وجملة القول هنا : أنه لما كان الأصح أن السورة مكية فإن النبي A مأمون من أن يصيبه شر النفاثات لأن الله أعاذه منها .
A E وأما السحر فقد بسطنا القول فيه عند قوله تعالى ( يعلمون الناس السحر ) في سورة البقرة .
وإنما جعلت الاستعاذة من النفاثات لا من النفث فلم يقل : إذا نفثن في العقد للإشارة إلى أن نفثهن في العقد ليس بشيء يجلب ضرا بذاته وإنما يجلب الضر النافثات وهن متعاطيات السحر لأن الساحر يحرص على أن لا يترك شيئا مما يحقق له ما يعلمه لأجله إلا احتال على إيصاله إليه فربما له في طعامه أو شرابه عناصر مفسدة للعقل أو مهلكة بقصد أو غير قصد أو قاذورات يفسد اختلاطها بالجسد بعض عناصر انتظام الجسم يختل بها نشاطه أو إرادته وربما أغرى به من يغتاله أو من يتجسس على أحواله ليرى لمن يسألونه السحر سحره لا يختلف ولا يخطئ .
وتعريف ( النفاثات ) تعريف الجنس وهو في معنى النكرة لا تفاوت في المعنى بينه وبين قوله ( ومن شر غاسق ) وقوله ( ومن شر حاسد ) . وإنما أوثر لفظ ( النفاثات ) بالتعريف لأن التعريف في مثله للإشارة إلى أنه حقيقة معلومة للسامع مثل التعريف في قولهم " أرسلها العراك " كما تقدم في قوله تعالى ( الحمد لله ) في سورة الفاتحة .
وتعريف ( النفاثات ) باللام إشارة إلى أنهن معهودات بين العرب .
( ومن شر حاسد إذا حسد [ 5 ] ) عطف شر الحاسد على شر الساحر المعطوف على شر الليل لمناسبة بينه وبين المعطوف عليه مباشرة وبينه وبين المعطوف عليه بواسطته فإن مما يدعو الحاسد إلى أذى المحسود أن يتطلب حصول أذاه لتوهم أن السحر يزيل النعمة التي حسده عليها ولأن ثوران وجدان الجسد يكثر في وقت الليل لأن الليل وقت والخلوة وخطور الخواطر النفسية والتفكر في الأحوال الحافة بالحاسد والمحسود .
والحسد : إحساس نفساني مركب من استحسان نعمة في الغير بتلك الحالة أو على مشاركته الحاسد فيها . وقد يطلق اسم الحسد على الغبطة مجازا .
والغبطة : تمني المرء أن يكون له من الخير مثل ما لمن يروق حاله في نظره وهو محمل الحديث الصحيح " لا حسد إلا في اثنتين ) أي لا غبطة أي لا تحقق الغبطة إلا في تينك الخصلتين وقد بين شهاب الدين القرافي الفرق بين الحسد والغبطة في الفرق الثامن والخمسين والمائتين .
وقد يغلب الحسد صبر الحاسد وأناته فيحمله على إيصال الأذى للمحسود بإتلاف أسباب نعمته أو إهلاكها رأسا . وقد كان الحسد أول أسباب الجنايات في الدنيا إذ حسد أحد ابني آدم أخاه على أن قبل قرباه ولم يقبل من الآخر كما قصه الله تعالى في سورة العقود .
وتقييد الاستعاذة من شره بوقت ( إذا حسد ) لأنه حينئذ يندفع إلى عمل الشر بالمحسود حين يجيش الحسد في نفسه فتتحرك له الحيل والنوايا لإلحاق الضر به . والمراد من الحسد في قوله ( إذا حسد ) حسد خاص وهو البالغ أشد حقيقته فلا إشكال في تقييد الحسد ب ( حسد ) وذلك قول عمرو بن معد يكرب : .
وبدت لميس كأنها ... بدر السماء إذا تبدى أي تجلى واضحا منيرا .
ولما كان الحسد يستلزم كون المحسود في حالة حسنة كثر في كلام العرب الكناية عن السيد بالمحسود وبعكسه الكناية عن سيئ الحال بالحاسد وعليه قول أبي الأسود : .
حسدوا الفتى أن لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم .
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسدا وبغضا إنه لمشوم وقول بشارة بن برد : .
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا .
فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد بسم الله الرحمن الرحيم .
؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ ؟ سورة الناس .
تقدم عند تفسير أول سورة الفلق أن النبي A سمى سورة الناس ( قل أعوذ برب الناس )