قال : يبدأ في غسل الجنابة بيديه فيغسلهما ثم يغسل فرجه ويتوضأ وضوءه للصلاة غير رجليه ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثم يتنحى فيغسل قدميه هكذا " وت " عائشة " رضي الله تعالى عنها و " أنس " و " ميمونة " رضي الله تعالى عنهما اغتسال رسول الله A " وأكملها " حديث " ميمونة " رضي الله تعالى عنها قالت وضعت غسلا لرسول الله A ليغتسل به من الجنابة فأخذ الإناء بشماله وأكفأه على يمينه فغسل يديه ثلاثا ثم أنقى فرجه بالماء ثم مال بيديه على الحائط فدلكهما بالتراب ثم توضأ وضوءه للصلاة غير غسل القدمين ثم أفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثا ثم تنحى فغسل قدميه " .
وفي ظاهر الرواية يمسح برأسه في الوضوء .
وروى " الحسن " عن " أبي حنيفة " C تعالى أنه لا يمسح لأنه قد لزمه غسل رأسه وفرضية المسح لا تظهر عند وجوب الغسل .
ويبدأ بغسل ما على جسده من النجاسة لأنه إن لم يفعل ذلك ازدادت النجاسة بإسالة الماء .
والبداءة بالوضوء قبل إفاضة الماء ليس بواجب عندنا .
ومن العلماء من قال هو واجب .
ومنهم من فصل بين ما إذا أجنب وهو محدث أو طاهر فقال إذا كان محدثا يلزمه الوضوء لأنه قبل الجنابة قد كان لزمه الوضوء والغسل فلا يسقط بالجنابة .
ولنا قوله تعالى : " وإن كنتم جنبا فاطهروا " المائدة : 6 والأطهار يحصل بغسل جميع البدن ولأن مبنى الأسباب الموجبة للطهارة على التداخل ألا ترى أن الحائض إذا أجنبت يكفيها غسل واحد .
ومن العلماء من أوجب الوضوء بعد إفاضة الماء وقد روي إنكار ذلك عن " علي " و " ابن مسعود " Bهما .
وسئل " ابن عمر " رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقال للسائل قد تعمقت أما يكفيك غسل جميع بدنك .
والأصل فيه " قول رسول الله A أما أنا فأفيض على رأسي ثلاث حثيات من ماء فإذا أنا قد طهرت " والدلك .
صفحة [ 45 ] في الإغتسال ليس بشرط إلا على قول " مالك " يقيسه بغسل النجاسة العينية .
ولنا أن الواجب بالنص الإطهار والدلك يكون زيادة عليه والدلك لمقصود إزالة عين من البدن وليس على بدن الجنب عين يزيلها بالإغتسال فلا حاجة إلى الدلك وإنما يؤخر غسل القدمين عن الوضوء لأن رجليه في مستنقع الماء المستعمل حتى لو كان على لوح أو حجر لا يؤخر غسل القدمين . فالحاصل أن إمرار الماء على جميع البدن فرض " لقوله A تحت كل شعرة جنابة ألا فبلوا الشعر وانقوا البشرة " وبإفاضة الماء ثلاثا يتضاعف الثواب وبتقديم الوضوء تتم السنة وهو نظير لمراتب الوضوء على ما بينا .
وأدنى ما يكفي في غسل الجنابة من الماء صاع وفي الوضوء مد " لحديث " جابر " رضي الله تعالى عنه قال كان النبي A يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع فقيل له إن لم يكفنا فغضب وقال لقد كفى من هو خير منكم وأكثر شعرا " وهذ التقدير ليس بتقدير لازم فإنه لو أسبغ الوضوء بدون المد أجزأه " لحديث " عبدالرحمن بن زيد " Bه أن النبي A توضأ بثلثي مد وإن لم يكفه المد في الوضوء يزيد " إلا أنه لا يسرف في صب الماء " لحديث " سعيد " Bه حين مر به رسول الله A وهو يتوضأ ويصب الماء صبا فاحشا فقال إياك والسرف قال أو في الوضوء سرف ؟ قال نعم ولو كنت على ضفة نهر جار " .
