( تابع . . . 1 ) : قال : يبدأ في غسل الجنابة بيديه فيغسلهما ثم يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه .
فأما سؤر الحمار فطاهر عند " الشافعي " C تعالى وهو قول " ابن عباس " Bهما فإنه كان يقول الحمار يعلف القت والتبن فسؤره طاهر .
وعندنا مشكوك فيه غير متيقن بطهارته ولا بنجاسته فإن " ابن عمر " Bهما كان يقول إنه رجس فيتعارض قوله وقول " ابن عباس " Bهما وكذلك الأخبار تعارضت في أكل لحمه . " فروي أن النبي A نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر " . وروي أن " أبجر بن غالب " Bه قال لم يبق من مالي إلا حميرات " فقال E كل من سمين مالك " وكذلك اعتبار سؤره بعرقه يدل على طهارته واعتباره بلبنه يدل على نجاسته ولأن الأصل الذي أشار إليه رسول الله A في الهرة موجود في الحمار لأنه يخالط الناس لكنه دون ما في الهرة فإنه لا يدخل المضايق فلوجود أصل البلوى لا نقول بنجاسته ولكون البلوى فيه متقاعدا لا نقول بطهارته فيبقي مشكوكا فيه وأدلة الشرع أمارات لا يجوز أن تتعارض والحكم فيها الوقف . وكان " أبو طاهر الدباس " C .
صفحة [ 50 ] ينكر هذا ويقول لا يجوز أن يكون شيء من حكم الشرع مشكوكا فيه ولكن يحتاط فيه فلا يجوز أن يتوضأ به حالة الإختيار وإذا لم يجد غيره يجمع بينه وبين التيمم احتياطا فبأيهما بدأ أجزأه إلا على قول " زفر " فإنه يقول يبدأ بالوضوء فلا يعتبر تيممه ما دام معه ماء هو مأمور بالتوضؤ به ولكنه نقول الإحتياط في الجمع بينهما لا في الترتيب فإن كان طاهرا فقد توضأ به قدم أوأخر وإن كان نجسا ففرضه التيمم وقد أتى به ولا يقال في هذا ترك الإحتياط من وجه لأنه إن كان نجسا تتنجس به أعضاؤه وهذا لأن معنى الشك في طهارته لا في كونه طاهرا لأن الحدث يقين فأما العضو والثوب فطاهر بيقين فلا يتنجس بالشك والحدث موجود بيقين فالشك وقع في طهارته واليقين لا يزال بالشك وهو الصحيح من المذهب .
وذكر " أبو يوسف " في الإملاء عن " أبي حنيفة " رضي الله تعالى عنه في لعاب الحمار إذا أصاب الثوب تجوز الصلاة فيه ما لم يفحش .
وقال " أبو يوسف " C تعالى : أجزأه وإن فحش .
وقال " محمد " C تعالى : لو غمس فيه الثوب تجوز الصلاة في ذلك الثوب وجميع ما بينا في الحمار كذلك في البغل فإن والده غير مأكول اللحم .
والصحيح في عرقهما أنه طاهر وأشار في بعض النسخ إلى جواز الصلاة فيه ما لم يفحش والأصح هو الأول " فإن النبي A كان يركب حمارا معروريا " . والحر حر " تهامة " ولا بد أن يعرق الحمار ولأن معنى البلوى في عرقه ظاهر لمن يركبه .
فأما سؤر الفرس طاهر في ظاهر الرواية .
وروى " الحسن بن زياد " عن " أبي حنيفة " C تعالى أنه مكروه كلحمه .
وجه ظاهر الرواية وهو أن السؤر لمعنى البلوى أخف حكما من اللحم كما في الحمار والبغل والكراهة التي في اللحم تنعدم في السؤر ليظهر به خفة الحكم .
فأما سؤر حشرات البيت كالفأرة والحية ونحوهما في القياس فنجس لأنها تشرب بلسانها ولسانها رطب من لعابها ولعابها يتحلب من لحمها ولحمها حرام ولكنه استحسن فقال طاهر مكروه لأن البلوى التي وقعت الإشارة إليها في الهرة موجودة هنا فإنها تسكن البيوت ولا يمكن صون الأواني عنها .
