( تابع . . . 1 ) : قال وإذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى فحنث فعليه حجة أو عمرة .
قال وإذا قال إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لم يلزمه أن يهديهما في قول " أبي حنيفة " - C تعالى - ولزمه ذلك عندهما وهو نظير ما سبق من التزام المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لما جعل ذكر هذين الموضعين عندهما كذكر " مكة " ولم يجعل كذلك عند " أبي حنيفة " C تعالى كذلك هنا فإن قيل فعلى قول " أبي حنيفة " C تعالى ينبغي أن يلزمه هنا لأن ذكره الحرم والمسجد الحرام غير ملزم فكأنه لم يذكر ولكنه قال : هذه الشاة هدي فتلزمه بخلاف المشي فإن هناك لو قال علي مشي لا يلزمه شيء قلنا هذا غير صحيح لأنه إذا قال هذه الشاة هدي إنما يلزمه باعتبار أن ذكر " مكة " يصير مضمرا في كلامه بدلالة العرف فإذا نص إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لا يمكن أن يجعل ذكر " مكة " مضمرا في كلامه فلهذا لا يلزمه شيء عنده .
قال وكل شيء يجعله على نفسه من المتاع والرقيق فإنما عليه أن يبيعه ويتصدق به على مساكين أهل " مكة " وإن تصدق به " بالكوفة " أجزأه وعلى قول " الشافعي " - C تعالى - لا يجزيه لأنه التزم الهدي والهدي لا يكون إلا في موضع فكان من ضرورة ما نص عليه تعيين مساكين أهل " مكة " للتصدق عليهم ولكنا نقول هو بهذا اللفظ ملتزم للقربة في هذه المحال والفعل الذي هو قربة في هذه المحال التصدق بها فكأنه نذر أن يتصدق بها والتصدق على فقراء الكوفة كالتصدق على فقراء " مكة " لأن معنى القربة في التصدق إنما يحصل بسد خلة المحتاج وفي هذا فقراء " مكة " وفقراء الكوفة سواء .
قال وكل هدى جعله على نفسه من الإبل والبقر والغنم فعليه أن يذبحه " بمكة " لأن فعل القربة في هذه المحال بإراقة الدم وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص وهو الحرم أو زمان مخصوص وهو يوم النحر وفي لفظه ما ينبئ عن المكان دون الزمان ولهذا كان عليه أن يذبحه " بمكة " وبعد الذبح صار المذبوح لله تعالى خالصا فالسبيل أن يتصدق بلحمه والأولى أن يتصدق به على مساكين " مكة " وإن تصدق على غيرهم أجزأه عندنا لما بينا في الفصل الأول وإن كان ذلك في أيام النحر فعليه أن ينحر بمنى كما هو السنة في الهدايا وإن كان في غير أيام النحر فعليه أن يذبح " بمكة " وهذا على سبيل بيان الأولى فأما في حكم الجواز إذا ذبحه في الحرم جاز كما " قال A " منى " منحر وفجاج " مكة " كلها منحر " .