ثم التقدير بالصاع لماء الإفاضة فإذا أراد تقديم الوضوء زاد مدا له والتقدير بالمد في الوضوء إذا كان لا يحتاج إلى الإستنجاء فإن احتاج إلى ذلك استنجى برطل وتوضأ بمد وإن كان لابسا للخف وهو لا يحتاج إلى الإستنجاء يكفيه رطل كل هذا غير لازم لاختلاف طباع الناس وأحوالهم وكذلك غسل المرأة من الحيض فالواجب فيهما الإطهار . قال الله تعالى : " ولا تقربوهن حتى يطهرن " البقرة : 222 وإن لم تنقض رأسها إلا أن الماء بلغ أصول شعرها أجزأها " لحديث " أم سلمة " رضي الله تعالى عنها فإنها قالت يا رسول الله A إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه إذا اغتسلت ؟ فقال لا يكفيك أن تفيضى الماء على رأسك وسائر جسدك ثلاثا " .
وبلغ " عائشة " رضي الله تعالى عنها أن " ابن عمرو " رضي الله تعالى عنه كان يأمر المرأة بنقض رأسها في الإغتسال فقالت لقد كلفهن شططا إلا أمرهن بحجز نواصيهن .
وقال : إنما شرط تبليغ الماء أصول الشعر لحديث " حذيفة " رضي الله تعالى عنه فإنه كان يجلس إلى جنب امرأته إذا اغتسلت ويقول يا هذه أبلغي الماء أصول شعرك ومتون رأسك .
واختلف مشايخنا في وجوب بل الذوائب .
فقال بعضهم تبل .
صفحة [ 46 ] ذوائبها ثلاثا مع كل بلة عصرة .
والأصح أن ذلك ليس بواجب لما فيه من الحرج .
وظاهر " قوله E ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة " يشهد للقول الأول .
جنب اغتسل فانتضح من غسله في إنائه لم يفسد عليه الماء .
لقول " ابن عباس " رضي الله تعالى عنهما ومن يملك سيل الماء .
ولما سئل " الحسن " عن هذا فقال : إنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا أشار إلى أن ما لا يستطاع الإمتناع منه يكون عفوا فإن كان ذلك الماء يسيل في إنائه لم يجز الإغتسال بذلك الماء يريد به أن الكثير يمكن التحرز عنه فلا يجعل عفوا .
والحد الفاصل بين القليل والكثير إن كان يستبين مواقع القطر في الإناء يكون كثيرا . قال : ولا يجوز التوضؤ بماء مستعمل في وضوء أو في غسل شيء من البدن وقال " مالك " C يجوز لأن بدن الجنب والمحدث طاهر حتى لو عرق في ثوبه أو لبس ثوبا مبلولا لم يفسد الثوب واستعمال الماء في محل طاهر لا يغير صفته كما لو غسل به إناء طاهر .
ولنا " قوله E لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسلن فيه من جنابة " فالتسوية بينهما تدل على أن الإغتسال يفسد الماء وقال " علي " و " ابن عباس " رضي الله تعالى عنهما في مسافر معه ماء يحتاج إليه لشربه أنه يتيمم ويمسك الماء لعطشه فلو لم يتغير الماء بالإستعمال لأمر بالتوضيء في إناء ثم بالإمساك للشرب والعادة جرت بصب الغسالة في السفر والحضر مع عزة الماء في السفر فذلك دليل ظاهر على تغير الماء بالإستعمال .
ثم اختلفوا في صفة الماء المستعمل فقال " أبو يوسف " C هو نجس إلا أن التقدير فيه بالكثير الفاحش وهو روايته عن " أبي حنيفة " Bه .
وروى " الحسن " عن " أبي حنيفة " أنه نجس لا يعفي عنه أكثر من قدر الدرهم .
وقال " محمد " C تعالى هو طاهر غير طهور وهو رواية " زفر " و " عافية القاضي " عن " أبي حنيفة " C تعالى .
وجه قول " أبي يوسف " أن الحدث الحكمى أغلظ من النجاسة العينية ثم إزالة النجاسة العينية بالماء تنجسه فإزالة الحدث الحكمي به أولى ولهذا قال في رواية " الحسن " C التقدير فيه بالدرهم كما في النجاسة العينية ولكنه بعيد فإن للبلوى تأثيرا في تخفيف النجاسة ومعنى البلوى في الماء المستعمل ظاهر فإن صون الثياب عنه غير ممكن وهو مختلف في نجاسته فلذلك خف حكمه .
