مسألة وفصول : أحكام في الغلول .
مسألة : قال : ومن غل من الغنيمة حرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح .
الغال هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة فلا يطلع الامام عليه ولا يضعه مع الغنيمة فحكمه أن يحرق رحله كله وبهذا قال الحسن وفقهاء الشام منهم مكحول و الأوزاعي والوليد بن هشام ويزيد بن يزيد بن جابر وأتي سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه وقال يزيد بن يزيد بن جابر : السنة في الذي يغل أن يحرق رحله رواهما سعيد في سننه وقال مالك و الليث و الشافعي و أصحاب الرأي : لا يحرق لأن النبي A لم يحرق فان عبد الله بن عمر روى [ أن رسول الله A كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة فقال : سمعت بلالا نادى ثلاثا قال : نعم قال : فما منعك أن تجيء به فاعتذر فقال : كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك ] أخرجه أبو داود لأن احراق المتاع إضاعة له وقد نهى النبي A عن إضاعة المال .
ولنا ما [ روى صالح بن محمد بن زرارة قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب Bه عن النبي A قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه قال : فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه فقال : بعه وتصدق بثمنه ] أخرجه سعيد و أبو داود و الأثرم .
وروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله A وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغال فأما حديثهم فلا حجة لهم فيه فان الرجل لم يعترف أنه أخذ ما أخذه على سبيل الغلول ولا أخذه لنفسه وإنما توانى في المجيء به وليس الخلاف فيه ولأن الرجل جاء به من عند نفسه تائبا معتذرا والتوبة تجب ما قبلها وتمحو الحوبة .
وأما النهي عن إضاعة المال فانما نهي عنه إذا لم تكن فيه مصلحة فأما إذا كان فيه مصلحة فلا بأس به ولا يعد تضييعا كإلقاء المتاع في البحر إذا خيف الغرق وقطع يد العبد السارق مع أن المال لا تكاد المصلحة تحصل به إلا بذهابه فأكله إتلافه وإيقافه إذهابه ولا يعد شيء من ذلك تضييعا ولا إفسادا ولا ينهى عنه .
وأما المصحف فلا يحرق لحرمته ولما تقدم من قول سالم فيه والحيوان لا يحرق لنهي النبي A أن يعذب بالنار إلا ربها ولحرمة الحيوان في نفسه ولأنه لا يدخل في اسم المتاع المأمور باحراقه وهذا لا خلاف فيه ولا تحرق آلة الدابة أيضا نص عليه أحمد لأنه يحتاج اليها للانتفاع بها ولأنها تابعة لما لا يحرق فأشبه جلد المصحف وكيسه وقال الأوزاعي : يحرق سرجه واكافه .
ولنا أنه ملبوس حيوان فلا يحرق كثياب الغال ولا تحرق ثياب الغال التي عليه لأنه لا يجوز تركه عريانا ولا ماغل لأنه من غنيمة المسلمين قيل لأحمد : فالذي أصاب في الغلول أي شيء يصنع به ؟ قال : يرفع إلى المغنم كذلك قال الأوزاعي ولا سلاحه لأنه يحتاج إليه للقتال ولا نفقته لأن ذلك مما لا يحرق عادة وجميع ذلك أو ما أبقت النار من حديد أو غيره فهو لصاحبه لأن ملكه كان ثابتا عليه ولم يوجد ما يزيله وإنما عوقب بإحراق متاعه فما لم يحترق يبقى على ما كان ويحتمل أن يباع المصحف ويتصدق به لقول سالم فيه وإن كان معه شيء من كتب الحديث أو العلم فينبغي أن لا تحرق أيضا لأن نفع ذلك يعود إلى الدين وليس المقصود الإضرار به في دينه وإنما القصد الإضرار به في شيء من دنياه .
