والتعريف في ( الوسواس ) تعريف الجنس وإطلاق ( الوسواس ) على معنييه المجازي والحقيقي يشمل الشياطين التي تلقي في أنفس الناس الخواطر الشريرة قال تعالى ( فوسوس إليه الشيطان ) ويشمل الوسواس كل من يتكلم كلاما خفيا من الناس وهم أصحاب المكائد والمؤامرات المقصود منها إلحاق الأذى من اغتيال نفوس أو سرقة أموال أو إغراء بالضلال والإعراض عن الهدى لأن شأن مذاكرة هؤلاء بعضهم مع بعض أن تكون سرا لئلا يطلع عليها من يريدون الإيقاع به وهم الذين يتربصون برسول الله A الدوائر ويغرون الناس بأذيته .
A E والخناس : الشديد الخنس والكثيرة . والمراد أنه صار عادة له . والخنس والخنوس : الاختفاء . والشيطان يلقب ب ( الخناس ) لأنه يتصل بعقل الإنسان وعزمه من غير شعور منه فكأنه خنس فيه وأهل المكر والكيد والتختل خناسون لأنهم يتحيلون غفلات الناس ويتسترون بأنواع الحيل لكيلا يشعر الناس بهم .
فالتعريف في ( الخناس ) على وزن تعريف موصوفه ولأن خواطر الشر يهم بها صاحبها فيطرق ويتردد ويخاف تبعاتها ويزجره النفس اللوامة أو يزعه وازع الدين أو الحياء أو خوف العقاب عند الله أو عند الناس ثم تعاوده حتى يطمئن لها ويرتاض بها فيصمم على فعلها فيقترفها فكأن الشيطان يبدو له ثم يختفي ثم يبدو ثم يختفي حتى يتمكن من تدليته بغرور .
ووصف ( الوسواس الخناس ) ب ( الذي يوسوس في صدور الناس ) لتقؤيب تصوير الوسوسة كي يتقيها المرء إذا اعترته لخفائها وذلك بأن بين أن مكان إلقاء الوسوسة هو صدور الناس وبواطنهم فعبر بها عن الإحساس النفسي كما قال تعالى ( ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) وقال تعالى ( إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ) . وقال النبي A " الأثم ما حاك في الصدر وتردد في القلب " فغاية الوسواس من وسوسته بثها في نفس المغرور والمشبوك في فخه فوسوسة الشيطانين اتصالات جاذبية النفوس نحو داعية الشياطين وقد قربها النبي A في آثار كثيرة بأنواع من التقريب منها " أنها كالخراطيم يمدها الشيطان إلى قلب الإنسان " وشببها مرة بالنفث ومرة بالإبساس . وفي الحديث " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما " .
وإطلاق فعل ( يوسوس ) على هذا العمل الشيطاني مجاز إذ ليس للشيطان كلام في باطن الإنسان . وأما إطلاقه على تسويل الإنسان لغيره عمل السوء فهو حقيقة . وتعلق المجرور من قوله ( في صدور الناس ) بفعل ( يوسوس ) بالنسبة لوسوسة الشيطان تعلق حقيقي وأما بالنسبة لوسوسة الناس فهو مجاز عقلي لأن وسوسة الناس سبب لوقوع أثرها في الصدور فكان في كل من فعل ( يوسوس ) ومتعلقه استعمال اللفظين في الحقيقة والمجاز .
و ( من ) في قوله ( من الجنة والناس ) بيانية بينت ( الذي يوسوس في صدور الناس ) بأنه جنس ينحل باعتبار إرادة حقيقته ومجازه إلى صنفين : صنف من الجنة وهو أصله وصنف من الناس وما هو إلا تبع وولي للصنف الأول وجمع الله هذين الصنفين في قوله ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) .
ووجه الحاجة إلى هذا البيان خفاء ما ينجر من وسوسة نوع الإنسان لأن الأمم اعتادوا أن يحذرهم المصلحون من وسوسة الشيطان وربما لا يخطر بالبال أن من الوسواس ما هو شر من وسواس الشياطين وهو وسوسة أهل نوعهم وهو أشد خطرا وهم بالتعوذ منهم أجدر لأنهم منهم أقرب وهو عليهم أخطر وأنهم في وسائل الضر أدخل وأقدر .
ولا يستقيم أن يكون ( من ) بيانا للناس إذ لا يطلق اسم ( الناس ) على ما يشمل الجن ومن زعم ذلك فقد أبعد