وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم ( فقنا عذاب النار ) لأنه ترتب على العلم بأن هذا الخلق حق ومن جملة الحق أن لا يستوي الصالح والطالح والمطيع العاصي فعلموا أن لكل مستقرا مناسبا فسألوا أن يكونا من أهل الخير المجنبين عذاب النار .
وقولهم ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار كما تؤذن به ( إن ) المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا . والخزي مصدر خزى بمعنى ذل وهان بمرأى من الناس وأخزاه أذله على رؤوس الأشهاد ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأن دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجبة ذلك الطلب بقولهم ( عذاب النار ) أن النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذب وإهانة علنية وذلك معنى مستقر في نفوس الناس ومنه قول إبراهيم عليه السلام ( ولا تخزني يوم يبعثون ) وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء أي من يدخل النار فقد أخزيته . ولخزي لا تطيقه الأنفس فلا حاجة إلى تأويل تأولوه على معنى فقد أخزيته خزيا عظيما . ونظرة صاحب الكشاف بقول رعاة العرب " من أرك مرعى الصمان فقد أدرك " أي فقد أدرك مرعى لئلا يكون معنى الجزاء ضروري الحصول من الشرط فلا تظهر فائدة لتعليق بالشرط لأنه يخلي الكلام عن الفائدة حينئذ . وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) .
ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم فعملوا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيدا للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا ( وما للظالمين من أنصار ) أي لأهل النار أنصار تدفع عنهم الخزي .
وقوله تعالى ( ربنا إننا سمعنا مناديا ) أرادوا به النبي محمدا A . والمنادي الذي يرفع صوته بالكلام . والنداء : رفع الصوت بالكلام رفعا قويا لأجل الإسماع وهو مشتق من النداء بكسر النون وبضمها وهو الصوت المرتفع . يقال : هو أندى صوتا أي أرفع فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به منه سمي دعاء الشخص شخصا ليقبل إليه نداء لأن من شأنه أن يرفع الصوت به ؛ ولذلك جعلوا له حروفا ممدودة مثل ( يا ) و ( آ ) و ( أيا ) و ( هيا ) . ومنه سمي الأذان نداء وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت ويطلق النداء على طلب الإقبال بالذات أو بالفهم بحروف معلومة كقوله تعالى ( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ) ويجوز أن يكون هو المراد هنا لأن النبي يدعو الناس بنحو : يا أيها الناس ويا بني فلان آوي أمة محمد ونحو ذلك . وسيأتي تفسير معاني النداء عند قوله تعالى ( ونودوا أن تلكم الجنة ) في سورة الأعراف . واللام لام العلة أي لأجل الإيمان بالله .
و ( أن ) في ( أن آمنوا ) تفسيرية لما في فعل ( ينادي ) من معنى القول دون حروفه .
A E وجاءوا بفاء التعقيب في ( فآمنا ) : للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة وقد توسموا أن تكون مبادرتهم لإجابة لما بذلوا كل ما في وسعهم من اتباع الدين كانوا حقيقين بترجي المغفرة .
والغفر والتكفير متقاربان في المادة المشتقين منها إلا أنه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب والتكفير في تعويض الذنب بعوض فكأن العوض كفر الذنب أي ستره ومنه سميت كفارة الإفطار في رمضان . وكفارة الحنث في اليمين إلا أنهم أرادوا بالذنوب ما كان قاصرا على ذواتهم ولذلك طلبوا مغفرته وأرادوا من السيئات ما كان فيه حق الناس فلذلك سألوا تكفيرها عنهم . وقيل هو مجرد تأكيد وهو حسن وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيئات الصغائر لأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بناء على الذنب أدل على الإثم من السيئة .
وسألوا الوفاة مع الأبرار أي أن يموتوا على حالة البر بأن يلازمهم البر إلى الممات وأن لا يرتدوا على أدبارهم فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار . فالمعية هنا معية اعتبارية وهي المشاركة في الحالة الكاملة والمعية مع الأبرار أبلغ في الاتصاف بالدلالة لأنه بر يرجى دوامه وتزايده لكون صاحبه ضمن جمع يزيدونه إقبالا على البر بلسان المقال ولسان الحال