فصل : وان لم يحرق رحله حتى استحدث متاعا آخر أو رجع إلى بلده أحرق ما كان معه حال الغلول نص عليه أحمد في الذي يرجع إلى بلده قال : ينبغي أن يحرق ما كان معه في أرض العدو وإن مات قبل إحراق رحله لم يحرق نص عليه أحمد لأنها عقوبة فسقط بالموت كالحدود لأنه بالموت انتقل إلى ورثته فاحراقه عقوبة لغير الجاني وإن باع متاعه أو وهبه احتمل أن لا يحرق لأنه صار لغيره أشبه ما لو انتقل عنه بالموت واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق لأنه تعلق به حق سابق على البيع والهبة فوجب تقديمه كالقصاص في حق الجاني .
فصل : وإن كان الغال صبيا لم يحرق متاعه وبه قال الأوزاعي لأن الاحراق عقوبة وليس هو من أهلها فأشبه الحد وإن كان عبدا لم يحرق متاعه لأنه لسيده فلا يعاقب سيده بجناية عبده وإن استهلك ما غله فهو في رقبته لأنه من جنايته وإن غلت امرأة أو ذمي احرق متاعهما لأنهما من أهل العقوبة ولذلك يقطعان في السرقة ويحدان في الزنا وغيره وإن أنكر الغلول وذكر أنه ابتاع ما بيده لم يحرق متاعه حتى يثبت غلوله ببينة أو إقرار لأنه عقوبة به فلا يجب قبل ثبوته بذلك كالحد ولا يقبل في بينته إلا عدلان لذلك .
فصل : ولا يحرم الغال سهمه وقال أبو بكر في ذلك روايتان : إحداهما : يحرم سهمه لأنه قد جاء في الحديث يحرم سهمه فان صح فالحكم له وقال الأوزاعي في الصبي يغل : يحرم سهمه ولا يحرق متاعه .
ولنا أن سبب الاستحقاق موجود فيستحق كما لو لم يعلم ولم يثبت حرمان سهمه في خبر ولا قياس فيبقى بحاله ولا يحرق سهمه لأنه ليس من رحله .
فصل : إذا تاب الغال قبل القسمة رد ما أخذه في المقسم بغير خلاف لأنه حق تعين رده إلى أهله فان تاب بعد القسمة فمقتضى المذهب أن يؤدي خمسه إلى الامام ويتصدق بالباقي وهذا قول الحسن و الزهري و مالك و الأوزاعي و الثوري و الليث .
وروى سعيد بن منصور عن عبد الله بن المبارك عن صفوان بن عمرو عن حوشب بن سيف قال : غزا الناس الروم وعليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فغل رجل مائة دينار فلما قسمت الغنيمة وتفرق الناس ندم فأتى عبد الرحمن فقال : قد غللت مائة دينار فاقبضها قال : قد تفرق الناس فلن أقبضها منك حتى توافي الله بها يوم القيامة فأتى معاوية فذكر ذلك له فقال له مثل ذلك فخرج يبكي فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي فقال : ما يبكيك ؟ فأخبره فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون أمطيعي أنت يا عبد الله ؟ قال : نعم قال : فانطلق إلى معاوية فقل له : خذ مني خمسك فاعطه عشرين دينارا وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش فان الله تعالى يعلم أسماءهم ومكانهم وإن الله يقبل التوبة عن عباده فقال معاوية : أحسن والله لأن أكون أنا أفتيته بهذا أحب إلي من أن يكون لي مثل كل شيء امتلكت وعن ابن مسعود أنه رأى أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه وقال الشافعي : لا أعرف للصدقة وجها وقد جاء في حديث الغال أن النبي A قال : [ لا أقبله منك حتى تجيء به يوم القيامة ] .
ولنا قول من ذكرنا من الصحابة ومن بعدهم ولم نعرف لهم مخالفا في عصرهم فيكون إجماعا ولأن تركه تضييع له وتعطيل لمنفعته التي التي خلق لها ولا يتخفف به شيء من اثم الغال وفي الصدقة نفع لم يصل إليه من المساكين وما يحصل من أجر الصدقة يصل إلى صاحبه فيذهب به الاثم عن الغال فيكون أولى