قال وإذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى فحنث فعليه حجة أو عمرة استحسانا وفي القياس لا شيء عليه لأن الالتزام بالنذر إنما يصح فيما يكون من جنسه واجب شرعا والمشي إلى بيت الله تعالى ليس من جنسه واجب شرعا فلا يصح الالتزام بالنذر توضيحه أن الالتزام باللفظ ولم يلزمه ما تلفظ به بالاتفاق وهو المشي فلأن لا يلزمه ما لم يتلفظ به من الحج والعمرة أولى .
ولكنا تركنا القياس بحديث " علي " Bه قال فيمن نذر المشي إلى بيت الله تعالى فعليه حجة أو عمرة والعرف الظاهر بين الناس أنهم يذكرون هذا اللفظ ويريدون به التزام النسك واللفظ إذا صار عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته ويجعل كأنه تلفظ بما صار عبارة عنه ولأنه لا يتوصل إلى بيت الله تعالى إلا بالإحرام فكأنه التزم الإحرام بهذا اللفظ والإحرام لأداء أحد النسكين أما الحج أو العمرة فكأنه التزم بهذا اللفظ ما يخرج به عن الإحرام فلهذا يلزمه حجة أو عمرة ويمشي فيها كما التزم فإذا ركب أراق دما " لحديث " عقبة بن عامر " - رضي الله تعالى عنه - حيث قال يا رسول الله : إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال - A - : إن الله تعالى غني عن تعذيب أختك مرها فلتركب ولترق دما " ولأن الحج ماشيا أفضل فإن الله تعالى قدم المشاة على الركبان فقال : { " يأتوك رجالا وعلى كل ضامر " } الحج : 27 ولهذا كان " ابن عباس " - رضي الله تعالى عنه - بعد ما كف بصره يتأسف على تركه الحج ماشيا " و " الحسن بن علي " - رضي الله تعالى عنه - كان يمشي في طريق الحج والجنائب تقاد بجنبه فقيل له : ألا تركب ؟ فقال سمعت رسول الله - A - يقول من مشى في طريق الحج كتب الله له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم " قيل : وما حسنات الحرم ؟ قال : الواحدة بسبعمائة ضعف فإذا ثبت أن المشي أفضل قلنا إذا ركب فقد أدى أنقص مما التزم فعليه لذلك دم فإن قيل كيف يستقيم هذا وقد كره " أبو حنيفة " - C تعالى - المشي في طريق الحج قلنا لا كذلك وإنما كره الجمع بين الصوم والمشي وقال إذا جمع بينهما ساء خلقه فجادل رفيقه والجدال منهي عنه .
فإن اختار المشي فالصحيح من المذهب أنه يلزمه المشي من بيته .
وقال بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - يلزمه المشي من الميقات لأنه التزم المشي في النسك وذلك عند إحرامه من الميقات ولكن العادة الظاهرة أن الناس بهذا اللفظ يقصدون المشي من بيوتهم وقد قال " علي " و " ابن مسعود " - Bهما - في قوله تعالى : { " وأتموا الحج والعمرة لله " } قال : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فميقات الرجل في الإحرام منزله ولكن يرخص له في تأخير الإحرام إلى الميقات ولو أحرم من بيته لا إشكال أنه يمشي من بيته فكذلك إذا أخر الإحرام قلنا يمشي من بيته كما التزم ثم لا يركب إلى أن يطوف طواف الزيارة لأن تمام الخروج من الإحرام به يحصل فإن تمام التحلل في حق النساء إنما يحصل بالطواف وإذا اختار العمرة مشى إلى أن يحلق فإن قرن بهذه العمرة حجة الإسلام أجزأه لأن القارن يأتي بكل واحد من النسكين بكماله فنسك العمرة التزمه بالنذر والحج حجة الإسلام وقد أداهما بصفة الكمال فعليه دم القران لذلك وإن كان ركب فعليه دم لركوبه مع دم القران .
