وتلك مثل مجامعهم عند الملوك وفي مقامات المفاخرات وهي نادرة الوقوع قليلة السيران وحيدة الغرض ؛ إذ لا تعدو المفاخر والمبالغات فلا يحفظ منها إلا ما فيه نكتة أو ملحة أو فقرات مسجوعة مثل خطاب امرئ القيس مع شيوخ بني أسد .
A E فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غض جديد صالح لكل العقول متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها معط لكل فن ما يليق به من المعاني والألفاظ واللهجة : فتضمن المحاورة والخطابة والجدل والأمثال " أي الكلم الجوامع " والقصص والتوصيف والرواية .
وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها في تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة في الأسماع وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير في القبائل مع كون مادته ولحمته هي الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه وذلك تأثير روحاني وليس بلفظي ولا معنوي .
وقد رأيت المحسنات في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب وخاصة الجناس كقوله ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) .
والطباق كقوله ( كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير ) وقد ألف ابن أبي الإصبع كتابا في بديع القرآن . وصار لمجيئه نثرا أدبا جديدا غضا ومتناولا لكل الطبقات .
وكان لبلاغته وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه بالسحر وبالشعر " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون " .
مبتكرات القرآن .
هذا وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب .
فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة وقد نبه عليه العلماء المتقدمون . وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوب الخطابة بعض المخالفة بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته وذلك من وجوه إعجازه إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام .
وأعد من ذلك أنه جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية فلم يأت بعموميات شأنها التخصيص غير مخصوصة ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال القليلة والأفراد النادرة . مثاله قوله تعالى ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون ) وقوله ( ومن أضل ممن اتبع هواه هدى من الله ) فبين أن الهوى قد يكون محمودا إذا كان هوى المرء عن هدى وقوله ( إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا ) .
ومنها أن جاء على أسلوب التقسيم والتسوير وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب والتصنيف وقد أومأ إليها في الكشاف إيماء .
ومنها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في الآخرة وفي تمثيل الأحوال وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب إذ كان فن القصص مفقودا من أدب العربية إلا نادرا كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحية التي قتلت الرجل وعاهدت أخاه وغدر بها فلما جاء القرآن بالأوصاف بهت به العرب كما في سورة الأعراف من وصف أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ) إلخ وفي سورة الحديد ( فضرب بينهم بسور ) الآيات .
ومما يتبع هذا أن القرآن يتصرف في حكاية أقوال المحكي عنهم فيصوغها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا على الصيغة التي صدرت فيها فهو إذا حكى أقوالا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة تبلغ حد الإعجاز بالعربية وإذا حكى أقوالا عربية تصرف فيها تصرفا يناسب أسلوب المعبر مثل ما يحكيه عن العرب فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم بل يحكي حاصل كلامهم وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية .
ومن هذا القبيل حكاية الأسماء الواقعة في القصص فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن مواقعها في الكلام من الفصاحة مثل تغيير شاول إلى طالوت وتغيير اسم تارح أبي إبراهيم إلى آزر