وجه قول " محمد " C ما " روي أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتبادرون إلى وضوء رسول الله A فيمسحون به أعضاءهم ومن لم يصبه أخذ بللا من كف صاحبه والتبرك بالنجس لا يكون " .
والمعنى .
صفحة [ 47 ] إن أعضاء المحدث طاهرة ولكنه ممنوع من إقامة القربة فإذا استعمل الماء تحول ذلك المنع إلى الماء فصارت صفة الماء كصفة العضو قبل الإستعمال فيكون طاهرا غير طهور بخلاف ما إذا أزال النجاسة بالماء فالنجاسة هناك تتحول إلى الماء .
وروى " المعلى " عن " أبي يوسف " C أن المتوضئ بالماء إن كان محدثا يصير الماء نجسا وإن كان طاهرا لا يصير الماء نجسا ولكن باستعمال الطاهر يصير الماء مستعملا إلا على قول " زفر " و " الشافعي " رحمهما الله تعالى فإنهما يقولون إذا لم يحصل إزالة حدث أو نجاسة بالماء لا يصير الماء مستعملا كما لو غسل به ثوبا طاهرا .
ولنا أن إقامة القربة حصل بهذا الإستعمال " قال E الوضوء على الوضوء نور على نور يوم القيامة " فنزل ذلك منزلة إزالة الحدث به بخلاف غسل الثوب والإناء الطاهر فإنه ليس فيه إقامة القربة .
وذكر الطحاوي C أنه إذا تبرد بالماء صار الماء مستعملا .
وهذا غلط منه إلا أن يكون تأويله إن كان محدثا فيزول الحدث باستعمال الماء وإن كان قصده التبرد فحينئذ يصير مستعملا . قال : وسؤر الآدمي طاهر لما " روي أن النبي A أتي بعس من لبن فشرب بعضه وناول الباقي أعرابيا كان على يمينه فشربه ثم ناوله " أبا بكر " Bه فشربه " ولأن عين الآدمي طاهر وإنما لا يؤكل لكرامته لا لنجاسته وسؤره متحلب من عينه وعينه طاهر فكذلك سؤره .
وكذلك سؤر الحائض لما " روي أن " عائشة " Bها شربت من إناء في حال حيضها فوضع رسول الله A فمه على موضع فيها وشرب .
ولما قال لها ناوليني الخمرة فقالت إني حائض فقال : حيضتك ليست في يدك . " إذا ثبت هذا في اليد فكذلك في الفم .
وكذلك سؤر الجنب لما " روي أن " حذيفة " Bه استقبل رسول الله A فأراد أن يصافحه فحبس يده وقال إني جنب فقال E إن المؤمن لا ينجس " وكذلك سؤر المشرك عندنا وبعض أصحاب الظواهر يكرهون ذلك لقوله تعالى : " إنما المشركون نجس " التوبة : 28 .
ولكنا نقول المراد منه خبث الإعتقاد بدليل ما " روي أن النبي A أنزل وفد ثقيف في المسجد وكانوا مشركين " ولو كان عين المشرك نجسا لما أنزلهم في المسجد .
وكذلك سؤر ما يؤكل لحمه من الدواب والطيور .
صفحة [ 48 ] لما " روي أن النبي A توضأ بسؤر بعير أو شاة وقال : ما يؤكل لحمه فسؤره طاهر " ما خلا الدجاجة المخلاة فإن سؤرها مكروه لأنها تفتش الجيف والأقذار فمنقارها لا يخلو عن النجاسة ولكن مع هذا لو توضأ به جاز لأنه على يقين من طهارة منقارها وفي شك من النجاسة والشك لا يعارض اليقين فإن كانت الدجاجة محبوسة فسؤرها طاهر لأن منقارها عظم جاف ليس بنجس ولأن عينها طاهر مأكول فكذلك ما يتحلب منه .
والذي روي عن " ابن عمر " Bهما أنه كان يقول بحرمة الدجاجة شاذ غير معمول به فقد صح في " الحديث أن النبي A كان يأكل لحم الدجاجة " .
