وهو ذب عن مصلحة الدافع ومعنى الآية : أنه لولا وقوع دفع بعض الناس بعضا آخر بتكوين الله وإبداعه قوة الدفع وبواعثه غي الدافع لفسدت الأرض : أي من على الأرض واختل نظام ما عليها : ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس وأنواع وأصناف خلقها قابلة للاضمحلال وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده ولذلك نجد قانون الخلفية منبثا في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلا وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافا عن الأفراد عند اضمحلالها وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان والبذر في النبت والنضح في المعادن والتولد في العناصر الكيماوية . ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجدها قد أراد بقاء الأنواع كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة لاختلال أو انعدام صلاحيتها ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها وقد تقدم لنا تفسير قوله ( وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) . ثم إن الله تعالى كما أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها بدون تأمل أو بتأمل إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها كانسياق الوليد لالتهام الثدي وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي ثم تتوسع هذه الإدراكات فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد . ويسمى ذلك بالقوة الشاهية . وأودع أيضا في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها ودفع العوادي عنها عن غير نصيرة كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يتوقع منه الضر ومن طلب الكن وأتخاذ السلاح ومقاومة العدو عند توقع الأخطار حتى في الحيوان . وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمربد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها وقد عوض الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقل والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضررا وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به وهو المعبر عنه بالاستعداد . ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على بقاء الآخر . فهذا ناموس عام . وجعل الإنسان بما أودعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع . وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص وبما في أفراد نوعه من الفوائد .
فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره ولولا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع لاشتد طمع القوى في إهلاك الضعيف ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره فابتزها منه ولأفرطت أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها مما هو له ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضا . وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره وكل قوي على ضعيفه فيهلك القوي الضعيف ويهلك الأقوى القوي وتذهب الأفراد تباعا والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلا أقوى الأفراد من أقوى الأنواع وذلك شيء قليل حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه وكان يجدها في غيره : من أفراد نوعه كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض أو من أنواع أخر كحاجة الإنسان إلى البقرة فيذهب هدرا .
ولما كان نوع الإنساع هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي خصته الآية بالكلام فقالت : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع ؛ لأن الإنسان يذب عنها في بقائها من منافع له .
A E