فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مجيد فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذا من حديث أبي هريرة عن النبي A " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع " . وقد لقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد . وكانت سورة الفاتحة لذلك منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة . ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعون للأفهام وأدعى لوعيها .
A E والحمد هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة . وقد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده . فالثناء الذكر بخير مطلقا وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقا ولو بشر ونسبا إلى ابن القطاع وغره في ذلك ما ورد في الحديث وهو قوله A " من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار " وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلما في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدع فسمى ذكرهم بالشر ثناء تنبيها على ذلك . وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو النثاء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما قيل . وأما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري وغيره . وقال صاحب الكشاف الحمد والمدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحو جبذ وجذب وإن ذلك اصطلاح له في الكشاف في معنى أخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه المحققون من شراح الكشاف أنه أراد من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه ؛ ولأنه صريح قوله في الفائق " الحمد هو المدح والوصف بالجميل " ولأنه ذكر الذم نقيضا للحمد إذ قال في الكشاف " والحمد نقيضه الذم مع شيوع كون الذم نقيضا للمدح وعرف علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير : .
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يكن حمده ذما عليه ويندم لأن كلام العلماء مبني على الضبط والتدقيق .
ثم اختلف في مراد صاحب الكشاف من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري وعلى الأول حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعدالدين واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان ) إذ قال " فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرض وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها " ا ه . وعلى المحمل الثاني وهو أن يكون قصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في حواشي التفسير فرضا أو نقلا لا ترجيحا بناء على أنه ظاهر كلامه في الكشاف والفائق إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل وجعلهما مع ذلك مترادفين .
A E