فإن رسول الله A لم يكن يخلو عن تسبيح الله فأريد تسبيح يقارن الحمد على ما أعطيه من النصر والفتح ودخول الأمة في الإسلام .
وعطف الأمر باستغفار الله تعالى على الأمر بالتسبيح مع الحمد يقتضي أنه من حيز جواب ( إذا ) وأنه استغفار يحصل مع الحمد مثل ما قرر في ( فسبح بحمد ربك ) فيدل على أنه استغفار خاص لأن الاستغفار الذي يعم طلب غفران التقصير ونحوه مأمور به من قبل وهو من شأن النبي A فقد قال " إنه ليعان على قلبي فاستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة " فكان تعليق الأمر بالتسبيح وبالاستغفار على حصول النصر والفتح إيماء إلى تسبيح واستغفار يحصل بهما تقرب لم ينو من قبل ؟ وهو التهيؤ للقاء الله وأن حياته الدنيوية أوشكت على الانتهاء وانتهاء أعمال الطاعات والقربات التي تزيد النبي A في رفع درجاته عند ربه فلم يبق إلا أن يسأل ربه التجاوز عما يعرض له من اشتغال ببعض الحظوظ الضرورية للحياة أو من اشتغال بمهم من أحوال الأمة يفوته بسببه أمر آخر هو أهم منه مثل فداء أسرى بدر مع فوات مصلحة استئصالهم الذي هو أصلح للأمة فعوتب عليه رسول الله A بقوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى ) الآية أو من ضرورات الإنسان كالنوم والطعام التي تنقص من حالة شبهه بالملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فكان هذا إيذانا باقتراب وفاة رسول الله A بانتقاله من حياة تحمل أعباء الرسالة إلى حياة أبدية في العلويات الملكية .
والكلام من قبيل الكناية الرمزية وهي لا تنافي إرادة المعنى الصريح بأن يحمل الأمر بالتسبيح والاستغفار على معنى الإكثار من قول ذلك . وقد دل ذوق الكلام بعض ذوي الأفهام النافذة من الصحابة على هذا المعنى وغاصت عليه مثل أبي بكر وعمر والعباس وابنه عبد الله وابن مسعود فعن مقاتل " لما نزلت قرأها النبي A على أصحابه ففرحوا واستبشروا وبكى العباس فقال له النبي A : ما يبكيك يا عم ؟ قال : نعيت إليك نفسك . فقال : إنه لكما تقول " . وفي رواية " نزلت في منى فبكى عمر والعباس فقيل لهما فقالا : فيه نعي رسول الله فقال النبي A : صدقتما نعيت إلي نفسي " .
وفي صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس " كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فوجد بعضهم من ذلك فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم . قال : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن هذه السورة ( إذا جاء نصر الله والفتح ) فقالوا : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه فقال : ما تقول يابن عباس ؟ قلت : ليس كذلك ولكن أخبر الله نبيه حضور أجله فقال : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . فذلك علامة موتك ؟ فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول فهذا فهم عمر والعباس وعبد الله ابنه .
A E وقال في الكشاف : روي أنه لما نزلت خطب رسول الله A فقال " إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله D . فعلم أبو بكر فقال : فديناك بأنفسنا وأموالنا وآبائنا وأولادنا " اه .
قال ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف : الحديث متفق عليه إلا صدره دون أوله من كونه كان عند نزول السورة اه . ويحتمل أن يكون بكاء أبي بكر تكرر مرتين أولاهما عند نزول سورة النصر كما في رواية الكشاف والثانية عند خطبة النبي A في مرضه .
وعن ابن مسعود أن هذه السورة " تسمى سورة التوديع " أي لأنهم علموا أنها إيذان بقرب وفاة الرسول A .
وتقديم التسبيح والحمد على الاستغفار لأن التسبيح راجع إلى وصف الله تعالى بالتنزه عن النقص وهو يجمع صفات السلب فالتسبيح متمحض لجانب الله تعالى ولأن الحمد ثناء على الله لإنعامه وهو أداء العبد ما يجب عليه الشكر المنعم فهو مستلزم إثبات صفات الكمال لله التي هي منشأ إنعامه على عبده فهو جامع بين جانب الله وحظ العبد وأما الاستغفار فهو حظ للعبد وحده لأنه طلبه الله أن يعفو عما يؤاخذه عليه