وجعل معه خمرا ممزوجا لماء لحم خنزير مشوي ثلاثة أيام فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته فأخرجوه فقال : قد كان الله أحله لي لأني مضطر ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص ولأن له غرضا في إجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه .
فصل : وتباح المحرمات عند الإضطرار إليها في الحضر والسفر جميعا لأن الآية مطلقة غير مقيدة بإحدى الحالتين وقوله : { فمن اضطر } لفظ عام في حق كل مضطر ولأن الإضطرار يكون في الحضر في سنة المجاعة وسبب الإباحة الحاجة إلى حفظ النفس عن الهلاك لكون هذه المصلحة أعظم من مصلحة إجتناب النجاسات والصيانة عن تناول المستخبثات وهذا المعنى عام في الحالين وظاهر كلام أحمد أن الميتة لا تحل لمن يقدر على دفع ضرورته بالمسألة .
وروي عن أحمد أنه قال : أكل الميتة إنما يكون في السفر يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال وهذا من أحمد خرج مخرج الغالب فإن الغالب أن الحضر يوجد فيه الطعام الحلال ويمكن دفع الضرورة بالسؤال ولكن الضرورة أمر معتبر بوجود حقيقيته لا يكتفي فيه بالمظنة بل متى وجدت الضرورة أباحت سواء وجدت المظنة أو لم توجد ومتى انتفت لم يبح الأكل لوجود مظنتها بحال .
فصل : قال أصحابنا ليس للمضطر في سفر المعصية الأكل من الميتة كقاطع الطريق والآبق لقول الله تعالى : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } قال مجاهد غير باغ على المسلمين ولا عاد عليهم وقال سعيد بن جبير : إذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له فإن تاب وأقلع عن معصية حل له الأكل .
فصل : وهل للمضطر التزود من الميتة ؟ على روايتين أصحهما : له ذلك وهو قول مالك لأنه لا ضرر في استصحابها ولا في إعدادها لدفع ضرورته وقضاء حاجته ولا يأكل منها إلا عند ضرورته .
والثانية : لا يجوز لأنه توسع فيما لم يبح إلا للضرورة فإن استصحبها فلقيه مضطر آخر لم يجز له بيعه إياه لأنه إنما أبيح له منها ما يدفع به الضرورة ولا ضرورة إلى البيع ولأنه لا يملكه ويلزمه إعطاء الآخر بغير عوض إذا لم يكن هو مضطرا في الحال إلى ما معه لأن ضرورة الذي لقيه موجودة وحاملها يخاف الضرر في ثاني الحال