والفلق : الصبح وهو فعل بمعنى مفعول مثل الصمد لأن الليل شبه بشيء مغلق ينفلق عن الصبح وحقيقة الفلق : الانشقاق عن باطن شيء واستعير لظهور الصبح بعد ظلمة الليل . وهذا مثل استعارة الإخراج لظهور النور بعد الظلام في قوله تعالى ( وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ) واستعارة السلخ له في قوله تعالى ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) .
ورب الفلق : هو الله لأنه الذي خلق أسباب ظهور الصبح وتخصيص وصف الله بأنه رب الفلق دون وصف آخر لأن شرا كثيرا يحدث في الليل من لصوص وسباع وذوات سموم وتعذر السير وعسر النجدة وبعد الاستغاثة واشتداد آلام المرضى حتى ظن بعض أهل الضلالة الليل إله الشر .
والمعنى : أعوذ بفالق الصبح منجاة من شرور الليل فإنه قادر على أن ينجيني في الليل من الشر كما أنجي أهل الأرض كلهم بأن خلق لهم الصبح فوصف الله بالصفة التي فيها تمهيد للإجابة .
( ومن شر غاسق إذا وقب [ 3 ] ) عطف أشياء خاصة هي مما شمله عموم ( من شر ما خلق ) وهي ثلاثة أنواع من أنواع الشرور : أحدهما : وقت يغلب وقوع الشر فيه وهو الليل .
والثاني : صنف من الناس أقيمت صناعتهم على إرادة الشر بالغير .
والثالث : صنف من الناس ذو خلق من شأنه أن يبعث على إلحاق الأذى بمن تعلق به .
وأعيدت كلمة ( من شر ) بعد حرف العطف في هذه الجملة . وفي الجملتين المعطوفتين عليها مع أن حرف العطف مغن عن إعادة العامل قصدا لتأكيد الدعاء تعرضا للإجابة . وهذا من الابتهال فيناسبه الإطناب .
والغاسق : وصف الليل إذا اشتدت ظلمته يقال : غسق الليل يغسق ذا أظلم قال تعالى ( إلى غسق الليل ) . فالغاسق صفة لموصوف محذوف لظهوره من معنى وصفه مثل الجواري في قوله تعالى ( ومن آياته الجواري في البحر ) وتنكير ( غاسق ) للجنس لأن المراد جنس الليل .
وتنكير ( غاسق ) في مقام الدعاء يراد به العموم لأن مقام الدعاء يناسب التعميم . ومنه قول الحريري في المقامة الخامسة : " يا أهل ذا المعنى وقيتم ضرا " أي وقيتم كل ضر .
وإضافة الشر إلى غاسق من إضافة الاسم إلى زمانه على معنى " في " كقوله تعالى ( بل مكر الليل والنهار ) .
والليل : تكثر فيه حوادث السوء من اللصوص والسباع والهوام كما تقدم آنفا .
وتقييد ذلك بظرف ( إذا وقب ) أي إذا اشتد ظلمته لأن ذلك وقت يتحينه الشطار وأصحاب الدعارة والعيث لتحقق غلبة الغفلة والنوم على الناس فيه يقال : أغدر الليل لأنه إذا اشتد ظلامه كثر الغدر فيه فعبر عن ذلك بأنه أغدر أي صار ذا غدر على طريق المجاز العقلي .
ومعنى ( وقب ) دخل وتغلغل في الشيء ومنه الوقبة : اسم النقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء ووقبت الشمس غابت خص بالتعوذ أشد أوقات الليل توقعا لحصول المكروه .
( ومن شر النفاثات في العقد [ 4 ] ) هذا النوع الثاني من الأنواع الخاصة المعطوفة على العام من قوله ( من شر ما خلق ) . وعطف ( شر النفاثات في العقد ) على شر الليل لأن الليل وقت يتحين فيه السحرة إجراء شعوذتهم لئلا يطلع عليهم أحد .
والنفث : نفخ مع تحريك اللسان بدون إخراج ريق فهو أقل من التفل يفعله السحرة إذا وضعوا علاج سحرهم في شيء وعقدوا عليه عقدا ثم نفثوا عليها .
فالمراد ب ( النفاثات في العقد ) : النساء الساحرات وإنما جيء بصفة المؤنث لأن الغالب عند العرب أن يتعاطى السحر النساء لأن نساءهم لا شغل لهن بعد تهيئة لوازم الطعام والماء والنظافة فلذلك يكثر انكبابهن على مثل هاته السفاسف من السحر والتكهن ونحو ذلك فالأوهام الباطلة تتفشى بينهن وكان العرب يزعمون أن الغول ساحرة من الجن . وورد في خبر هجرة الحبشة أن عمارة ابن الوليد بن المغيرة اتهم بزوجة النجاشي وأن النجاشي دعا له السواحر فنفخن في إحليله فصار مسلوب العقل هائما على وجهه ولحق بالوحوش والعقد : جمع عقدة وهي ربط في خيط أو وتر يزعم السحرة أنه سحر المسحور يستمر ما دامت تلك العقدة معقودة ولذلك يخافون من حلها فيدفنونها أو يخبئونها في محل لا يهتدى إليه . أمر الله رسوله A بالاستعاذة من شر السحرة لأنه ضمن له أن لا يلحقه شر السحرة وذلك إبطال لقول المشركين في أكاذيبهم إنه مسحور قال تعالى ( وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا )