وقدم ( الجنة ) على ( الناس ) هنا لأنهم أصل الوسواس كما علمت بخلاف تقديم الإنس على الجن في قوله تعالى ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ) لأن خبثاء الناس أشد مخالطة للأنبياء من الشياطين لأن الله عصم أنبيائه من تسلط الشياطين على نفوسهم قال تعالى ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) فإن الله أراد إبلاغ وحيه لأنبيائه فزكى نفوسهم من خبث وسوسة الشياطين ولم يعصمهم من لحاق ضر الناس بهم والكيد لهم لضعف خطره قال تعالى ( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ولكنه ضمن لرسله النجاة من كل ما يقطع إبلاغ الرسالة إلى أن يتم مراد الله .
والجنة : اسم جمع جني بياء النسب إلى نوع الجن فالجني الواحد من نوع الجن كما يقال : إنسي للواحد من الإنس .
وتكرير كلمة ( الناس ) في هذه الآيات المرتين الأوليين باعتبار معنى واحد إظهار في مقام الإضمار لقصد تأكيد ربوبية الله تعالى وملكه وإلهيته للناس كلهم كقوله تعالى ( يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ) .
وأما تكريره المرة الثالثة بقوله ( في صدور الناس ) فهو إظهار لأجل بعد المعاد .
A E وأما تكريره المرة الرابعة بقوله ( من الجنة والناس ) فلأنه بيان لأحد صنفي الذي يوسوس في صدور الناس وذلك غير ما صدق كلمة ( الناس ) في المرات السابقة .
والله يكفينا شر الفريقين وينفعنا بصالح الثقلين .
تم تفسير ( سورة الناس ) وبه تم تفسير القرآن العظيم .
يقول محمد الطاهر ابن عاشور : قد وفيت بما نويت وحقق الله ما ارتجيت فجئت بما سمح به الجهد من بيان معاني القرآن ودقائق نظامه وخصائص بلاغته مما اقتبس الذهن من أقوال الأئمة واقتدح من زند لإنارة الفكر وإلهاب الهمة وقد جئت بما أرجو أن أكون وفقت فيه للإبانة عن حقائق مغفول عنها ودقائق ربما جلت وجوها ولم تجل كنها فإن هذا منال لا يبلغ العقل البشري إلى تمامه ومن رام ذلك فقد رام والجوزاء دون مرامه .
وإن كلام رب الناس حقيق بأن يخدم سعيا على الرأس وما أدى هذا الحق إلا قلم المفسر يسعى على القرطاس وإن قلمي طالما استن بشوط فسيح وكم زجر عند الكلال والإعياء زجر المنيح وإذ قد أتى على التمام فقد حق له أن يستريح .
وكان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف . فكانت مدة تأليفه تسعا وثلاثين سنة وستة أشهر . وهي حقبة لم تخلو من أشغال صارفة ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة ومنازع بقريحة شاربة طورا وطورا غارفة وما خلا ذلك من تشتت بال وتطور أحوال مما لم تخلو عن الشكاية منه الأجيال ولا كفران الله فإن نعمه أوفى ومكاييل فضله علي لا تطفف ولا تكفا .
وأرجو منه تعالى لهذا التفسير أن ينجد ويغور وأن ينفع به الخاصة والجمهور ويجعلني به من الذين يرجون تجارة لن تبور .
وكان تمامه بمنزلي ببلد المرسى شرقي مدينة تونس وكتب محمد الطاهر ابن عاشور