وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيبا . وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريبا .
وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يتوجون مناجاتهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق . ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد . فسورة الفاتحة بما تقرر منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي .
وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة : القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة . الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيئ السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثفته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم . وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن . الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها . الرابع أن تفتتح بحمد الله .
إن القرآن أنزل هدى للناس وتبيانا للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يهيأ المخاطبون بها إلى تلقيها ويعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة . وعن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة . فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من الاتسام بميسم الفضيلة . والتخلية عن السفاسف الرذيلة .
فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله ( ملك يوم الدين ) وعن الإشراك بما تضمنه ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وعن المكابرة والعناد بما تضمنه ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم ووصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشبه وغلط ومن اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما وعن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دركة أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط وذلك بما تضمنه قوله ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) كما أجملناه قريبا . ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم .
ولما لقن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جريا على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل . قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان : .
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء .
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضه الثناء