وأما سؤر سباع الطير كالبازي والصقر والشاهين والعقاب وما لا يؤكل لحمه من الطير في القياس نجس لأن ما لا يؤكل لحمه من سباع الطير معتبر بما لا يؤكل لحمه من سباع الوحش ولكنا استحسنا فقلنا بأنه طاهر مكروه لأنها تشرب بمنقارها ومنقارها عظم جاف بخلاف سباع الوحش فإنها تشرب بلسانها ولسانها رطب بلعابها ولأن في سؤر سباع الطير .
صفحة [ 51 ] تتحقق البلوى فإنها تنقض من الهواء فلا يمكن صون الأواني عنها خصوصا في الصحاري بخلاف سباع الوحش .
وعن " أبي يوسف " C قال ما يقع على الجيف من سباع الطير فسؤره نجس لأن منقاره لا يخلو عن نجاسة عادة .
وأما سؤر السنور ففي كتاب الصلاة قال : وإن توضأ بغيره أحب إلي وفي الجامع الصغير قال هو مكروه وهو قول " أبي حنيفة " و " محمد " رحمهما الله .
وقال " أبو يوسف " C لا بأس بسؤره " لحديث " عائشة " Bها : أن النبي A كان يصفي الإناء لهرة حتى تشرب ثم يتوضأ بالباقي " .
ولنا حديث " ابن عمر " Bهما يغسل الإناء من ولوغ الهرة مرة وهو إشارة إلى الكراهة .
وعن " " أبي هريرة " Bه أن النبي A قال : الهرة سبع " . وهي من السباع التي لا يؤكل لحمها فهذا الحديث يدل على النجاسة وحديث " عائشة " Bها يدل على الطهارة فأثبتنا حكم الكراهة عملا بهما جميعا .
وكان " الطحاوي " C يقول كراهة سؤره لحرمة لحمه وهذا يدل على أنه إلى التحريم أقرب .
وقال " الكرخي " C كراهة سؤره لأنه يتناول الجيف فلا يخلو فمه عن النجاسة عادة وهذا يدل على أن الكراهة كراهة تنزيه وهو الأصح والأقرب إلى موافقة الأثر .
قال : وإن مات في الإناء ذباب أو عقرب أو غير ذلك مما ليس له دم سائل لم يفسده عندنا وقال " الشافعي " Bه يفسده إلا ما خلق منه كدود الخل يموت فيه وسوس الثمار يموت في الثمار واستدل بقوله تعالى : " حرمت عليكم الميتة " المائدة : 3 فهو تنصيص على نجاسة كل ميتة وإذا تنجس بالموت تنجس ما مات فيه إلا أن فيما خلق منه ضرورة ولا يمكن التحرز عنه فصار عفوا لهذا .
ولنا " حديث " أبي هريرة " Bه قال قال : رسول الله A إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فأمقلوه ثم أمقلوه ثم انقلوه فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء وأنه ليقدم السم على الشفاء " ومعلوم أن الذباب إذا مقل مرارا في الطعام الحار يموت فلو كان مفسدا لما أمر بمقله .
وفي " حديث " سلمان الفارسي " Bه عن النبي A قال : ما ليس له دم سائل إذا مات في الإناء فهو الحلال أكله وشربه والوضوء به " ولأن الحيوان إذا مات فإنما يتنجس لما فيه من الدم المسفوح حتى لو ذكي فسال الدم منه كان طاهرا وهذا لأن المحرم هو الدم المسفوح قال الله تعالى : " و دما مسفوحا " } الأنعام : 145 فما ليس له دم سائل لا يتناوله نص التحريم فلا ينجس بالموت ولا يتنجس ما مات فيه قياسا على .
صفحة [ 52 ] ما خلق منه .
قال : وإن وقع فيه دم أو خمر أو عذرة أو بول أفسده عندنا وقال " مالك " C لا يفسده إلا أن يتغير به أحد أو صافه من لون أو ريح أو طعم .