قال ولو قال إن فعلت كذا فعلي هدي ففعله كان عليه ما استيسر من الهدي شاة لأن اسم الهدي عند الإطلاق يتناول الإبل والبقر والغنم فإن هذه الحيوانات يتقرب بإراقة دمها إلا أن عند الاطلاق يلزمه المتيقن وهو الشاة فإن نوى الإبل أو البقر كان عليه ما نوى لأنه شدد الأمر على نفسه في نيته ونوى التعظيم فيما التزمه من الهدي فيلزمه ما نوى ولا يذبحها إلا " بمكة " لتصريحه بالهدي فإن كان قال علي بدنة فإن كان نوى شيئا من البدن بعينه فعليه ما نوى لأن المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به وإن لم يكن له نية فعليه بقرة أو جزور لأن اسم البدنة مشتق من البدانة وهي الضخامة والعظم وذلك لا يتناول الشاة وإنما يتناول البقرة والجزور وهكذ نقل عن " علي " و " ابن عباس " - Bهما - وعن " ابن مسعود " و " ابن عمر " - Bهما - : أن لفظة البدنة لا تتناول إلا الجزور فإن سائلا سأل " ابن مسعود " - Bه - : أن صاحبا لنا أوجب بدنة أفتجزى البقرة ؟ فقال : مم صاحبكم ؟ فقال من بني رباح فقال : ومتى اقتنت بنو رباح البقر ؟ وإنما وهم صاحبكم الإبل ثم إن كان نوى أن ينحرها " بمكة " فليس له أن ينحرها إلا " بمكة " كما نوى لأن المنوي كالمصرح به وإن كان لم يكن له نية نحرها حيث شاء في قول " أبي حنيفة " و ا ا " محمد " - رحمهما الله تعالى - وقال " أبو يوسف " - C تعالى - لا يجزئه إلا أن ينحرها " بمكة " وجه قوله إنه التزم التقرب بإراقة الدم وإراقة الدم لا تكون قربة إلا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص وإذا لم يختص هنا بالزمان يختص بالمكان وهو الحرم كما لو أوجبه بلفظة الهدي وهما قالا كما لا يختص بالزمان لأنه ليس في لفظه ما يدل عليه فكذلك لا يختص بالمكان لأنه في لفظة البدنة ما يدل عليه بخلاف لفظة الهدي وإذا لم يكن في لفظه ما يدل على مكان أو زمان عرفنا أن مراده التزام التقرب والتصدق باللحم وذلك يحصل في أي موضع نحر وهو قياس ما لو قال لله علي جزور كان له أن ينحر في أي مكان شاء ولكن " أبو يوسف " - C تعالى - يفرق بينهما فيقول لإعادة في استعمال لفظة الجزور في معنى الهدي بخلاف لفظة البدنة . ألا ترى أن اسم البدنة لا ينطلق إلا على ما هو معد للقربة كاسم الهدي بخلاف اسم الجزور ولمعنى القربة جعلنا اسم البدنة متناولا للبقرة والجزور جميعا لأن كل واحد منهما يجزي في الهدايا والضحايا عن سبعة فعرفنا أن معنى التقرب بإراقة الدم معتبر في لفظة البدنة كما هو معتبر في لفظة الهدي فكان مختصا بالحرم .
قال ولا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع من الإبل والبقر دون الغنم والكلام في فصول : .
أحدها أن التقليد في الهدايا سنة ثبتت بقوله تعالى : { " ولا الهدي ولا القلائد " } المائدة : 2 وصح " أن النبي - A - قلد هداياه في حجة الوداع " وصفة التقليد هو أن يعلق على عنق البدنة نعل أو قطعة أدم أو عروة مزادة قيل والمعنى فيه إعلام الناس أن هذا أعد للتطوع بإراقة دمه فيصير جلده عن قريب مثل هذه القطعة من الجلد والمقصود به التشهير وقد بينا أن التشهير فيما هو نسك دون ما هو جبر ولهذا لا يقلد إلا هدي متعة أو قران أو تطوع والمقصود : أن لا يمنع من الماء والعلف إذا علم أنه هدي وهذا فيما يبعد عن صاحبه في الرعي كالإبل والبقر دون الغنم فإن الغنم يعدم إذا لم يكن صاحبه معه فلهذا لا يقلد الغنم وهذا عندنا وعلى قول " مالك " C تعالى يقلد الغنم أيضا لأن التقليد سنة في الهدايا والغنم من الهدايا وقد ورد فيه أثر ولكنه شاذ فلم نأخذ به وهذا لأن تقليد الغنم غير معتاد في الناس ظاهرا بخلاف تقليد الإبل والبقر .
قال والتجليل حسن لأن هدايا رسول الله كانت مقلدة مجللة حيث قال " لعلي " Bه تصدق بجلالها وخطامها وإن ترك التجليل لم يضره والتقليد أحب إلي من التجليل لأن للتقليد ذكرا في كتاب الله تعالى دون التجليل وأما الإشعار فهو مكروه عند " أبي حنيفة " - C تعالى - وعندهما هو حسن في البدنة وإن ترك لم يضره وصفة الإشعار هو أن يضرب بالمبضع في أحد جانبي سنام البدنة حتى يخرج الدم منه ثم يلطخ بذلك الدم سنامه سمى ذلك إشعارا بمعنى أنه جعل ذلك علامة له والإشعار هو الإعلام .