قال وكل من وجب عليه دم في المناسك جاز أن يشاركه في بدنة ستة نفر قد وجبت عليهم الدماء فيها ألا ترى أن النبي - A - جوز ذلك في كل سبعة من أصحابه عام الحديبية ولا فرق بين أن يكون جنس الواجب عليهم واحدا أو مختلفا في حكم الجواز حتى إذا قصد بعضهم دم المتعة وبعضهم دم الإحصار وجزاء الصيد فذلك جائز بخلاف ما إذا قصد بعضهم اللحم لأن الواجب إراقة دم هو قربة وإراقة الدم في كونه قربة لا يتجزأ فإذا قصد بعضهم اللحم لم يكن فيه معنى القربة خالصا فأما عند اختلاف جهات القربة فقصد كل واحد منهم معنى القربة فقط فلهذا يتأدى الواجب به ولو كان كله جنسا واحدا كان أحب إلي لأن دماء القرب مختلفة بعضها لا يحل التناول منه للأغنياء كدماء الكفارات وبعضها يحل فإذا اتحد الجنس فقد اتحد معنى القربة في المذبوح فيكون أقرب إلى الجواز .
قال فإذا نذر المشي إلى بيت الله تعالى ونوى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجدا آخر فلا شيء عليه أما صحة نيته فلأنها مطابقة للفظه والمساجد كلها بيوت الله تعالى قال الله تعالى : { " في بيوت أذن الله أن ترفع " } وإذا عملت نيته صار ذلك كالملفوظ به فلا يلزمه شيء لأن سائر المساجد يباح دخولها بغير إحرام فلا يصير به ملتزما للإحرام وعلى هذا لو قال : أنا أمشي إلى بيت الله تعالى قال : فإن نوى به العدة فلا شيء عليه لأن المواعيد لا يتعلق بها اللزوم ولكن يندب إلى الوفاء بالوعد وإن نوى به النذر كان نذرا وكذلك إن لم يكن له نية فهو نذر وكذلك إن لم يكن نوى شيئا من المساجد فهو على الكعبة للعادة الظاهرة فإن الناس إذا أطلقوا هذه اللفظة يريدون بها الكعبة وعلى هذا لو قال علي المشي إلى " مكة " أو إلى الكعبة فهو وقوله إلى بيت الله سواء وقوله وإن قال علي المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام فلا شيء عليه في قول " أبي حينفة " - C تعالى - أخذا بالقياس فيه لأن الناس لا يطلقون هذا اللفظ عادة لإرادة التزام الحج والعمرة بخلاف ما تقدم من الألفاظ الثلاثة ثم المسجد الحرام بمنزلة الفناء للكعبة والحرم بمنزلة الفناء ل " مكة " فلا يجعل ذكر الفناء كذكر الأصل في النذر بل يجعل هذا بمنزلة ما لو قال لله علي المشي إلى الصفا أو إلى المروة أو إلى مقام " إبراهيم " - صلوات الله عليه وسلامه - فلا يلزمه شيء و " أبو يوسف " و ا ا " محمد " رحمهما الله تعالى قالا نأخذ بالاحتياط أو بالاستحسان في هذين الفصلين أيضا لأنه لا يتوصل إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام إلا بالإحرام فصار بهما ملتزما للإحرام .
