ومثل هذا الانتقال يكون إيذانا بانتهاء الكلام على أغراض السورة على تفننها فقد كان التنقل فيها من الغرض إلى مشاكله وقد وقع الانتقال الآن إلى غرض عام : وهو الاعتبار بخلق السماوات والأرض وحال المؤمنين في الاتعاض بذلك وهذا النحو في الانتقال يعرض للخطيب ونحوه من أغراضه عقب إيفائها حقها إلى غرض آخر إيذانا بأنه أشرف على الانتهاء وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنها أهم أغراض الرسالة كما وقع في ختام سورة البقرة .
وحرف ( إن ) للاهتمام بالخبر .
والمراد ب ( خلق السماوات والأرض ) هنا : إما آثار خلقها وهو النظام الذي جعل فيها وإما ن يراد بالخلق المخلوقات كقوله تعالى ( هذا خلق الله ) . و ( أولو الألباب ) أهل العقول الكاملة لأن لب الشيء خلاصته . وقد قدمنا في سورة البقرة بيان ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات عند قوله تعالى ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك ( الخ .
و ( يذكرون الله ) إما من الذكر اللساني وإما من الذكر القلبي وهو التفكير وأراد بقوله ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) عموم الأحوال كقولهم : ضربه الظهر والبطن وقولهم : اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب على أن هذه الأحوال هي متعارف أحوال البشر في السلامة أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم . وقيل : أراد أحوال المصلين : من قادر وعاجز وشديد العجز . وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى .
وقوله ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكير وإعادته لأجل اختلاف المتفكر فيه أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله ( يذكرون ) ذكر اللسان . والتفكير عبادة عظيمة . وروى ابن القاسم عن مالك C في جامع العتيبة قال : يل لأم الدرداء : ما كان شأن أبي الدرداء ؟ قالت : كان أكثر شأنه التفكير قيل له : أترى التفكير عملا من الأعمال ؟ قال : نعم هو اليقين .
( والخلق ) بمعنى كيفية أثر الخلق أو المخلوقات التي في السماء والأرض فالإضافة إنا على معنى اللام وإما على معنى ( في ) .
وقوله ( ربنا ما خلقت هذا باطلا ) وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قول : أي يتفكرون قائلين : ربنا إلخ لأن هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء .
فإن قلت : كيف تواطأ الجميع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكير مع اختلاف تفكيرهم وتأثرهم ومقاصدهم . قلت : يحتمل أنهم تلقوه من رسول الله A فكانوا يلازمونه عند التفكر وعقبه ويحتمل أن الله ألهمهم إياه فصار هجرانهم مثل قوله تعالى ( وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا ) الآيات . ويدل لذلك حديث ابن عباس في الصحيح قال : " بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله A فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران " إلى آخر الحديث .
A E ويجوز عندي أن يكون قوله ( ربنا ما خلقت هذا باطلا ) حكاية لتفكرهم في نفوسهم فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكرين لاستوائهم في صحة التفكر لأنه تنقل من معنى إلى متفرع عنه وقد استوى أولو الألباب المتحدث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني فأول التفكير أنتهج لهم أن المخلوقات لم تخلق باطلا ثم تفرغ عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار لأنهم رأوا في المخلوقات طائعا وعاصيا فعلموا أن وراء هذا العالم ثوابا وعقابا فاستعاذوا أن يكونوا ممن حقت عليه كلمة العذاب . وتوسلوا إلى ذلك بأنهم بذلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا منادي الإيمان وهو الرسول E وسالوا غفران الذنوب وتكفير السيئات والموت على البر إلى آخره... فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكرات وربما زاد عليها ولما نزلت هذه الآية وشاعت بينهم اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعا بين المسلمين بمعانيه وألفاظه .
ومعنى ( ما خلقت هذا باطلا ) أي خلقا باطلا أو ما خلقت هذا في حال أنه باطل فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات كقوله ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينها لاعبين ) فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أن هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيرا