وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي وهو ظاهر وسلامة الضعيف أيضا لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع سئم ذلك واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة . وإنما كان الحاصل هو الفساد ولولا الدفاع دون الصلاح لأن الفساد كثيرا ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة لقصيرة الزمن لأن في كثير من النفوس أو أكثرها الميل إلى مفاسد كثيرة ولأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها بخلاف النفوس الصالحة فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات فلا جرم لولا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين لأسرع ذلك في فساد حالهم ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت .
وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب ؛ فبالحرب الحائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق والإنحاء على الظالمين وهزم الكافرين .
ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضا يصد المفسد عن محاولة الفساد ونفس شعور المفسد يتأهب غيره لدفاعه بصده عن اقتحام مفاسد جمة .
ومعنى فساد الأرض : إما فساد الجامعة البشرية . كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس أي لفسد أهل الأرض وإما فساد جميع ما يقبل الفساد فيكون في الآية احتباك والتقدير : ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض : أي من على الأرض ولفسد الناس .
والآية مسوقة مساق الامتنان فلذلك قال تعالى ( لفسدت الأرض ) لأنا لا نحب فساد الأرض : إذ في فسادها " بمعنى فساد ما عليها " اختلال نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا ولذلك عقبه بقوله ( ولكن الله ذو فضل على العالمين ) فهو استدراك مما تضمنته ( لولا ) من تقدير انتفاء الدفاع ؛ لأن أصل ( لولا ) ( لو ) مع ( لا ) النافية : أي لو كان انتفاء الدفاع موجودا لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب ( لولا ) من ( لو ) و ( لا ) : إذ لا يتم الاستدراك على قوله ( لفسدت الأرض ) لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع إن قلنا ( لولا ) حرف امتناع لوجود .
وعلق الفضل بالعالمين كلهم لأن هذه المنة لا تختص .
( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين [ 252 ] ) الإشارة إلى ما تضمنته القصص الماضية وما فيها من العبر ولكن الحكم العالية في قوله ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ) وقد نزلها منزلة المشاهد لوضوحها وبيانها وجعلت آيات لأنها دلائل على عظم تصرف الله تعالى وعلى سعة علمه .
وقوله ( وإنك لمن المرسلين ) خطاب للرسول A : تنويها بشأنه وتثبيتا لقلبه وتعريضا بالمنكرين رسالته . وتأكيد الجملة بإن للاهتمام بهذا الخبر وجيء بقوله ( من المرسلين ) دون أن يقول : ( وإنك لرسول الله ) للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدعا من الرسل وأنه أرسله كما أرسل من قبله وليس في حالة ما ينقص عن أحوالهم .
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة آل عمران .
سميت هذه السورة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة : سورة آل عمران ففي صحيح مسلم عن أبي أمامة : قال سمعت رسول الله يقول " أقرأوا الزهراوين : البقرة وآل عمران " وفيه عن النواس بن سمعان : قال سمعت النبي يقول " يؤتى بالقرآن يوم القيامة تقدمه سورة البقرة وآل عمران " وروى الدارمي في مسنده : أن عثمان بن عفان قال : " من قرأ سورة آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة " وسماها ابن عباس في حديثه في الصحيح قال : " بت في بيت رسول الله فنام رسول الله حتى إذا كان نصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله فقرأ الآيات من آخر سورة آل عمران " . ووجه تسميتها بسورة آل عمران أنها ذكرت فيها فضائل آل عمران وهو عمران بن ماتان أبو مريم وآله هم زوجه حنة وأختها زوجة زكريا النبي وزكريا كافل مريم إذ كان أبوها عمران توفي وتركها حملا فكفلها زوج خالتها .
ووصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزهراء في حديث أبي أمامة المتقدم