فإن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني فإن السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني وان لم يكنه عنه مثاله قوله تعالى ( هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى ) فإن الوقف على قوله ( موسى ) يحدث في نفس السامع ترقبا لما يبين حديث موسى فإذا جاء بعده ( إذ ناداه ربه ) الخ حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة موسى من قرينة من قرائن الكلام لأنه على سجعة الألف مثل قوله ( طوى طغى تزكى ) الخ .
وقد بينت عند تفسير قوله تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ) أنك إن وقفت على كلمة ( ريب ) كان من قبيل إيجاز الحذف أي لا ريب في أنه الكتاب فكانت جملة ( فيه هدى للمتقين ) ابتداء كلام وكان مفاد حرف " في " استنزال طائر المعاندين أي ان لم يكن كله هدى فإن فيه هدى . وإن وصلت ( فيه ) كان من قبيل الإطناب وكان ما بعده مفيدا أن هذا الكتاب كله هدى .
ومن أساليب القرآن العدول عن تكرير اللفظ والصيغة فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير من تهويل ونحوه ومما عدل فيه عن تكرير الصيغة قوله تعالى ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) فجاء بلفظ قلوب جمعا مع أن المخاطب امرأتان فلم يقل قلبا كما تجنبا لتعدد صيغة المثنى .
ومن ذلك قوله تعالى ( وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ) فروعي معنى ما الموصولة مرة فأتى بضمير جماعة المؤنث وهو خالصة وروعي لفظ ما الموصولة فأتي بمحرم مذكرا مفردا .
إن المقام قد يقتضي شيئين متساويين أو أشياء متساوية فيكون البليغ مخيرا في أحدهما وله ذكرهما تفننا وقد وقع في القرآن كثير من هذا : من ذلك قوله ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا ) بواو العطف في سورة البقرة وقوله في الأعراف ( فكلا ) بفاء التفريع وكلاهما مطابق للمقام فإنه أمر ثان وهو أمر مفرع على الإسكان فيجوز أن يحكي بكل من الاعتبارين ومنه قوله في سورة البقرة ( وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية وكلوا منها ) وفي سورة الأعراف ( وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية فكلوا منها ) فعبر مرة ب ( ادخلوا ) ومرة ب ( اسكنوا ) وعبر مرة بواو العطف ومرة بفاء التفريع .
وهذا التخالف بين الشيئين يقصد لتلوين المعاني المعادة حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى وتغاير أسلوب فلا تكون إعادتها مجرد تذكير .
قال في الكشاف في تفسير قوله تعالى ( إن ربي يعلم القول في السماء والأرض ) في سورة الأنبياء : " ليس بواجب ان يجاء بالآكد في كل موضع ولكن يجاء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجاء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتن الكلام افتنانا " .
ومنها اتساع أدب اللغة في القرآن . لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر فهو الذي يحفظ وينقل ويسير في الآفاق وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني وكان غيره من الكلام عسير العلوق بالحوافظ وكان الشعر خاصا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل وهي الملح والمديح . ولهم من غير الشعر الخطب والأمثال والمحاورات : فأما الخطب فكانت تنسى بانتهاء المقامات المقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء وإنما يبقي في السامعين التأثر بمقاصدها زمانا قليلا للعمل به فتأثر المخاطبين بها جزئي ووقتي .
وأما الأمثال فهي ألفاظ قصيرة يقصد منها الاتعاظ بمواردها وأما المحاورات فمنها عادية لا يهتمون بما تتضمنه إذ ليست من الأهمية بحيث تنقل وتسير ومنها محاورات نواد وهي المحاورات الواقعة في المجامع العامة والمنتديات وهي التي أشار إليها لبيد بقوله : .
وكثيرة غرباؤها مجهولة ... ترجى نوافلها ويخشى ذامها .
غلب تشذر بالذحول كأنها ... جن البدي رواسيا أقدامها .
أنكرت باطلها ويؤت بحقها ... عندي ولم يفخر علي كرامها