واحتج بما " روي أن النبي A كان يتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقي فيه الجيف ومحايض النساء فلما ذكر له ذلك قال خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه " .
ولنا " قوله E لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من الجنابة " فلو لم يكن ذلك مفسدا للماء ما كان للنهي عنه معنى وفائدة وفيه طريقتان : .
إحدهما : أن الماء ينجس بوقوع النجاسة فيه لأن صفة الماء تتغير بما يلقى فيه حتى يضاف إليه كماء الزعفران وماء الباقلا .
والثانية : أن عين الماء لا يتنجس ولكن يتعذر استعماله لمجاورة الفاسد لأن النجاسة تتفرق في أجزاء الماء فلا يمكن استعمال جزء من الماء إلا باستعمال جزء من النجاسة واستعمال النجاسة حرام .
وأما الحديث فقد قيل أن بئر بضاعة كان ماؤه جاريا يسقى منه خمس بساتين .
وعندنا الماء الجاري لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير أحد أوصافه .
وقيل : إنما كان يلقي فيه الجيف في الجاهلية فإن في الإسلام نهوا عن مثل هذا وكان برسول الله A من التنزه والتقذر ما يمنعه من التوضئ والشرب من بئر يلقى فيه ذلك في وقته وإنما أشكل عليهم أن ما كان في الجاهلية هل يسقط اعتباره بتطهير البئر في الإسلام .
فأزال أشكالهم بما قال : وإن بزق في الماء أو امتخط لم يفسده لأنه طاهر لاقى طاهرا والدليل على طهارة البزاق " أن النبي A استعان في محو بعض الكتابة به " والدليل على طهارة المخاط " أن النبي A امتخط في صلاته فأخذه بثوبه ودلكه " ثم المخاط والنخامة سواء ولما " رأى رسول الله A " عمار بن ياسر " Bه يغسل ثوبه من النخامة قال ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء " . وإن أدخل جنب أو حائض أو محدث يده في الإناء قبل أن يغسلها وليس عليها قذر لم يفسد الماء استحسانا وكان ينبغي في القياس أن يفسده لأن الحدث زال عن يده بإدخاله في الإناء فيصير الماء مستعملا كالماء الذي غسل به يده .
وجه الإستحسان : ما روي أن المهراس كان يوضع على باب مسجد رسول الله A وفيها ماء فكان أصحاب الصفة رضوان الله عليهم يغترفون منه للوضوء بأيديهم ولأن فيه بلوى وضرورة فقد لا يجد شيئا يغترف به الماء من الإناء العظيم .
صفحة [ 53 ] فيجعل يده لأجل الحاجة كالمغرفة . وإذا ثبت هذا في المحدث فكذلك في الجنب والحائض لما " روي عن " عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : كنت أغتسل أنا ورسول A من إناء واحد فربما بدأت أنا وربما بدأ هو وكنت أقول أبق لي وهو يقول ابقي لي " .
وعن " أبي يوسف " C تعالى في الأمالي قال إذا أدخل الجنب يده أو رجله في البئر لم يفسده وإن أدخل رجله في الإناء أفسده وهذا لمعنى الحاجة ففي البئر الحاجة إلى إدخال الرجل لطلب الدلو فجعل عفوا وفي الإناء الحاجة إلى إدخال اليد فلا تجعل الرجل عفوا فيه وإن أدخل في البئر بعض جسده سوى اليد والرجل أفسده لأنه لا حاجة إليه .
وقال في الأصل إذا اغتسل الطاهر في البئر أفسده وهو بناء على ما تقدم أن المستعمل للماء على قصد التقرب وإن كان طاهرا فالماء بفعله يصير مستعملا فإذا اغتسل في البئر صار الماء مستعملا .
وقوله : أفسده دليل على أن الصحيح من قول " أبي حنيفة " C تعالى أن الماء المستعمل نجس لأن الفاسد من الماء هو النجس .
وإذا انغمس فيه لطلب دلو وليس على بدنه قذر لم يفسد الماء لأنه لم يوجد فيه إزالة الحدث ولا إقامة القربة لما لم يغتسل فيه .