قال ولو قال على السفر إلى " مكة " أو الذهاب أو الاتيان إلى " مكة " أو الركوب فلا شيء عليه والقياس في الألفاظ كلها واحد ولكن فيما تعارف الناس التزام النسك به تركنا القياس فيه للعرف فما لا عرف فيه أخذنا بالقياس فإن قال إن كلمت فلانا فلله علي حجة يوم أكلمه ينوي أنه يجب عليه يوم يكلمه فكلمه وجب عليه حجة يقضيها متى شاء ولم يكن محرما بها يومئذ ما لم يحرم بمنزلة ما لو قال علي حجة اليوم كانت واجبة عليه يحرم بها متى شاء لأنه التزمها في ذمته والشروع في الأداء لا يتصل بالالتزام في الذمة كسائر العبادات فإن من قال لله علي أن أصوم اليوم لا يصير صائما بنذره والإحرام شروع في الأداء فلا يثبت بالالتزام ولأن ما يوجب على نفسه معتبر بما أوجب الله تعالى عليه ومن وجب عليه الحج بوجود الزاد والراحلة لا يصير محرما بنفس الوجوب عليه فكذلك لا يصير محرما بمجرد ما قال وإن وصل الاستثناء بنذره لم يلزمه شيء لأن الاستثناء يخرج الكلام من أن يكون عزيمة " قال A من حلف بطلاق أو عتاق واستثني فلا حنث عليه " ولو قال لآخر علي حجة إن شئت فقال قد شئت فهو عليه لأن تعليق النذر بالشرط صحيح فإذا علقه بمشيئته وشاء جعل كأنه أرسل النذر عند ذلك فيلزمه كالطلاق والعتاق وقوله علي حجة مثل قوله لله علي حجة لأن الحج لا يكون إلا لله تعالى والالتزام بقوله علي ولو قال إن فعلت كذا فأنا أحرم فإن نوى به العدة فلا شيء عليه وإن نوى به الايجاب لزمه إذا فعل ذلك إما حجة أو عمرة وإن لم يكن له نية فالقياس أن لا يلزمه شيء لأن ظاهر لفظه عدة وفي الاستحسان يلزمه لأن في عرف اللسان يراد بمثله التحقيق للحال . ألا ترى أن المؤذن يقول أشهد أن لا إله إلا الله والشاهد يقول بين يدي القاضي أشهد ويريد به التحقيق لا العدة وقوله أنا أهدي بمنزلة قوله أنا أحرم .
قال وإن قال إن فعلت كذا فأنا أحج بفلان فحنث فإن كان نوى فأنا أحج وهو معنا فعليه أن يحج وليس عليه أن يحج به وإن نوى أن يحججه فعليه أن يحججه كما نوى لأن الباء للالصاق فقد ألصق فلانا بحجة وهذا يحتمل معنيين أن يحج فلان معه في الطريق وأن يعطي فلانا ما يحج به من المال والتزام الأول بالنذر غير صحيح والتزام الثاني صحيح لأن الحج يؤدي بالمال عند اليأس عن الأداء بالبدن فكان هذا في حكم البدل وحكم البدل حكم الأصل فيصح التزامه بالبدل كما يصح التزامه بالأصل فإن نوى الوجه الأول عملت نيته لاحتمال كلامه ولكن المنوي لا يصح التزامه بالنذر فلا يلزمه به شيء وإنما عليه أن يحج بنفسه فقط وإن نوى الثاني فقد نوى ما يصح التزامه بالنذر فيلزمه ذلك وإذا لزمه ذلك فإما أن يعطيه من المال ما يحج به أو يحج به مع نفسه ليحصل به الوفاء بالنذر فإن لم يكن له نية فعليه أن يحج وليس عليه أن يحجج فلانا لأن لفظه في حق فلان محتمل والوجوب لا يحصل باللفظ المحتمل وإن كان قال فعلي أن أحجج فلانا فهذا محكم غير محتمل فإنه تصريح الالتزام بإحجاج فلان وذلك صحيح بالنذر ولو قال إن فعلت كذا فأنا أهدي فلانا ففعل ذلك الفعل فلا شيء عليه لأن النذر بالهدي لا يصح إلا في الملك وهو قد نذر هدي ما لا يملكه وما لا مالية فيه فكان نذره لغوا إذ لا ولاية له على فلان ليهديه إلا أن يكون فلان ذلك ولده فحينئذ يكون على القياس والاستحسان المعروف في نذر ذبح الولد .
قال ولو قال إن فعلت كذا فأنا أهدي كذا وسمى شيئا من ماله فعليه أن يهديه لأنه التزم أن يهدي ما هو مملوك له والهدي قربة والتزام القربة في محل مملوك له صحيح كما لو نذر أن يتصدق به ثم الاهداء يكون إلى مكان وذلك المكان وإن لم يكن في لفظه حقيقة ولكن صار معلوما بالعرف أنه " مكة " فإن الله تعالى قال في الهدايا { " ثم محلها إلى البيت العتيق " } فإذا تعين المكان بهذا المعنى فإن كان ذلك الشيء مما يتقرب بإراقة دمه فعليه أن يذبحه " بمكة " وإن كان لا يتقرب بإراقة دمه وإنما يتقرب بالتصدق به فإنه يتصدق به على مساكين " مكة " وإن كان ذلك الشيء لا يستطيع أن يهديه بنفسه كالدار والأرض فعليه أن يهديه بقيمته لأن التقرب يحصل بالعين تارة ويحصل بمعنى المالية أخرى فإذا كانت العين لا تحول من مكان إلى مكان عرفنا أن مراده التزام التصدق بماليته فعليه أن يهدي قيمته يتصدق به على مساكين " مكة " وإن أعطاه حجبة البيت أجزأه بعد أن يكونوا فقراء لأنهم بمنزلة غيرهم من المساكين .