وكان " ابن أبي ليلى " C تعالى يقول الإشعار في الجانب الأيسر من السنام وقد صح في " الحديث أن النبي A أشعر البدن بيده " وهو مروي عن الصحابة - Bهم - ظاهر حتى قال " الطحاوي " C تعالى ما كره " أبو حنيفة " - C تعالى - أصل الإشعار وكيف يكره ذلك مع ما اشتهر فيه من الآثار وإنما كره إشعار أهل زمانه لأنه رآهم يستقصون ذلك على وجه يخاف منه هلاك البدنة لسرايته خصوصا في حر الحجاز فرأى الصواب في سد هذا الباب على العامة لأنهم لا يراعون الحد فأما من وقف على ذلك بأن قطع الجلد فقط دون اللحم فلا بأس بذلك ثم حجتهما من حيث المعنى لأن المقصود من الإشعار والتقليد إعلام بأنها بدنة حتى إذا ضلت ردت وإذا وردت الماء والعلف لم تمنع لكن هذا المقصود بالتقليد لا يتم لأن القلادة تحل ويحتمل أن تسقط منه فإنما يتم بالإشعار لأنه لا يفارقه فكان الإشعار حسنا لهذا و " أبو حنيفة " - C تعالى - يقول معنى الإعلام بالتقليد يحصل وهو لإكرام البدنة وليس في الإشعار معنى الإكرام بل ذلك يؤذي البدنة ولأن التجليل مندوب إليه وإنما كان مندوبا لدفع أذى الذباب عن البدنة والإشعار من جوالب الذباب فلهذا كرهه " أبو حنيفة " - C تعالى .
قال ولا يصير بالإشعار والتجليل محرما وإنما يصير محرما بالتقليد وأصل هذا أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية عندنا وفي أحد قولي " الشافعي " - C تعالى - ينعقد بمجرد النية وجعل الإحرام قياس الصوم من حيث إنه التزام الكف عن ارتكاب المحظورات ومثل هذه العبادة يحصل الشروع فيها بمجرد النية كالصوم وعلى قولنا الإحرام قياس الصلاة لأن الإحرام لأداء الحج أو العمرة وذلك يشتمل على أركان مختلفة كالصلاة فكما لا يصير شارعا في الصلاة بمجرد النية بدون التحريمة فكذلك في الإحرام بخلاف الصوم فإنه ليس للصوم إلا ركن واحد وهو الإمساك وذلك معلوم بزمانه فكان الوقت للصوم معيارا ولهذا لا يصح في كل زمان إلا صوم واحد فبعد وجود النية ودخول وقت الأداء لا حاجة إلى مباشرة فعل الأداء فلهذا صار شارعا فيه بمجرد النية وهنا الزمان ليس بمعيار للحج ولهذا صح أداء النفل في الزمان الذي يؤدي فيه الفرض وإنما أداؤه بأفعاله وبمجرد النية لا يصير مباشرا للفعل فلا يصير شارعا في الأداء أيضا ولكن لو قلد البدنة بنية الإحرام أو أمر فقلد له وهو ينوي الإحرام صار محرما عندنا وقال " الشافعي " - C تعالى - لا يصير محرما إلا بالتلبية على القول الذي يقول لا ينعقد الإحرام بمجرد النية وحجته في ذلك أن الفعل لا يقوم مقام الذكر في التحريم للعبادة كما في الصلاة لما كان الشروع فيها بالتكبير لا يقوم الفعل فيه مقامه حتى لو ركع أو سجد بنية الشروع في الصلاة لا يصير شارعا ولا فرق بينهما لأن الهدي نسك في هذه العبادة كالركوع والسجود في الصلاة توضيحه : أن تقليد الهدي لا يكون أقوى من من إراقة دم الهدي وبإراقة دم الهدي على قصد الإحرام لا يصير محرما فكذلك بالتقليد وحجتنا في ذلك قوله تعالى : { " ولا الهدي ولا القلائد " } إلى أن قال { " وإذا حللتم فاصطادوا " } ولم يتقدم ذكر الإحرام ففي قوله { وإذا حللتم فاصطادوا } إشارة إلى أن الإحرام