وصفة المحبوسة أن لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها فإنه إذا كان يصل ربما تفتش ما يكون منها فهي والمخلاة سواء والذي بينا في سؤر هؤلاء فكذلك في اللعاب والعرق إذا أصاب لعاب ما يؤكل لحمه أو عرقه ثوب إنسان تجوز الصلاة فيه لأن ذلك متحلب من عينه فكان ظاهرا كلبنه .
قال : ولا يصح التطهر بسؤر ما لا يؤكل لحمه من الدواب والسباع ولعابه يفسد الماء وهنا مسائل : .
إحداها : سؤر الخنزير فإنه نجس بالإتفاق لأن عينه نجس قال الله تعالى : " أو لحم خنزير فإنه رجس " الأنعام : 145 والرجس والنجس سواء .
والثانية سؤر الكلب فإنه نجس إلا على قول " مالك " C بناء على مذهبه في تناول لحمه . وكان يقول الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب كان تعبدا لا للنجاسة كما أمر المحدث بغسل أعضائه تعبدا أو كان ذلك عقوبة عليهم والكلاب فيهم كانت تؤذي الغرباء فنهوا عن اقتنائها وأمروا بغسل الإناء من ولوغها عقوبة عليهم .
ولنا " حديث " عطاء بن ميناء " عن " أبي هريرة " رضي الله تعالى عنه أن النبي A قال : طهور إناء إحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله ثلاثا " وفي بعض الروايات قال سبعا وتعفر الثامنة بالتراب . فقوله طهور إناء أحدكم دليل على تنجس الإناء بولوغه وأن الأمر بالغسل للتنجيس لا للتعبد فإن الجمادات لا يلحقها حكم العبادات والزيادة في العدد والتعفير بالتراب دليل على غلظ النجاسة .
والصحيح من المذهب عندنا أن عين الكلب نجس وإليه يشير " محمد " C في الكتاب في قوله وليس الميت بأنجس من الكلب والخنزير .
وبعض مشايخنا يقول عين الكلب ليس بنجس ويستدلون عليه بطهارة جلده بالدباغ وسنقرره من بعد .
وأما سؤر ما لا يؤكل لحمه من السباع كالأسد والفهد والنمر عندنا نجس . وقال " الشافعي " رضي الله تعالى عنه طاهر " لحديث " ابن عمر " رضي الله تعالى عنهما أن .
صفحة [ 49 ] النبي A سئل فقيل أنتوضأ بما أفضلت الحمر فقال : نعم وبما أفضلت السباع كلها " وفي " حديث " جابر " Bه أن النبي A سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة وما ينوبها من السباع فقال : لها ما ولغت في بطونها وما بقي فهو لنا شراب وطهور " ولأن عينها طاهرة بدليل جواز الإنتفاع بها في حالة الإختيار وجواز بيعها فيكون سؤرها طاهرا كسؤر الهرة ولنا ما روي أن " ابن عمر " و " عمرو بن العاص " Bهما وردا حوضا فقال " عمرو بن العاص " يا صاحب الحوض أترد السباع ماءكم هذا فقال " ابن عمر " رضي الله تعالى عنه يا صاحب الحوض لا تخبرنا . فلولا أنه كان إذا أخبر بورود السباع يتعذر عليهم استعماله لما نهاه عن ذلك . والمعنى فيه أن عين هذه الحيوانات مستخبث غير طيب فسؤرها كذلك كالكلب والخنزير وهذا لأن سؤرها يتحلب من عينها كلبنها ثم لبنها حرام غير مأكول فكذلك سؤرها وهو القياس في الهرة أيضا لكن تركنا ذلك بالنص وهو " قوله A في الهرة ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات " أشار إلى العلة وهي كثرة البلوى لقربها من الناس وهذا لا يوجد في السباع فإنها تكون في المفاوز لاتقرب من الناس اختيارا .
وتأويل الحديثين : أنه كان ذلك في الإبتداء قبل تحريم لحم السباع . أو السؤال وقع عن الحياض الكبار وبه نقول أن مثلها لا ينجس بورود السباع .
( يتبع . . . )