وإن انغمس في جب يطلب دلوا لم يفسد الماء ولم يجزئه من الغسل في قول " أبي يوسف " C تعالى .
وقال " محمد " C تعالى لا يفسد الماء ويجزئه من الغسل .
وعن " أبي يوسف " في الأمالى أن الماء يفسد ولا يجزئه من الغسل .
فمن أصحابنا من قال هذا الخلاف ينبني على أصل وهو أن عند " أبي يوسف " الماء يصير مستعملا بأحد شيئين إما بإزالة الحدث أو بإقامة القربة فلو زال الحدث هنا صار الماء مستعملا فلا يجزئه من الإغتسال فلهذا قال الرجل بحاله والماء بحاله ومن أصل " محمد " أن الماء لا يصير مستعملا إلا بإقامة القربة والإغتسال يتحصل بغير نية فكان الرجل طاهرا والماء غير مستعمل لعدم القصد منه إلى إقامة القربة وهذا ليس بقوي فإن هذا المذهب غير محفوظ عن " محمد " نصا ولكن الصحيح أن إزالة الحدث بالماء مفسد للماء إلا عند الضرورة كما بينا في الجنب يدخل يده في الإناء وفي البئر معنى الضرورة موجود فإنهم إذا جاءوا بغواص لطلب دلوهم لا يمكنهم أن يكلفوه الإغتسال أولا فلهذا لا يصير الماء مستعملا ولكن الرجل يطهر لأن الماء مطهر من غير قصد .
وجه رواية الإملاء أنه كما أدخل بعض أعضائه في البئر صار الماء مستعملا فبعد ذلك سواء اغتسل أو لم يغتسل لم يطهره الماء المستعمل .
قال : وإن وقع في البئر بول ما يؤكل لحمه أفسده في قول " أبي حنيفة " .
صفحة [ 54 ] و " أبي يوسف " رحمهما الله تعالى ولا يفسده في قول " محمد " ويتوضأ منه ما لم يغلب عليه أواصل المسألة أن بول ما يؤكل لحمه نجس عندهما طاهر عند " محمد " C تعالى واحتج " بحديث " أنس " رضي الله تعالى عنه أن قوما من عرنة جاءوا إلى المدينة فأسلموا فاجتووا المدينة فاصفرت ألوانهم وانتفخت بطونهم فأمرهم رسول الله A أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها " الحديث فلو لم يكن طاهرا لما أمرهم بشربه والعادة الظاهرة من أهل الحرمين بيع أبوال الإبل في القوارير من غير نكير دليل ظاهر على طهارتها .
ولهما " قول النبي A استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " ولما " ابتلي " سعد بن معاذ " رضي الله تعالى عنه بضغطة القبر سئل رسول الله A عن سببه فقال : إنه كان لا يستنزه من البول " ولم يرد به بول نفسه فإن من لا يستنزه منه لا تجوز صلاته وإنما أراد أبوال الإبل عند معالجتها .
والمعنى أنه مستحيل من أحد الغذاءين إلى نتن وفساد فكان نجسا كالبعر .
فأما حديث " أنس " رضي الله تعالى عنه فقد ذكر قتادة عن " أنس " رضي الله تعالى عنه أنه رخص لهم في شرب ألبان الإبل ولم يذكر الأبوال وإنما ذكره في حديث حميد عن " أنس " رضي الله تعالى عنهما والحديث حكاية حال فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة سقط الإحتجاج به ثم نقول خصهم رسول الله A بذلك لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه ولا يوجد مثله في زماننا وهو كما خص " الزبير " رضي الله تعالى عنه بلبس الحرير لحكة كانت به وهي مجاز عن القمل فإنه كان كثير القمل أو لأنهم كانوا كفارا في علم الله تعالى ورسوله علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر في النجس .
إذا عرفنا هذه فنقول إذا وقع في الماء فعند " محمد " C هو طاهر فلا يفسد الماء حتى يجوز شربه ولكن إذا غلب على الماء لم يتوضأ به كسائر الطاهرات إذا غلبت على الماء .
( يتبع . . . )