يحصل بتقليد الهدي وذلك مروي عن الصحابة " عمر " و " ابن مسعود " و " ابن عباس " - رضي الله تعالى عنهم - حتى روي عن " قيس بن سعد " أنه كان يغسل رأسه فبعد ما غسل أحد شقي رأسه نظر فإذا هداياه قد قلدت فقام وترك غسل الشق الآخر وقال إما أن من قلدت هذه الهدايا له فقد أحرم والمعنى فيه أن الحج يشبه الصلاة من وجه والصوم من وجه فمن حيث إنه ليس في إثنائه ذكر مفروض كان مشبها بالصوم ومن حيث إنه يشتمل على أركان مختلفة كان مشبها بالصلاة فيوفر على الشبهين حظهما من الحكم فنقول بشبهه بالصلاة لا يصير شارعا فيه بمجرد النية ويشبهه بالصوم يصير شارعا فيه وإن لم يأت بالذكر إذا أتى بفعل يقوم مقام الذكر وهذا لأن المقصود بالتلبية إظهار إجابة الدعوة وبتقليد الهدي يحصل إظهار الإجابة أيضا وفرق بين التجليل والتقليد فقال بالتجليل لا يصير محرما وإن نوى لأن التجليل لا يختص به ما أعد للقربة فقد تجلل البدنة لا على قصد التقرب بها فلا يكون ذلك دليل الإجابة بخلاف التقليد بالصفة التي ذكرنا فإنه لا يكون إلا عند قصد التقرب فكان إظهارا للإجابة وكذلك بالإشعار لا يصير محرما أما عند " أبي حنيفة " - C تعالى - فلا يشكل لأن الإشعار مكروه عنده فكيف يصير محرما به وعندهما الإشعار بمنزلة التجليل فإنه إخراج شيء من الدم من البدنة وذلك لا يختص بحال التقرب بها فلم يكن ذلك دليل الإجابة فلهذا لا يصير محرما ثم إذا نوى عند التقليد حجة أو عمرة فهو على ما نوى لأن التقليد بمنزلة التلبية وإن لم يكن له نية في حجة أو عمرة إنما نوى الإحرام فقط فهو بمنزلة ما لو أتى بنية الإحرام مطلقا فإن شاء جعله حجا وإن شاء جعله عمرة وإن قلد الشاة بنية الإحرام لا يصير محرما لما بينا أن التقليد في الشاة ليس بقربة فلا يصير به محرما وإن قلد الهدي وبعث به وهو لا ينوي الإحرام ثم خرج في أثره لم يصر محرما حتى يدرك هديه فإذا أدركه وسار معه صار محرما الآن والأصل فيه " حديث " عائشة " - رضي الله تعالى عنها - قالت : كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - A - بيدي فقلدها وبعث بها وأقام بأهله حلالا لا يحرم به ما يحرم على المحرم " فعرفنا أنه لا يصير محرما بمجرد التقليد والصحابة - رضي الله تعالى عنهم - كانوا مختلفين في هذه المسألة على ثلاثة أقاويل : .
فمنهم من يقول : إذا قلدها صار محرما .
ومنهم من قال : إذا توجه في أثرها صار محرما .
ومنهم من قال : إذا أدركها فساقها صار محرما فأخذنا بالمتيقن من ذلك وقلنا إذا أدركها وساقها صار محرما لاتفاق الصحابة Bهم في هذه الحالة إلا في بدنة المتعة فإنه لا يصير محرما حتى يخرج على أثرها وإن لم يدركها استحسانا .
وفي القياس لا يصير محرما حتى يدركها فيسوقها كما في هدي التطوع ولكنه استحسن فقال : لهدي المتعة نوع اختصاص لبقاء الإحرام بسببه فإن المتمتع إذا ساق الهدي فليس له أن يتحلل من النسكين بخلاف ما إذا لم يسق الهدي وكما كان له نوع اختصاص ببقاء الإحرام فكذلك بابتداء الشروع في الإحرام لهدي المتعة نوع اختصاص وذلك في أن يصير محرما بنفس التوجه وإن لم يدرك الهدي بخلاف هدي التطوع .
( يتبع . . . )