قال وكذلك إن قال فثوبي هذا ستر البيت أو قال أنا أضرب به حطيم البيت فعليه أن يهديه استحسانا وفي القياس لا شيء عليه لأن ما صرح به في كلامه لا يلزمه لأنه ليس بقربة فلأن لا يلزمه غيره أولى وفي الاستحسان إنما يراد بهذا اللفظ الاهداء به فصار اللفظ عبارة عما يراد به غيره فكأنه التزم أن يهديه لأن اللفظ متى صار عبارة عن غيره سقط اعتباره في نفسه حقيقة .
قال وإن قال مالي هدى فعليه أن يهدي ماله كله قال بلغنا عن " إبراهيم " أنه قال - في مثل - : هذا يتصدق بماله كله ويمسك منه قدر قوته فإذا أفاد ما لا يتصدق بقدر ما أمسك وأورد هذه المسألة في كتاب الهبة فيما إذا قال مالي صدقة فقال في القياس ينصرف هذا إلى كل مال له وهو قول " زفر " - C تعالى - وفي الاستحسان ينصرف إلى مال الزكاة خاصة بخلاف أما إذا قال : جميع ما أملك فمن أصحابنا من قال ما ذكر هنا جواب القياس لأن التزام الهدي في كل مال كالتزام الصدقة في كل مال والأصح أن يفرق بينهما فيقال في لفظة الصدقة إنما حمل هذا اللفظ على مال الزكاة خاصة اعتبارا لما يوجبه على نفسه بما أوجبه الله تعالى عليه وما أوجب الله تعالى عليه من الصدقة في المال مختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه العبد على نفسه وهنا إنما أوجب الهدي وما أوجب الله تعالى من الهدي لا يختص بمال الزكاة فكذلك ما يوجبه على نفسه فلهذا اعتبرنا فيه حقيقة اللفظ ولكنه يمسك مقدار قوته لأن حاجته مقدمة على حاجة غيره فإذا أفاد مالا تصدق بمثل ما أمسك لتعلق حق المساكين به ثم قال : وكذلك إن قال كل مالي صدقة في المساكين فهذا مثل الأول في قول " إبراهيم " C تعالى وهذا العطف يؤيد ما قلنا أولا أن المذكور جواب القياس فإن القياس والاستحسان منصوص عليهما في لفظ الصدقة في كتاب الهبة وإن قال إن فعلت كذا فغلامي هذا هدي فباعه ثم فعل ذلك لم يلزمه شيء لأن المعلق بالشرط عند وجوده كالمنشأ ولو أنشأ النذر عند ذلك الفعل لم يلزمه شيء لأن العبد ليس في ملكه فكذلك إذا وجد الشرط وكذلك إن كان الغلام في غير ملكه حين حلف ثم اشتراه ثم فعل ذلك لأن اليمين بالنذر في محل معين لا يصح إلا باعتبار الملك أو الإضافة إلى الملك ولم يوجد الملك ولا الإضافة إلى الملك في المحل وقت اليمين فلم ينعقد يمينه أصلا .
قال وإن قال إن كلمت فلانا فهذا المملوك هدي ثم اشتراه صحت يمينه لوجود الإضافة إلى الملك ثم عند وجود الشرط وهو الكلام يصير كأنه أرسل النذر وإنما ينصرف إلى شراء بعده لا إلى شراء سبقه .
قال وإن قال فهذه الشاة هدي إلى بيت الله تعالى أو إلى " مكة " أو إلى الكعبة وهو يملكها فعليه أن يهديها لأنه لو أطلق التزام الهدي صح نذره باعتبار هذا المكان فإذا صرح به كان أولى .
( يتبع . . . )