وكذاك كان أبوك يؤثر بالهنى ... ويظل في لفظ الندى يتردد وقد يطلق الاسم وما في معناه كناية عن وجود المسمى ومنه قوله تعالى ( وجعلوا لله شركاء قل سموهم ) والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضع أسماء لهم . فهذه إطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة ذكرتها هنا توضيحا ليكون نظركم فيها فسيحا فشدوا بها يدا . ولا تتبعوا طرائق قددا وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ كتاب سليمان فهي من المحكي فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون .
والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي بتفسير قوله تعالى ( الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ) .
ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمن الرحيم قال البيضاوي إن المسمى إذا قصد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر علم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن .
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده : إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات يعني فهو رد عليهم بتغليط وتبليد . وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك إذ الناقل أمين فهي نكتة لطيفة .
وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه ( يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ) وقال ( سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ) ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم . وحكى عنه قوله ( وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ) . وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا على وأتوني مسلمين ) . والمظنون أن سليمان افتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته وان الله أحيا هذه السنة في الإسلام في جملة ما أحي له من الحنيفية كما قال تعالى ( ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) .
( الحمد لله ) الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسبق للمخاطب به خطاب من نوعه أن يستأنس له قبل إلقاء المقصود وأن يهيأ لتلقيه وأن يشوق إلى سماع ذلك وتراض نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنه أن يكون عائقا عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعظات والنذر ولا تشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان وتخامر رشدها نزغات الشيطان فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبي A كما تقدم آنفا نبه الله تعالى قراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله ( إياك نعبد ) إلى آخر السورة . فإنها تضمنت أصولا عظيمة : أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه ( إياك نعبد ) . الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبري من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه ( وإياك نستعين ) . الثالث الرغبة في التحلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه ( اهدنا الصراط المستقيم ) . الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه ( صراط الذين أنعمت عليهم ) . الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه ( غير المغضوب عليهم ) . السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه ( ولا الضالين ) .
A E